الجمعة , أكتوبر 11 2024

إزدواجية الفتوى والسلوك: الإشكالية الفقهية في الحج الواحد وعيد الاضحى المتعدد

ازدواجية الفتوى والسلوك:

الإشكالية الفقهية في الحج الواحد وعيد الأضحى المتعدد

العلامة المجتهد السيد علي الأمين

 

المستقبل – السبت 5-1-2008 – العدد 2839

 

لقد أخذت مسألة البحث عن رؤية الهلال  في السّنوات الأخيرة، بالخروج عن دائرة النّقاش الفقهي النّظري المعتاد بين الفقهاء، وبدأت بالانعكاس السّلبي على بعض الجوانب المهمّة والعمليّة من حياة المسلمين تتجاوز آثار الخلاف فيها على بداية شهر رمضان وعيد الفطر المبارك، إلى الخلاف على مسألة أكثر أهميةً وارتباطاً بجماعاتهم، وهي مسألة الحجّ الذي يجتمع فيه المسلمون من كلّ الأقطار في مكان واحد لأداء عبادة الحجّ الّتي تتجلّى فيها مظاهر الوحدة والجماعة كالوقوف في عرفات يوم التاسع من شهر ذي الحجّة وما يتبعه من المناسك في وادي منى وعيد الأضحى في اليوم العاشر منه.

وقد وصل الاختلاف في التوقيت، إلى حدّ تشكيك بعض المسلمين بصحّة عبادة الحجّ، ويعود السّبب في ذلك إلى تعدّد الجهات والمرجعيّات الّتي تتصدّى لتحديد أوائل الشّهور القمريّة وإلى اعتماد بعضهم على آليّات جديدة في التّحديد مستبقاً دعوى الرؤية الشّرعيّة ورأي الهيئة المشرفة على شؤون الحجّ والّتي كان الأمر موكولاً إليها منذ القدم تنظيماً للأمر ومنعاً للاختلاف وتعزيزاً لروح الوحدة والائتلاف بين الحجيج خصوصاً وبين المسلمين عموماً، فلا يصحّ أن تأتي كلّ جماعة من الحجيج من بلدها ومعها موعد للحج يختلف عن موعد جماعة أخرى قادمة من بلد آخر وعلى هذا كانت سيرة السّلف الصالح في كلّ العهود الماضية.

ومن الآليات الجديدة التي يعتمدها – بعض الأساتذة المعاصرين خلافاً للمشهور بين الفقهاء إن لم يكن مجمعاً عليه – آراء علماء الفلك وحساباتهم الّتي ينتج عنها إلغاء الاعتماد على الرؤية البشريّة لأن الحسابات الفلكيّة تكون نتائجها سابقة على الرؤية البشريّة في أغلب الأحيان كما عرفت في البحث السابق ولذلك بدأ هذا البعض يعلن عن بداية الشهور القمريّة قبل أسبوع أو أكثر من الموعد الشّرعي لالتماس الهلال ممّا يؤدّي إلى وقوع الخلاف المسبق مع دعاوى الرؤية المتأخرة وإلى التشكيك في مواعيد عبادة الحج.

ومن عجائب الأمور، أنّ بعضهم يمارس عملاً غير معقول من هذه الناحية، حيث يفتي لأتباعه بالوقوف مع المسلمين في عرفات في يومٍ واحد، مع إظهار اختلافه المسبق حول موعد الوقوف وعيد الأضحى، اعتماداً على الحسابات الفلكيّة السّابقة، الّتي يعتبرها مقدَّمةً على الرؤية الشرعية عند وقوع المعارضة بينهما.

 وتأكيدا على إشاعة اجواء الشكّ والاختلاف بين الحجّاج وعموم المسلمين، يقوم هذا البعض بأداء صلاة عيد الأضحى في بلده بعد انتهاء عيد الحجاج بيوم أو يومين، وقد يكون ذلك بعد ثلاثة أيام  أحياناً،حسب اختلاف دعاوى الرؤية مع حسابات الفلك.

