الجمعة , أكتوبر 11 2024
الدين وحماية البيئة - السيد علي الامين

الدين وحماية البيئة

الدين وحماية البيئة

Religion & protecting of Environment

كلمة العلامة المجتهد السيد علي الأمين في ندوة كلية العلوم – الجامعة اللبنانية

مقتطفات:

الكلام عن موقف الدين من البيئة قد يبدو غريباً على الأذهان لأننا أعتدنا أن نسمع أحكاماً للدين في العبادات والأخلاقيات وبعض المعاملات

·البيئة ليست كائناً عاقلاً حتى يشملها الخطاب الديني المتوجه مباشرة إلى الإنسان .فما علاقتها بالدين؟

· إن تنظيم الأرض واستعمار الإنسان فيها من قبل الله تعالى تستدعي إصلاح الأرض وتطويرها وهو معنى نستكشف منه طلب حماية الأرض

·ليس المهم أن يحصل الإنسان على لقمة العيش كيفما كان بل المهم أن يحصل على مصادر لعيشه خالية من التلوث والأمراض

· المتتبع لأحكام الشريعة يمكنه أن يحصل على الكثير من القرائن والأحكام التي تدل بالتلميحوالتصريح على حماية البيئة والمحافظة عليها وهي لو جمعت لأصبحت باباً فقهياً

·إذا حصل خلل على مستوى هذه الثروات كماً ونوعاً أو خلل على مستوى توزيع الثروات فإن منشأ الخلل هو الإنسان الذي لم يشكر ربه على هذه الثروات فلم يوزعها توزيعاً عادلاً ولم يحافظ عليها .

· نجد في الآيات الناهية عن الإسراف والتبذير وجهاً من وجوه المحافظة على ثروات الطبيعة وإن خصها كثير من المفسرين والفقهاء بناحية الإنفاق للثروات ولكن بالإمكان أن نجعلها شاملةً للمحافظة على ثروات الطبيعة .

·إفساد المياه لون من ألوان الإسراف ،وتلويث الأرض يجعلها غير صالحة لون من ألوان الإسراف

· إن التوازن بين مجموعات الخلق هو أهم عامل من العوامل التي خلقها الله للمحافظة على الحياة حتى لا يطغى نوع على نوع ، وإن زوال أي نوع من أنواع الموجودات يستدعي خللاً في حياة الإنسان وهو الذي يتحمل التبعات .

· قد نجد في تحريم صيد اللهو لوناً من ألوان المحافظة على البيئة لما فيه من إخلال بالتوازن وهدر لثروة حيوانية بدون هدف أسمى ، وقد أعتبر بعض الفقهاء إن السفر لصيد اللهو هو سفر معصية فهو قتل للحيوان للقتل وليس لهدف آخر .

· نجد في تحريم أكل جملة من أنواع الطيور وسائر الحيوانات وسيلة من وسائل الحفاظ على البيئة والتوازن، فليس صحيحاً أن تحريم أكل بعضها لإشتمالها الضرر كما يقولون

· في بعض النصوص الأخرى النهي عن تلويث المياه الجارية والراكدة بفضلات الإنسان .

· عمارة الأرض كما تقدم معنا تختلف إختلافاً كلياً مع كل ما يفسد تربتها ويلوث مياهها وأجواءها .

· يمكن إدخال هذه التعليمات في الكتب الدينية المعدة للتدريس وغيرها من كتب التربية حتى نساهم في تربية جيل على حب البيئة

—————————————————

نص المحاضرة:

الكلام عن موقف الدين من البيئة قد يبدو غريباً على الأذهان لأننا أعتدنا أن نسمع أحكاماً للدين في العبادات والأخلاقيات وبعض المعاملات ، وأما أحكام البيئة فهي أمور لم نسمع بها من ذي قبل . بل لعل سائلاً يسأل ويقول :ما علاقة الدين بالبيئة؟

فهي ليست كائناً عاقلاً حتى يشملها الخطاب الديني المتوجه مباشرة إلى الإنسان .

والجواب على ذلك أن عدم سماعنا لا يدل على عدم وجود أحكام دينية تخص البيئة ، ومن خلال معرفتنا لمهمة الدين في الحياة ومن خلال اهتمام الدين بالإنسان وجعله محور تشريعاته واهتماماته ، نعرف بشكل إجمالي أن الدين لا بد وأن يكون له رأي حول البيئة التي تؤثر بشكل مباشر على الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض لإعمارها كما جاء في قوله تعالى:

( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) .

وجاء في قوله تعالى:

( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ) .

وكما جاء في العهد القديم من الكتاب المقدس:

( سماء السموات للرب والأرض جعلها لبني البشر ) .

وقد جعل الله الإنسان سيداً على الأرض كما جاء في سفر التكوين :

( على الإنسان أن يتسلط على الأرض )

وهي

( كجنة جعلها الله منظماً لها ) .

