الحوار الإسلامي الإسلامي: الرؤية والمنهج والمفاهيم
كلمة العلاّمة السيد علي الأمين في مؤتمر الحوار الإسلامي الإسلامي( أمة واحدة ومصير مشترك ) برعاية جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة و ودعوة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومجلس حكماء المسلمين والأزهر الشريف بحضور شيخ الأزهر ودعوة أكثر من ٤٠٠ عالم من حول العالم.
—————
بسم الله الرحمن الرحيم
الحوار الإسلامي الإسلامي
“الرؤية والمنهج والمفاهيم”
العلاّمة السيد علي الأمين
عندما يكون موضوع البحث “الحوار الإسلامي الإسلامي” فهذا يعني منذ البداية وجود تعددية بين المسلمين في الرأي في قضايا مرتبطة بالدين الإسلامي. وهو يعني أيضاً أن الأطراف التي يجمعها الحوار تنطلق من المشترك الذي يجمع بينهم، وهو الإسلام.
وقد أحسنت لجنة المؤتمر في اختيار العنوان الذي يجمع بين المتحاورين والذي ينطلقون منه في حوارهم بعيداً عن العناوين الطائفية والمذهبية.
وهذه التعددية في الرأي نشأت من الدّعوة الصّريحة للتمسّك بالكتاب الكريم والسنّة النّبويّة الشريفة، لأنها دعوة تستبطن معنى الاجتهاد في فهم الكتاب والسنّة والعودة إليهما في معرفة أحكام الوقائع والحوادث. ومن المعلوم أنّ الأنظار ليست واحدة في فهم النّصوص القرآنية غير المقطوع بدلالتها، ولا في وسائل إثبات أحاديث السنّة المنقولة بأخبار الآحاد وأسانيدها، ولذلك قد تختلف الآراء في النتائج والتّفريعات. وهذه التعدّدية راسخة في طبيعة الإجتهاد الّذي تطلبه الشريعة، فلم يعد الإجتهاد بمعنى القول بلا دليل وإنّما هو بمعنى البحث عن الأدلّة المعتبرة على حكم المسائل.
ومن خلال تعدد الآراء تعددت المدارس الفقهية وأصحابها، وهي التي أطلق عليها فيما بعد إسم المذاهب التي أسست تلك المدارس التي تعددت آراء أصحابها ومؤسسيها والتابعين لها.
والخلاصة أن تعدد الآراء والإجتهادات في فهم النصوص الدينية يعتبر من الأمور الطبيعية ولذلك ظهر في كل الشرائع السماوية وظهر أيضاً في القوانين الوضعية باختلاف تفسيراتها وتأويلاتها بين الحقوقيين والمحامين. وقد تعددت المدارس ومناهج البحث وطرق الإستنباط بين العلماء وأطلق عليها فيما بعد إسم المذاهب وهي في الحقيقة مذاهب تعبر عن آراء أصحابها المشهورين من العلماء في معرفة أحكام الشريعة الإسلامية وكانوا جميعاً من أئمة الإسلام في الفقه ولم تكن لهم نسبة لغير الإسلام كما كانت عليه حال الصحابة حيث لم يكن في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام سنّة ولا شيعة بالمعنى المذهبي، كما قال الله تعالى (ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل). فالمسلمون جميعاً على اختلاف مذاهبهم هم أمّة واحدة بما هم مؤمنون برسالة الإسلام ، وتصنيفهم إلى سنّة وشيعة وغير ذلك بالمعنى المذهبي المتأخر بما هم أتباع المدارس الفقهية التي أطلق عليها إسم المذاهب نسبة لأصحابها من الأئمة والفقهاء.
وفي هذا السياق نقول قد تعرض بعض الفقهاء كالشاطبي وغيره إلى البحث في مقاصد الشريعة الإسلامية وتبعهم على ذلك جملة من أهل الفكر والقلم.
وأصل البحث فيها منطلق من الإعتقاد بأن وراء الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات مصالح تعود على العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولا شك في وجود مقاصد وأغراض من الأحكام الشرعية الجزئية والكلية لامتناع العبث في ساحة التشريع كامتناعه في ساحة الخلق والتكوين بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى. ولكن البحث عندهم في هذا الباب كان عن المقاصد الكلية التي ترجع إليها تلك التشريعات بمقاصدها الجزئية. وقد أنهاها الشاطبي وغيره إلى خمسة مقاصد كلية هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل.
