العلامة السيد علي الأمين.. المرابط على ثغور الوطن والإنسانية
محمود صفي الدين
إذا كان الرسّام الفلسطيني الثائر ناجي العلي (1937-1987) شهيد “حنظلة”؛ الطفل الصامد الذي يرمز إلى الإرادة الصلبة، فإن العلامة السيد علي الأمين هو المرابط على ثغور الوطن والإنسانية في زمن هدر الأوطان واستلاب الإنسان.
الثنائي الشيعي يعجز عن تهميش العلامة السيد علي الأمين
ليس عجبًا أن يتمادى الثنائي الشيعي – حزب الله وحركة أمل – بمؤازرة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في حملات التخوين بحق العلامة السيد علي الأمين، فالأخير نجح في تجاوز الثنائي الشيعي والمؤسسة الشيعية الرسمية بحضوره العلمي البارز على الصعيدين الإقليمي والعالمي. فإن المتابع بدقة لمجريات هذه الحملة الإعلامية الشنيعة، يدرك وبشكل واضح جدًا، بأن الموضوع لم يعد متعلقاً بمشاركة العلامة الأمين في مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد مؤخراً في البحرين: لقد عجز الثنائي الشيعي عن تهميش السيد علي الأمين كمرجعية وطنية طرحت نفسها بجدارة منذ الثمانينات، فعمد إلى توظيف أخطر سلاح من أسلحة العنف الرمزي – ما يعرف عند علماء الاجتماع وخبراء القانون “بإغتيال الشخصية” Character assassination، والذي يفتك بواسطة بث الشائعات الكاذبة ونشر الإفتراءات المغرضة. ولَكِنَّهُم ربما تجاهلوا بأن للأحرار وثبة، كيقظة طائر الفينيق الذي يحترق، ثم ينهض من رماده من جديد مُحَلِّقاً في أجواء الفضاء. وقد عبّر العلامة الأمين أجمل تعبير عن هذه الحرية بقلمه الأدبي الناصع، إذ كتب مرة يقول: “لو عاش العصفور حسرة الحرية المفقودة لما صدرت منه في اليوم تغريدة”.
التخوين الممنهج
ولكي نفهم خفايا حملات التخوين الممنهجة هذه، لا بُدّ من وضعها في سياق ضغوط المعيشة التي باتت تُشكّل كابوساً لحزب الله وحركة أمل، اللذان أصبحا تحت طائلة المسؤولية أمام المجتمع اللبناني ككل. فاليوم ليس يوماً مجيداً، كما الأمس لم يكن يوماً مجيداً – كيف تكون أيام لبنان مجيدة؛ والناس قد بُحَّ صوتها وهي تصرخ من قساوة العيش؛ والناس تتجرع كأس الموت السريري على مدار الأيام والسنين دون أن يرفّ للطبقة الحاكمة جفن؛ وها هي بطون الفقراء يُمزّقها الجوع، في حين قد مُلئت بطون الفاسدين بالحرام، وكذا حياة الطفولة البريئة من السياسة أصبحت تكتوي بنيران الحرمان، وهم لا يبالون بإنعكاساتها البيئية على الأمن الغذائي والأفق المستقبلي لتنشئة الأطفال ورعايتهم. ولا ننسى كيف يدفع الشباب العاطل عن العمل ضريبة الفساد الذي تفاقم عبر العقود الأخيرة حصيلة رسوب الطبقة الحاكمة في إدارة البلاد وخدمة المواطن. وقد حذَّر عالم النفس اللبناني الدكتور مصطفى حجازي في أبحاثه العلمية العديدة من عواقب ظاهرة “الإنسان المهدور”، حيث كشف عن أن “ما دون خط الفقر ليس مسألة عوز مادي فقط، بل هو يؤدي إلى انهيار نوعية الحياة ذاتها، حتى في حدودها الدنيا.”