ومن الواضح أن هذه النصوص الدينية من القرآن والإنجيل ناظرة إلى المكان الذي يعيش فيه الإنسان مع الموجودات الأخرى . فإن تنظيم الأرض واستعمار الإنسان فيها من قبل الله تعالى تستدعي إصلاح الأرض وتطويرها وهو معنى نستكشف منه طلب حماية الأرض والمحافظة عليها أمانة أستودعها الله خليفته الإنسان .

وعلى كل حال فإن البحث عن موقف الدين من البيئة يستدعي أن نتعرف أولاً على معنى البيئة تمهيداً لمعرفة الموضوع الذي نحاول التعرف على أحكامه فنقول:

(البيئة) إسم مشتق من فعل باء يبوء ومنه قوله تعالى :

( باؤوا بغضب من الله ).

وهي بمعنى حملهم للغضب والإنصراف به .

وفيه قوله تعالى حكاية عن ابني آدم :

( وتبوء بإثمي وإثمك ) .أي تحمل بقتلي إثمي وإثمك وتنصرف بهما .

وتأتي بمعنى الإنزال والإسكان كما في قوله تعالى :

( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ) . أي ينزل فيها حيث يريد .

ومثله قوله تعالى :

( نتبوأ من الجنة حيث نشاء).

ومنه معنى الحديث:

( من طلب علماً ليباهي به العلماء فليتبوأ مقعده من النار ) أي لينزل منزلة في النار .

ومنه الحديث عن النبي (ص):

(من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .

وقد يأتي فعل (باء) بمعنى رجع وسمي البيت مباءة للرجوع أليه .

وقال في القاموس المحيط :بوأه منزلاً : أنزله ، كآباءه .

والإسم (البيئة) وهي تعني المنزل وقد تأتي بمعنى المحيط .

وهي بهذا المعنى الأخير تكون أقرب إلى محل البحث ، فإن المعنى المبحوث عنه للبيئة يشمل كل الموجودات التي تحيط بالإنسان من ماء وهواء وتراب وحيوانات ونبات ، وهي بهذا المعنى الشمولي شديدة الإلتصاق بالإنسان يؤثر فيها ويتأثر بها مباشرة ويستمد منها عناصر السلامة لبقائه وإستمراره .

 

وقد كثر الحديث في عصرنا عن البيئة وأصبح لها الكثير من الأنصار في مختلف أنحاء العالم وغدت المحافظة على البيئة عنواناً للرقي والتمدن والإنسانية الواعية وإن كان هناك تفاوت بين منطقة وأخرى وبين شعب وآخر في درجة الإهتمام بها .

والذي نطمح إليه أن يتجاوز الانسان في اهتماماته البيئية حدود وطنه ودولته ليصبح الاهتمام بها عالمياً لأن البيئة لا تعرف الحدود والسدود لكونها واحدة يترابط بعضها مع البعض الآخر وتتأثر المناطق بعضها بالبض الآخر .

فالأرض بكل موجوداتها تشكل بيئة الإنسان ولذلك لا بد من تظافر الجهود وجمع الامكانات والقدرات من أجل مسألة البيئة التي تعني بالنسبة للإنسان لوناً من ألوان وعي وجوده ووعي مصيره ، وينبغي أن تتحول مسألة حماية البيئة إلى قضية تدافع عنها الأنظمة والشعوب كدفاعها عن حقوق الإنسان ولقمة عيشه ، فليس المهم أن يحصل على لقمة العيش كيفما كان بل المهم أن يحصل الإنسان على مصادر لعيشه خالية من التلوث والأمراض تؤمن له حياة مستقرة وتساعده على مواصلة المعركة في الحياة من أجل التقدم والإزدهار ، فإن البيئة السليمة تعني وفرة في الانتاج وهذه الأمور تشكل الأرض الصالحة لبناء المجتمع السليم وهي سابقة في أهميتها لأي نشاط من الأنشطة المتأخرة في الحياة الإجتماعيه.

وعلى كل حال فإن الدين هو مصدر مهم من مصادر المعرفة والثقافة وتشكل أحكامه قوانين صارمة يتبعها الكثير من الناس وتتحول إلى سلوك في حياتهم ، ولذلك لا بد لأنصار البيئة من الإستفادة من الدين في هذا المجال الحيوي للانسان .

والمتتبع لأحكام الشريعة يمكنه أن يحصل على الكثير من القرائن والأحكام التي تدل بالتلميح والتصريح على حماية البيئة والمحافظة عليها وهي لو جمعت لأصبحت باباً فقهياً كسائر أبواب علم الفقه كباب الطهارة والبيع وأمثالها ، يسمى باب المحافظة على البيئة أو أحكام البيئة .

والأحاديث التي سنوردها تشكل قاعدة أساسية لأبحاث الفقهاء في مجال البيئة بشكل مستقل، فإن استعرضنا القرآن الكريم فإننا نجد فيه مجموعة من الآيات التي تشير إلى مصدر الخلل في توازن الطبيعة وهو الإنسان الذي لا يقوم بواجباته إتجاهها من هذه الآيات قوله تعالى:

( الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار).