وهذا التعداد ناشئ من تتبع أحكام الشريعة ومحاولة فهم الأسباب الداعية إليها، فوجدوا أنها ترجع بمجموعها إلى هذه المقاصد الخمسة. ونحن قد ذكرنا في بعض المقالات أن الحصر بهذه الخمسة لا دليل عليه سوى استقراء موارد اهتمام الشريعة، وهذا لا يمنع من إضافة أمور أخرى إليها كالحرية والعدالة وحقوق الإنسان من منظور إسلامي إذا ساعد عليها الدليل الإستقرائي بمعيار الإهتمام المتقدم.
وقد اقترحنا في بعض الأبحاث أن تكون وحدة الأمة من مقاصد الشريعة الأساسية باعتبار شدّة اهتمام الشريعة بها كما يستفاد من نصوص عديدة، وهذا مما يجعلنا نعيد النظر في كثير من الأحكام التكفيرية التي تقسم المسلمين شيعاً وأحزاباً. وقد غدا الفقه المقاصدي منهجاً عند كثيرين في المباحث الفقهية، وهو يساعد على تجاوز منهج التّعبّد بحرفية النصوص للوصول إلى الجوهر والمضمون. ولعلّ هذا الذي ذكرناه هو ما يقصده بعضهم من التعبير عند طرح رواية صحيحة سنداً بحسب الظاهر بأنها مخالفة لروح الشريعة تارة، وبأن العمل بها مستلزم لنقض غرض المشرع تارة اخرى، فإن روح الشريعة هي عبارة عن المقاصد والغايات والأهداف التي يراد تحقيقها والوصول إليها، وهو لا يكون بتشريعات مخالفة لها، فإن العاقل لا يعاكس أهدافه ولا يتخلّى عنها! فكيف بشريعة الله خالق العقل والعقلاء؟!. وعليه، فإن الحوار الإسلامي الإسلامي ينطلق من الدين الواحد الذي يجمع بين المتحاورين، وهو الإسلام الذي يجمع بينهم، ولا يفرق بينهم، والذي يرفض الأحكام التي تباعد بينهم بعد حكمه بوحدتهم.
والناظر في حياة الأمم والشعوب والمجتمعات يدرك ان الاختلاف حقيقة قائمة في لغاتها وعاداتها وتقاليدها وفي اشكالها وألوانها.
وهذا الاختلاف هنا بمعنى المغاير الشامل للأفراد أيضاً حيث ان لكل فرد وجوداً خاصاً به يمتاز به عن غيره.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الاختلاف بمعنى التعدد والتغاير بأنه من آيات الله سبحانه وتعالى (ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين) الروم: 32.
ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن هذا الإختلاف بالمعنى المتقدم هو سنّة من سنن الخلق والتكوين فهو بمعنى الاختلاف عن الآخر وهو لا يعني بالضرورة الخلاف والاختلاف مع الآخر فقد تجتمع الافراد والجماعات على قواسم مشتركة وعلى قواعد عامة في قضايا الفكر والسلوك والنظام العام رغم وجود الاختلافات الكثيرة بينهم في عالم الآراء والأفكار والارادات والمعتقدات حيث لا وجود للاستنساخ في عالم العقل الانساني وما ينتج عن إعماله في حقول العلم والمعرفة.
وفي القرآن الكريم ايضاً اشارة جلية الى حقيقة الاختلاف الفكري بين بني البشر كما جاء في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99.
وقوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين الا مَن رحِم ربك ولذلك خلقهم..) هود: 118.
ومن خلال ما تقدم من معنى الإختلاف يظهر أن الإختلاف لا يعني التصادم بين المختلفين في آرائهم وأفكارهم كما نرى ذلك في الثروة الفقهية التي تكاثرت من خلال اختلاف وتعدد الآراء والإجتهادات، وهو ما نراه في مختلف مجالات الفكر الانساني.