أين بُناة الأوطان وحُماة العدالة الإجتماعية؟
فأين بُناة الأوطان وحُماة العدالة الإجتماعية من كل هذه المآسي والمحن التي تُصيب مجتمعاتنا اليوم؟ أليس من المُعيب أن يُستهدف السيد علي الأمين الذي وقف مع قضايا الناس رغم الأثمان الكبيرة التي دفعها هو وأسرته الصابرة في تحمُّل أعباء المسؤولية؟! أين قيمة حياء الشرف التي تعلّمناها من سيرة الأنبياء (ع) في قاموس الأحزاب الدينية؟ وهي قيمة أن يكره المرء رؤية ما لا يليق بالأبرار والصالحين. إن مبدأ الحياء، كما يُشَدّد أستاذنا الفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن، هو المبدأ الأخلاقي القادر على أن يحفظ الإختلاف الفكري من التصلب. فحري بالإعلام الحزبي أن يراجع مسلكياته الشنيعة في ضوء المنظومة الأخلاقية التي يزعم الإنتماء إليها، مع أنه يفتقر إلى الحد الأدنى من الإهتداء بمعانيها السامية؛ “فلا حياء بغير حصول السلام أصالة في الباطن وتَبَعًا في الظاهر، فالإيمان الذي ينبني عليه الحياء مشتق من نفس الجذر اللغوي الذي اشتق منه لفظا “الأمن” و”الأمان”، وكلاهما يفيد مدلول السلام الذي يتحقق في الباطن والظاهر معًا.” هكذا ضرب الثنائي الشيعي بعرض الحائط المبادئ التأسيسية التي قام عليها أدب الإختلاف في التراث الإسلامي كما تجلت في موقف أحد الأئمة الذي قال: “قولنا صواب يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب”.
حزب الله يعيش أزمة نفسية معقدة
إن أزمة حزب الله اليوم هي أزمة نفسية مُعَقَّدة ترتبط بتركيبته الإيديولوجية وتاريخه الجهادي ضد العدو الإسرائيلي. ليست المشكلة في مبدأ مقاومة العدو الإسرائيلي – المشكلة في أن حزب الله يظن بأن تاريخه الجهادي يمنحه رخصة وهمية، وحصانة نفسية، للتهرُّب من مبدأ المساءلة المجتمعية. وهذا ما يبرر ثقته العمياء بأدائه السياسي والأخلاقي، وهي مشكلة الإيديولوجيات الشمولية التي لا تعبأ إلا بمفاهيمها الخاصة ورموزها وذاكرتها الجماعية؛ تنظر إلى الواقع بعين واحدة، فالصورة يجب أن تكون محددة بمنظور الحزب الواحد، فتبقى الصورة شمولية، وتعجز عن أن تتطور إلى رؤية شاملة، تستوعب التعدد والتنوع، وبالتالي تفقد اللياقة على المراجعة الذاتية التي تتحقق بفعل التحاور والتكامل. من هنا نفهم حسّاسّية الأحزاب الشمولية تجاه الفكر النقدي الصادر عن الرأي الآخر الذي يُعيدها إلى بشريتها الأولى، وبالضرورة إلى حاجتها للتصويب والتسديد، فينزع عنها رداء القداسة، ويُخَفّف من وثوقيتها الزائدة بنفسها. فإذا كان “الإعتراف بالخطأ فضيلة”، فإن منطق الأحزاب الشمولية يُترجم الإعتراف بالخطأ من فضيلة إلى فضيحة!
كم نحن بحاجة إلى إعادة تَعَلُّم دروس حرية الرأي والإعتقاد
ختاماً، لا بُدّ من تذكير المؤسسة الشيعية الرسمية في لبنان، لا ندري، لَعَلَّهُ فاتها، بأن العلامة الأمين هو إمتداد فكري أصيل لمدرسة الإعتدال والوسطية التي تخرَّج منها أساطين علماء جبل عامل، وعلى رأسهم الشيخ زين الدين بن علي (الشهيد الثاني، ت 965هـ/1558م) والإمام السيد موسى الصدر (1928-1978)، حيث يُمثِّل العلامة السيد علي الأمين إتجاهاً معاصراً في الفقه الشيعي الإصلاحي يُجَدِّد تجربة الشهيد الثاني التي تميزت بالإنفتاح والمشاركة. ويذكر المؤرخون بأن التعتيم على سيرة الشهيد الثاني ودلالاتها يأتي من جانبين:
١. من الجانب الشيعي – الصفوي الذي يغفل أمر إنخراط الشيخ زين الدين بن علي في الإجتماع السياسي العثماني،
٢. ومن الجانب السني – العثماني الذي يغفل واقع انفتاح زين الدين على جميع المذاهب الإسلامية.
لذلك تفتح لنا هذه التجربة التاريخية نافذة مهمة للتأمل من جديد في مسارات التقاطع والإستمرارية بين اتجاه الشهيد الثاني وتجربة العلامة الأمين، بعيداً عن العصبيات والحزبيات المتآكلة. وكم نحن بحاجة إلى إعادة تَعَلُّم دروس حرية الرأي والإعتقاد، فقد كتب مرة الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694- 1778) يقول: “اختلف معك في رأيك – ولكنني مُستعِد أن أُقاتِل حتى الموت – من أجل أن أُوفِّر لك الفرصة لتُعبِّر عن رأيك.”فانظر وتأمل.