وقد عددت هذه الآيات المباركة جملة من الثروات التي أنعم الله بها على الإنسان الذي أتاه الله كل ما يحتاجه في مسيرته على الأرض ، منحه الماء والهواء والغذاء والدفء فإذا حصل خلل على مستوى هذه الثروات كماً ونوعاً أو خلل على مستوى توزيع الثروات فإن منشأ الخلل هو الإنسان الذي لم يشكر ربه على هذه الثروات فلم يوزعها توزيعاً عادلاً ولم يحافظ عليها .

وقد نجد في الآيات الناهية عن الإسراف والتبذير وجهاً من وجوه المحافظة على ثروات الطبيعة وإن خصها كثير من المفسرين والفقهاء بناحية الإنفاق للثروات ولكن بالإمكان أن نجعلها شاملةً للمحافظة على ثروات الطبيعة .

فإفساد المياه لون من ألوان الإسراف ،وتلويث الأرض يجعلها غير صالحة لون من ألوان الإسراف المحرم وتفريط بهذه النعمة التي أنعمها الله علينا .

(والأرض وضعها للأنام).

(والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان)(وكل شيء عنده بمقدار).

فإن التوازن بين مجموعات الخلق هو أهم عامل من العوامل التي خلقها الله للمحافظة على الحياة حتى لا يطغى نوع على نوع ، وإن زوال أي نوع من أنواع الموجودات يستدعي خللاً في حياة الإنسان وهو الذي يتحمل التبعات .

وقد نجد في تحريم صيد اللهو لوناً من ألوان المحافظة على البيئة لما فيه من إخلال بالتوازن وهدر لثروة حيوانية بدون هدف أسمى ، وقد أعتبر بعض الفقهاء إن السفر لصيد اللهو هو سفر معصية فهو قتل للحيوان للقتل وليس لهدف آخر .

ونجد في تحريم أكل جملة من أنواع الطيور وسائر الحيوانات وسيلة من وسائل الحفاظ على البيئة والتوازن، فليس صحيحاً أن تحريم أكل بعضها لإشتمالها الضرر كما يقولون ، لعدم الفرق بينهما من هذه الناحية ولكن لكل منهم دور يؤديه للمحافظة على التوازن بين هذه الموجودات وغيرها .

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى إستخلاص نظرية فقهية وهي : إن ما حرمت الشريعة أكله ، كحرمة أكل النسور والصقور وسائر الجوارح والسباع ، حرم قتله وصيده لأن الهدف من القتل والذبح هو جعله مصدراً غذائياً للإنسان فإذا حرم أكله فلا مبرر شرعي لقتله .

وهكذا فإننا نجد الكثير من الأحكام والنصوص المنتشرة في أبواب فقهية متعددة تتعرض بشكل وآخر إلى مسألة البيئة وحمايتها .

وفي بعض النصوص التي تتحدث عن آداب الخلوة ، يسأل بعضهم الامام الكاظم عندما جاء هذا البعض لزيارة الإمام الصادق عليه السلام:

( أين يقضي الغريب حاجته فقال له : تجنب أفنية الدار ومساقط الثمار وشطوط الأنهار ثم شرق وغرب )وفي بعض النصوص الأخرى النهي عن تلويث المياه الجارية والراكدة بفضلات الإنسان .

وهكذا الحال بالنسبة إلى نصوص أخرى تتحدث عن إعمار الأرض وإصلاحها كما جاء في عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر عندما ولاه مصر :

( هذا ما أمر به عبدالله علي أمير المؤمنين مالك بن حارث الأشتر في عهده اليه أمره بإستصلاح أهلها وعمارة بلادها ) وقال له :

(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ).

وعمارة الأرض كما تقدم معنا تختلف إختلافاً كلياً مع كل ما يفسد تربتها ويلوث مياهها وأجواءها .

ومن خلال هذا العرض الموجز لبعض النصوص والأحكام نكون قد أسسنا إلى بحث فقهي اوسع حول البيئة وحمايتها وبإمكان الدين ورجاله أن يساهموا مساهمة فعالة في هذا الميدان الحيوي للإنسان ويمكن إدخال هذه التعليمات في الكتب الدينية المعدة للتدريس وغيرها من كتب التربية حتى نساهم في تربية جيل على حب البيئة ودفعه بإتجاه المحافظة عليها ويبقى في مقدمة ذلك أن تُسن القوانين وتشرع الأحكام التي تصون الطبيعة وتحافظ على البيئة من خلال قوة السلطة فإن الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن وبذلك يمكننا أن نحصل على وطن معافى من خلال بيئة سليمة .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كلمة العلامة الحجة السيد علي الأمين الجامعة اللبنانية – كلية العلوم- تاريخ الندوة :الخميس 19 حزيران 1997م