وقد يؤدي الإختلاف في الآراء والأفكار إلى حصول الخلاف والنـزاع بين ذوي الآراء المختلفة والأفكار المتعددة عندما يحاول كل ذي رأي أن يثبت صحة رأيه ومعتقده وأن يبطل الرأي الآخر. وهنا تظهر الحاجة إلى القوانين التي تحكم هذا الخلاف وقد أدرك علماء المنطق المسلمون وغيرهم من العلماء الناظرين في إصلاح المجتمع والأمة انه لا بد من بقاء الخلاف في الإطار الفكري بين المختلفين وبذلك تتراكم المعارف وتزداد مسائل العلوم وتتقدم المجتمعات في مختلف الحقول والميادين. وقد وضعوا الآداب والوصايا التي تحكم المناظرات والاحتجاجات وتبقيها مطبوعة بالطابع الفكري وقد استفادوا حل هذه الوصايا من المنطق الذي رسمه القرآن الكريم في إدارة الخلافات الفكرية التي جرت في حياة الأنبياء مع أممهم وشعوبهم.
وإذا كان الخلاف حقيقة وأمراً واقعاً في حياة المجتمعات فلا بد من التعاطي معه كذلك بالشكل الذي يحافظ فيه على التنوع والإختلاف من خلال تنظيم الخلاف وإبقائه في الدائرة الفكرية دون التأثير على نظم أمور الجماعة في حياتها وعلاقاتها العامة.
وقد جعلوا من آداب المناظرة والخلاف اموراً عديدة نذكر اهمها:
-منها: مرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فإذا كان الخلاف في المسائل الدينية العقائدية والفقهية فلا بد من الرجوع إليهما باعتبار أن القرآن الكريم والسنّة النبوية من المصادر الأساسية للآراء في العقائد الدينية والأحكام الشرعية فكان لا بد من العودة إليهما عند وقوع الخلاف على قاعدة قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء: 59.
ويمكن الاستفادة أيضاً من الكتاب والسنّة في طريقة الحوار والاختلاف مع الآخر التي لا تنطلق من الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة وأن الطرف الآخر هو الباطل المطلق كما جاء في قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم) فهو لم يقل لهم باطل ما تزعمون ولكنه طالبهم بالبرهان والدليل وفي آية اخرى: (وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى او في ضلال مبين) سبأ: 34.
ولذلك كانت سيرة السلف الصالح من العلماء عند الوصول الى رأي أو عند الإجابة على استفتاء يقولون في نهاية الاستفتاء وإبداء الرأي كلمة (والله اعلم) وهذا هو المنقول عن الإمام مالك وغيره من الأئمة الذين كانوا يقولون: (رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب).
فالحقيقة التشريعية قد تتعدد وقد لا تكون في جانب مدعيها، وإنما هو قد بذل قصارى جهده في الوصول إليها ولذلك قد اتفقت كلمة علماء الاسلام على عدم جواز تكفير المسلم بذنب فكيف إذا كان رأياً اجتهادياً يحتمل الصواب؟!. وهو معذور فيه على كل حال بل هو مأجور مرتين إن أصاب ومرة إن أخطأ كما ورد في بعض الروايات.
-ومنها: اجتناب السباب والشتم واللعن والسخرية بالطرف الآخر ومعتقداته لأن هذا الاسلوب يؤدي إلى تأجيج نار العداوة واستحكام الخلاف ويوقظ مشاعر الحقد والشحناء ويفسد مساعي التقارب ويذهب بالفائدة المتوخاة من الحوارات الفكرية الهادفة للوصول إلى الحقيقة وقد استفادوا هذا الأمر من نصوص القرآن والسنّة، من القرآن الكريم كقوله تعالى:(أُدْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل 125، وقوله تعالى:(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46، وقوله تعالى:(اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولاً لينّا لعله يتذكّر او يخشى) طه: 44، وقوله تعالى:(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) الانعام 108.
وقد استفاد العلماء المسلمون ان هذه الطريقة المطلوب التعامل بها مع اهل الكتاب وغيرهم هي طريقة مطلوبة أيضاً في تعامل المسلمين بعضهم مع البعض الآخر بطريق أولى واستفادوا ذلك أيضاً من السنة النبوية كقوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وقوله (ص): (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا).