ووجه العجب والغرابة في هذا العمل، يبدو في الجمع بين النقائض والأضداد. فكيف نحافظ على مظهر الوحدة والاتفاق بين المسلمين، على ركن واجب من أركان الاسلام، و هو الحج، وفي نفس الوقت، نظهر الاختلاف بين المسلمين على أمر غير واجب يجوز تركه، كصلاة العيد، التي يفتي نفس هؤلاء باستحبابها وعدم وجوبها!!

ثمّ ،ماهي الفائدة من التّصدّي لتعيين موعد تلك المناسبة الدينية، مع إفتائه بالوقوف مع المسلمين في يوم واحدٍ، ومع وجود الهيئة الناظمة لشؤون الحج، والّتي يكون عمل الحجّاج حسب مواعيدها؟!

مع أنّ هذا السّباق على تحديد مواعيد الحج ليس واجباً في حدّ نفسه، فإن الله يأمر باستباق الخيرات؟! وهل يحصل من هذا التسابق على إعلان أوّل الشّهر فلكيّاً، سوى توليد الشكّ في نفوس الكثيرين من الناس حول مواقيت عبادتهم وصحّتها، وهم الّذين لم يجتمع لديهم المال اللازم لها إلاّ بشقّ الأنفس، وقطع المسافات الطّويلة؟! وما الّذي يحصل في بلاد المسلمين الأخرى، عندما تقام صلاة العيد بعد يومين من عيد الأضحى للحجّاج، غير المزيد من وحشة المسلمين بعضهم من البعض الآخر، وإيجاد المناخ الملائم للانقسامات و التّشرذم؟!

فأين هو اليسر في كلّ ذلك و الله تعالى يقول: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

 وأين هو الاتّحاد في ذلك خصوصاً من دعاة الوحدة بين المسلمين؟! والله تعالى يقول: ( إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون).

وفي مثل هذا الاختلاف المذموم  يقول الامام علي عليه السلام:

 ( ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الامام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً – وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! – أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه!.).

 

وعلى كلّ حال، فإنّ الواجب متابعة المسلمين في أداء مناسك الحج، ذات الوقت المحدّد لعموم المسلمين، كما هو الحال في يومي عرفة وعيد الأضحى، وفقا لهيئة القضاة المكلّفة بالتّعيين ويحكم بصحّة الحجّ شرعاً، لعدم العلم بمخالفة الهيئة المذكورة للتّوقيت الواقعي وعلى هذا جرت سيرة الأئمّة عليهم السّلام. وقد ذكر السيّد الخوئي قدّس سرّه أنّ الأئمّة كانوا يحجّون في أغلب السّنوات وكان أصحابهم والتّابعون لهم يحجّون أيضا مع سائر المسلمين وكان التوقيت والتّحديد ليومي عرفة وعيدي الأضحى والفطر بيد غيرهم في ذلك الزّمان واستمرّ الأمرعلى ذلك طيلة حياة الأئمة عليهم السّلام، ولم ينقل عنهم التشكيك في صحّة الحجّ ،ولم يسألهم أحد من أصحابهم عن إعادة الحجّ أو الوقوف في يومٍ آخر، مع أنّ الاختلاف بالتوقيت كان يحصل في أكثر هذه السّنوات، ولم يطلبوا من أصحابهم الاحتياط في ذلك، ولا  هم أنفسهم قاموا بهذا الأمر، ولم يصلّوا صلاة عيد الأضحى في الحجّ أو المدينة المنوّرة في يوم آخر، ولم يتصدّوا للإعلان الذي يزرع الخلاف بين المسلمين. وهذه السّيرة القطعيّة من الأئمّة عليهم السّلام، تكشف كشفاً قطعيّاً عن صحّة الحجّ ولزوم متابعة سائر المسلمين في ذلك.

وممّا يشهد على وقوع الاختلاف في التوقيت في ذلك الزّمان، وعلى لزوم تجاوزه، وعدم الاصغاء إلى تلك التشكيكات، قول الإمام الباقر عليه السّلام عندما سأله أبو الجارود بقوله:

( إنّا شككنا في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلمّا دخلت على أبي جعفر عليه السلام وكان بعض أصحابنا يضحّي فقال: الفطر يوم يفطر النّاس والأضحى يوم يضحّي النّاس و الصّوم يوم يصوم النّاس).