-ومنها: التواضع في الخطاب وتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم والابتعاد عن الكلمات النابية والقبيحة وقد استفادوا هذا المعنى من قوله سبحانه وتعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران 159.
-ومن الوصايا: ايضاً في آداب الخلاف وهي اهمها كما يقول علماء المنطق وهي تتلخص في ان يكون الهدف الاساسي من الحوار هو الوصول الى الحق وإيثار الانصاف وليس التشنيع برأي الآخر والغلبة عليه وان يتجنب المحاور العناد بالإصرار على الخطأ ان ظهر له فإنه يكون قد ارتكب خطأين حينئذٍ لأن الاصرار على الخطأ يكون خطأ آخر وربما يكون اشد شناعة من الاول وهذا ما استفادوه من قوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة: 8.
وقد كان من اساليب البحث العلمي عند بعض العلماء الذين أدركناهم الإبتداء بعرض وجهة النظر الأخرى واستعراض أدلتها والتماس أدلة أخرى لها قبل الاستدلال على الرأي المختار.
وقد كانت معظم هذه الوصايا موجودة في المدارس الفقهية والكلامية في المدينة المنورة وفي الكوفة وبغداد والبصرة وسائر الحواضر العلمية في العالم الاسلامي وكانت جزءاً من المنهج العلمي المعتمد عند الائمة والدارسين كما يحدثنا التاريخ الاسلامي عن تلك المناظرات الفقهية التي كانت تدور بين الإمام الصادق والإمام أبي حنيفة وسفيان الثوري والحسن البصري.
ومما يلفت النظر ان بعض الحوارات كانت تجري مع الزنادقة دون حرج كما جرى بين ابن أبي العوجاء والإمام الصادق ومع الزنديق الذي جاء من مصر إلى المدينة ولم يجده فقيل له ذهب إلى مكة فتبعه الزنديق إلى مكة وسأله مسائل عديدة في العقيدة دون أن يخاف الزنديق من الإمام ومن الجماعات المتطرفة أن تقطع عليه الطريق، لأن السلطة السياسية تحفظ الحريات الفكرية والدينية وتحميها وليس لأحد أن يقوم مقامها في محاكمة العقائد والأفكار والأشخاص، لأن ذلك اختصاص السلطات القضائية المسؤولة عن النظر في هذه المسائل التي ترفع إليها ومن اللافت للنظر ايضاً في تلك الحوارات التي كانت تجري في الحواضر العلمية بين الأئمة والعلماء وبين الزنادقة وغيرهم من المجادلين في أمور الدين دون أن يتعرضوا لهم بسوء، وإنما كانوا يبذلون الجهد في إقناعهم ورد شبهاتهم، فالإمام الصادق مثلاً في حواره مع الزنديق الذي جاءه من مصر لم يحكم عليه بالكفر والإلحاد، ولم يقم الحد الشرعي في الإرتداد على ابن أبي العوجاء ولا على غيره من أهل الجدل والتشكيك، ولم يصدر الفتاوى بحقهم ، بل كان الأمر في تطبيق الأحكام – كما يظهر من تلك الوقائع – متروكاً للسلطة السياسية والجهات القضائية المنبثقة عنها.
فالأئمة والعلماء كان دورهم تعليم الأمة لأحكام الشريعة ونشرها والدفاع الفكري عنها، وأما تطبيق الأحكام على الموضوعات وتنفيذها على الأشخاص فهو متروك للسلطات التنفيذية من باب لزوم نظم الأمر والحفاظ على النظام العام الذي تحفظ به الحقوق، ولم يكن من حق أي جماعة دينية أن ترمي غيرها بالكفر أو أن تقيم عليه حداً شرعياً متجاوزة دور السلطة القائمة وهذا هو الخطأ بل الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها جملة من الحركات الدينية المعاصرة التي تحكم على غيرها بالكفر والإرتداد وتعمل على تطبيق الأحكام وتنفيذها بدعوى حاكميتها وتنفيذها لأحكام الله متجاوزة بذلك دور السلطة الناظمة للأمر والتي لا بد منها في قيام المجتمعات والدول والاوطان كما جاء في كلام الإمام علي (ع):
(وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلّغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر).
ولعل من أهم الأسباب لولادة هذه الظاهرة الخطيرة والجديدة في مجتمعاتنا الاسلامية هو تحول تلك الحركات عن النهج الذي درج عليه السلف الصالح من الأئمة والعلماء في اعتماد نهج الدعوة والارشاد والتعليم لأحكام الشريعة إلى نهج آخر يتم من خلاله استخدام العمل الديني في مشاريع الوصول الى السلطة والبحث عنها بكل ثمن ولذلك نرى وقوع الصراعات والنـزاعات الدموية بين حركات اسلامية في الكثير من بلدان العالم العربي والاسلامي بين دعاة يفترض ان يدعوا الى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة وقد تحولوا الى طلاب سلطة بالوسائل غير المشروعة وقد نصبوا انفسهم قضاة للشريعة دون تنصيب لهم من احد وأقاموا محاكم التفتيش عن عقائد الناس وأفكارهم يصدرون الاحكام في خصومهم دون محاكمة وفي ذلك الاخلال بنظام المجتمع وتعريضه لأفدح الخسائر والاخطار التي تنذر بالسقوط والانهيار.
وهم بطريقتهم هذه لم يخرجوا عن أدب الخلاف فحسب بل خرجوا بسبب تطرفهم عن قواعد النظام العام واحدثوا الفرقة والبغضاء داخل المجتمع الواحد والدين الواحد والامة الواحدة وهم يقرأون قوله تعالى:(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) آل عمران: 103 وقوله تعالى:(ولا تكونوا كالذين تفرقوا من بعد ما جاءهم البيان) آل عمران:105.
ومن خلال ما تقدم يظهر لنا أن التّعدّد في الآراء الفقهية كان أمراً طبيعياً، تعايش معه المختلفون في الرأي أئمة وفقهاء وتابعين.
والذي نراه أن بعض وجوه المشكلة التي تعاني منها أمّتنا الإسلامية اليوم والتي تأخذ عناوين السنّة والشيعة ليست وليدة تعدد الآراء والمذاهب، وإنما هي ناشئة من الخلافات السياسية في بعض الأقطار الإسلامية، وهذه الخلافات من بعض الدول والأحزاب الدينية على السلطة والنفوذ هي التي ساهمت في انتشار ظاهرة التّعصّب لتلك الآراء والإجتهادات برفض غيرها وزعم دعاة كل مذهب أن مذهبهم يمتلك الحقيقة الشرعية وحده، مع أن الإسلام يتسع لكل تلك الآراء والإجتهادات المنطلقة من الكتاب والسنة وإن اختلف العلماء في فهم النصوص ووسائل إثباتها، فالجميع يبحث عن سبل الوصول إلى أحكام الشريعة الإسلامية التي يؤمن بها الجميع . وللإطلاع على المزيد يمكن الرجوع إلى كتابنا (السنة والشيعة أمة واحدة) إسلام واحد واجتهادات متعددة.
وخلاصة الكلام في بحث الحوار الإسلامي الإسلامي، -الرؤية والمنهج والمفاهيم، – أن الفكرة والرؤية في شرعية تعدد الآراء والإجتهادات في الشريعة الإسلامية تنطلق من الشريعة نفسها من خلال مصادرها الداعية إلى العلم والمعرفة بأحكامها مقدمة لتطبيقها. ومن المعلوم وقوع النتائج المختلفة في العلوم والمعارف، وهو مما يعني الجواز في تعدد الآراء. فإذا نظرنا نجد في العمليّة التي يمارسها المجتهد في استنباط أحكام الموضوعات التي يواجهها بإقامة الدّليل المعتبر عليها سواءً كانت هذه الموضوعات معهودة في عصر نزول الشريعة أم كانت من الموضوعات المستجدّة، أنّ المطلوب من المجتهد المعرفة التفصيلية لأحكام الشريعة وليس له أن يكتفي بالمعرفة الإجمالية الموروثة والمنقولة في الكتب خصوصاً في المسائل الّتي لا تعدُّ من الضروريات الدينيّة المتّفق عليها والّتي اجتهد فيها العلماء السّابقون فإنّ ما وصلوا إليه فيها ليس نهاية المطاف فهم بشرٌ قد يصيبون و يخطئون وهم رضوان الله عليهم لم يدّعوا العصمة لأنفسهم، وإنّما بذلوا جهدهم بحسب ما توفّر لديهم من أدلّة للوصول إلى تلك النتائج الّتي لا تدخل في إطار المقدّسات و الثوابت وباعتبار أنّ الشريعة تجب متابعة أحكامها وأنّه لا بدّ أن يكون لها موقف من الحوادث المستجدّة والموضوعات المستحدثة كان لا بدّ من الرّجوع إلى نصوصها لاستنطاقها ومعرفة رأيها فيها وهذا هو الإجتهاد الّذي ينفي عن الشريعة صفة الجمود ويعطيها صفة المواكبة للعصر فهي خاتمة الشرائع والرّسالات وقد اكتمل بها الدّين وتمت بها النعمة الإلهيّة على عباده ولم تأتِ تشريعاتها بصيغ جامدة أو مغلقة وإنّما اتّسمت بالمرونة والإنفتاح وهي بذلك تتجاوز حدود المكان و الزّمان من خلال عموماتها وإطلاقاتها.