 

وعن الإمام موسى بن جعفر (ع) :

عن الرّجل يرى الهلال في (آخر) شهر رمضان وحده لا يبصره غيره أله أن يصوم؟ قال : إذا لم يشكّ فليفطر وإلاّ فليصم مع النّاس).

 

وفي رواية أخرى عن أوّل الشّهر:

(إذا لم يشكّ فيه فليصم وحده وإلاّ يصوم مع النّاس إذا صاموا).

وعن الامام الصّادق عليه السّلام قال عيسى بن أبي منصور:

 ( كنت عند أبي عبد الله (ع) في اليوم الذي يشكّ فيه، فقال: يا غلام إذهب فانظر هل صام الأمير أم لا؟ فذهب ثمّ عاد، فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدّينا معه).

 

والرّوايات في ذلك كثيرة. والذي يظهر بوضوح من هذه الروايات وغيرها أن الائمة عليهم السلام لم يكونوا يقومون بالتّصدّي لدور تعيين أوائل الشّهور القمريّة وتحديد المناسبات الدّينيّة اكتفاءاً بالجهات المعنيّة بهذا الأمر في زمانهم حتّى لا يقع الإختلاف بين المسلمين على مناسبات يفترض أن تكون جامعة لهم على رأي واحدٍ ينعكس في سلوك موحّدٍ يبعد عنهم مظاهر الاختلاف في الدّين لأنّ ما يفوت على المسلمين من مصلحة بسبب الاختلاف هو أكثر ممّا يفوتهم من مصلحة التوقيت الواقعي على تقدير المخالفة معه وتكون مصلحة التوافق بين المسلمين أشبه بالمصلحة السّلوكيّة التي يتدارك بها مخالفة الواقع على تقدير حصولها كما يقول بعض المحققين في علم أصول الفقه.

هذا إذا كانت المصلحة الفائتة واجبة التّدارك فتكون المصلحة السّلوكيّة هي العوض والبديل عنها وأمّا إذا كانت المصلحة الفائتة غير واجبة التّدارك كما هو الحال في غير الواجبات كصلاة عيد الأضحى، فإنّ مصلحة الإتفاق بين المسلمين تكون هي الأولى بالتّقديم بطريقٍ أولى، دون الحاجة إلى افتراض مصلحة سلوكية لازمة لتعويض الفائت الّذي لا يجب تداركه وتفصيل الكلام في ذلك متروك إلى محلّه من علم الأصول.

وإذا وجب الوقوف في عرفات مع سائر المسلمين في يوم واحد، فلا يجوز للحاج أن يقف في يوم آخر مخالفا لهم. وقد ذكر السيّد الخوئي أنه يحرم شرعاً الوقوف في يوم آخر غير اليوم الذي وقف فيه المسلمون في عرفات. ومن المعروف أنّ الحرام، لا يقع عبادة بحالٍ من الأحوال، فإنّ الله لا يطاع من حيث يُعصى ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وأخيراً، فإنّنا نجدّد دعوتنا و اقتراحنا على ذوي الشّأن، تشكيل غرفة عمليّات مشتركة من قبل دول المؤتمر الاسلامي، ويكون مركزها في مكّة المكرّمة، ويجتمع فيها ممّثلون من ذوي الخبرة، وتكون هذه الغرفة الممثّلة للجميع، هي المرجع الوحيد في تحديد المناسبات الدينية، و بذلك يمكن أن نضع حدّاً لكلّ هذه الاختلافات حول مسألة الهلال، الّتي لم يعد من المقبول في هذا العصر، أن يحصل فيها مثل هذا الاختلاف مع وجود وسائل التّواصل الّتي تجعل من العالم كالقرية الواحدة من حيث إمكان المعرفة والاطّلاع وجمع الشّهادات من مختلف البلدان وتوثيقها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.