وقد أثرى علماء الأمة المكتبة الدينية بردودهم على الشّبهات ومواجهة التّحديات، وبمواكبة عصورهم ومتطلباتها، وهذا دليل عمليّ على مدى الحاجة إلى الإجتهاد الّذي تفرضه طبيعة الشريعة الخاتمة من خلال أحكامها الثابتة كأحكام الطاعة لله ورسوله والتي تعني عدم انقطاع التّكليف ومن خلال عموم الخطابات الموجهة في الكتاب والسنّة إلى عموم النّاس ومن خلال دعوتهما للتمسّك بالكتاب والسنّة كما جاء في قوله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر:7 وقوله تعالى: ( . . . فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر) النساء:59 وقد جاء في تفسير ذلك أنّ الردّ إلى الله هو بالرّجوع إلى كتابه والردّ إلى الرّسول يكون بالرجوع إلى سنّته وكما جاء أيضاً في بعض الأحاديث عن النّبي (ص) إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً ( كتاب الله وعترتي أهل بيتي) أو ( كتاب الله و سنّتي) كما في نصوص أخرى ومقتضى الجمع بينهما هو مرجعيّة الكتاب و السنّة لأنّ عترة النبي من أهل البيت قد أمروا بالعودة إلى الكتاب و السنّة ومن المعلوم أنّ العودة إليهما والتمسّك بهما يكون بالنّظر في النّصوص الواردة فيهما لمعرفة الأحكام الصّادرة الّتي لم تكن مقصورة على الجيل المعاصر للرّسالة فحلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة كما جاء في بعض النّصوص الأخرى فهذه الدّعوة الصّريحة للتمسّك بالكتاب والسنّة تستبطن معنى الإجتهاد في فهم الكتاب والسنّة والعودة إليهما في معرفة أحكام الوقائع والحوادث ومن المعلوم أنّ الأنظار ليست واحدة في فهم النّصوص ولا في وسائل إثباتها وأسانيدها ولذلك قد تختلف الآراء في النتائج والتّفريعات وهذه التعدّدية راسخة في طبيعة الإجتهاد الّذي تطلبه الشريعة.
ونحن نرى أن الاختلاف بين العلماء في الرأي لم يصنع الخلاف بين أصحاب الرأي وأتباعهم، بل الذي صنع الخلاف هي استغلال هذه التعددية الفقهية في مشاريع السياسة وطموحات السلطة، كما حصل في أيامنا عندما قامت بعض الحركات الإسلامية باستغلال هذه التعددية والتعصب لبعضها لكسب المزيد من الأتباع والعناصر لتحقيق مشروعها في الوصول إلى السلطة بعد أن كانت تلك التعددية مصدراً للثراء الفقهي من خلال مدارسها المتنافسة على العلم والمعرفة تحت راية الإسلام الذي يجمعها كلها بعيداً عن صراعات السلطة والسياسة.
ولذلك نقول إن العمل على جمع الأمة الاسلامية على كلمة سواء هو من أعظم الواجبات والتّحدّيات التي تواجه الأمّة اليوم في مصيرها وموقعها.
والمطلوب – لمواجهة هذه الحالة الطائفية الطارئة على مجتمعاتنا، والتي باتت تهدد الوجود والاستقرار في كل بلداننا- أن يصدر ولاة الأمر والحكام في دولنا العربية والإسلامية توجيهاتهم للمسؤولين بالعمل على ترسيخ قواعد المواطنية التي تقوم على العدل والمساواة بين المواطنين وبدعم قوى الاعتدال الديني والعمل على تنظيم التعليم الديني وإقامة المعاهد الدينية المشتركة بين مختلف المذاهب الفقهية التي تعلم الأجيال على مفاهيم الأمة الواحدة والأخوّة الإسلامية والوسطية والحوار والتسامح والاعتدال وغيرها من المفاهيم التي تحمل الفضائل والمبادئ، فإن تنشئة الأجيال على هذه القيم والمفاهيم تعزز روابط الوحدة في أوطاننا وأمتنا وتبعد عنهم دعوات التعصّب والطائفية والتفرقة.
ولا شك أن العلاقات الإيجابية بين ولاة الأمر والقيادات ودولهم لها الأثر الإيجابي الكبير في التقارب بين مختلف المكونات في شعوبهم وأوطانهم، فإن الراعي يشكل القدوة لرعيّته في علاقات بعضهم مع بعض الآخر.
وعلى علماء الدين التمسّك بخط الوسطية والاعتدال الذي دعت إليه الشرائع السماوية، والابتعاد عن الانخراط في الحالات الحزبية التي تدفع بطبعها أصحابها للتعصّب لآراء أحزابهم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء كانوا الدعاة للإلفة والإنسجام، وما كانوا دعاة للفرقة والإنقسام.
ومن أجل ترسيخ الحوار بين المدارس الفقهية وجعله أمراً مستمراً خارج دائرة المناسبات نقترح على مؤتمركم الكريم أن تنبثق عنه لجنة دائمة للحوار الإسلامي الإسلامي تهتم بالتقريب بين المذاهب الإسلامية وتتابع مختلف المسائل والقضايا التي تساهم في تعزيز روابط الإلفة بين أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مذاهبهم.
إنّ أُمّتنا الإسلامية لا يزال الخير موجوداً فيها إلى يوم القيامة، ولا يصلح أمر هذه الأمة اليوم إلا بما صلح عليه أولها، فقد اعتصم أبناؤها الماضون بحبل الله جميعاً ولم يتفرقوا وأصبحوا بنعمة الله إخواناً، واستجابوا لنداء الله والرسول عندما دعاهم لما يحييهم، وعملوا بقوله تعالى:(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) فانتهوا عن الخلاف والنزاع فقويت ريحهم وارتفعت رايتهم وجعلوا لأمتهم المكانة اللائقة بين الأمم حتّى غدوا بحق خير أمّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وأولئك هم المفلحون.
وأتوجه إلى شباب الأمّة بالقول: أنتم أمل الأوطان، وأمل الأمة في بناء مستقبلها وتعزيز مكانتها والوصول بها إلى موقعها الريادي اللائق بها في العالم، وأنتم تعلمون – يا أمل الأمة ومستقبلها-من خلال تاريخنا وقرآننا المجيد أن وحدة الكلمة كانت في أساس البنيان المرصوص لأمتنا كما قال الله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)وكما في قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً)، ولذلك فإن المطلوب منا جميعاً أن نبتعد عن كل عوامل الفرقة والانقسام، وأن ندرك أن وحدة الأمة هي من مقاصد شريعتنا السمحاء. وبهذا المقصد الشريف يعرف شبابنا بطلان كل دعوة تريد جعلنا طوائف ومذاهب متناحرة تحت شعار الدين، فإن الدين هو داعية إلى الوحدة بيننا وليس داعية إلى الفرقة والفتنة.
ولا يسعنا في نهاية هذه الكلمة إلا تقديم الشكر لمملكة البحرين ملكاً وحكومة وشعباً على الرعاية الكريمة لهذا المؤتمر تحت عنوان (الحوار الإسلامي الإسلامي) والشكر أيضاً إلى اللجنة المنظمة للمؤتمر داعين لهم بالتوفيق والنجاح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.