نصير الأسعد
في الأيام الماضية، صدر ما يكفي من المواقف السياسية رداً على ما طرحه نائب رئيس “المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى” الشيخ عبد الأمير قبلان بشأن اسناد حقيبة المالية إلى الطائفة الشيعية أو إستحداث منصب نائب لرئيس الجمهورية يكون شاغله شيعياً.
ضد الطائف والدوحة.. وغلَبة
بإختصار، إنّ ما طرحه قبلان ليس فقط مناقضاً لميثاق الطائف، بل هو يتنافى مع “إتفاق الدوحة” الذي أكد ان الطائف مرجعيته من جهة ويعبّر عن تطلّع إلى تغيير النظام السياسي، فاذا كان باتجاه نظام رئاسي يصبح اقتراح إستحداث منصب نائب للرئيس تمويهاً على تطلب للرئاسة نفسها بواسطة الأكثرية العددية، وإن لم يكن في اتجاه رئاسي فباتجاه كونفيدرالي من جهة ثانية، أي ان “الإقتراح” تعبيرٌ عن مشروع غلَبة في كل الأحوال من جهة ثالثة.
المجلس الشيعي و”المصالح العليا” للطائفة
بيدَ ان كلّ الردود “المنطقية” على ما تقدّم به قبلان ليست على أهميتها الجانب الوحيد الذي يستدعي النقاش.
ذلك انّ مسألة جوهرية تفرض نفسها هذه الأيام وتتعلّق بمصير المجلس الشيعي.
في المبدأ، يُفترض أن يجد كلّ شيعي لبناني نفسه في المجلس، بل من حقّ كل شيعي أن يجد نفسه فيه. وذلك بالضبط لأن المجلس يُفترضُ به أن يعبّر عن “المصالح العليا” للطائفة وعن الموقع “الوطني” للطائفة، لا أن يعبّر عن فريق سياسي أو ثنائية سياسية ضمنها.
وبكلام آخر، يُفترض بالمجلس أن يشكّل مرجعية عامة للشيعة اللبنانيين وأن يحرص على دورهم بإعتبار الطائفة الشيعية طائفة مؤسسة للكيان وفيه، وبإعتبارها رافداً رئيسياً للعيش المشترك في البلد، وبإعتبار انّ لها ـ من ضمن دور لبنان ككل في المنطقة ـ دوراً كبيراً على صعيد الوحدة الإسلامية من ناحية وعلى صعيد المساهمة في العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي من ناحية أخرى.
الشيعة و”الوطن النهائي” و”الدولة المدنية”
غير انّ ذلك كلّه صار شأناً لا قيمة له على عهد الشيخ قبلان.
“المصالح العليا” للطائفة الشيعية ما هي؟.
تبدأ “المصالح العليا” للطائفة بأن يجري التأكيد على إتفاق الطائف الذي يحفظ حقوق كل الطوائف، ولا يربط حقوق الطوائف بموازين قوى سياسية فتكون محفوظة في ظل توازن معيّن وتكون معرّضة في ظلّ توازن مختلف، ولا يربط حقوق الطوائف بالتمثيل السياسي أي يحفظها أياً تكن قوى التمثيل السياسي.
وتكون “المصالح العليا” للطائفة بأن تكون مطمئّنةً ومطمئنَةً في آن، أي عندما تشكّل صمّام أمان للبلد ككل ولا مشروع خاصاً بها بل مشروع للبنان المتعدّد، ومن ضمنه التعدّد داخل الطائفة نفسها.. فلا تكون طائفةً خائفةً ولا طائفةً مخيفةً.
و”المصالح العليا” للطائفة بألا تكون مناطق إنتشارها “الجغرافي” ساحةً وحيدة لـ”حرب مفتوحة” لحسابات غير لبنانية.
و”المصالح العليا” الاّ يجرّ فريق سياسي أو فرقاء سياسيون الطائفة إلى خارج الوطن لأنّ الشيعة في كلّ بلد من البلدان “وطنيون” أي “كيانيون” وليسوا “فوق الوطنية” أو “فوق الكيانية”.
تعاليم الإمامَين الصدر وشمس الدين
و”المصالح العليا” أن يكون الشيعة في مقدّم المساهمين في بناء الدولة اللبنانية.. الدولة المدنية في لبنان.
كلّ تلك “المصالح” مُستقاة من “تعاليم” مرجعيتين شيعيتين كبيرتين هما الإمام موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين: إندماج الشيعة في وطنهم، نهائية الكيان اللبناني، والدولة المدنية، ورعاية العيش المشترك في إطار التعددية..أي انّ لـ”الفقه الشيعي” مآثر فكرية متعدّدة وللشيعة فقهاء ومجتهدين كباراً تمحورت إجتهاداتهم حول فكرة “الدولة الوطنية”.
قبلان لا يقتدي بالسلفَين
للأسف الشديد، حاد “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” مع سماحة الشيخ قبلان عن تلك التعاليم.
معه، صار المجلس كياناً غير مستقلّ ولم يعُد مرجعية. صار أقلّ من مجرّد فريق سياسي لانّه بات ملحقاً بفريق أو إثنين.
معه، صار توازن القوى “يحكم” ولم يعُد المجلس “فوق” التوازنات السياسية وخارجها، وراح يميلُ مع كفّة “الواقف”.
معه، لم يعُد المجلس معبّراً عن مبادئ الطائفة ومصالحها المعرّفة آنفاً..وحتى عن حقوقها الفعلية.
معه، تراجعت هالةُ المجلس الذي كان إذا قال قولاً اهتزّت لقوله القوى السياسية. وما كان قول المجلس ليهزّ في حينه إلا لكونه صادراً عن قوة حقّ وعن موقع قوّة “وطنية” (لبنانية) للطائفة.
و”الأدهى” انّ ما يحصل، إنما يحصل في ظل وضعية غير قانونية منذ فترة للمجلس، بإنقضاء فترته وفي ظلّ طعون قانونيّة بهذا الوضع.
للشيخ قبلان ـ بحسب عارفيه ـ مزايا “حلوة”: الطيبة والعفويّة وخفة الظلّ… والقرب من الناس “العاديين” والخطاب “الشعبي”. لكن إذا كان سماحته غير قادر على استعادة الوهج الذي كان للمجلس زمن الإمام المغيّب والإمام الراحل، فإنّ اقتداءه بهما سيساعد الشيعة على تجديد ثقتهم بهذا الاطار المرجعيّ الذي تطابق تأسيسه في حينه على هذا الأساس المرجعيّ مع رئاسة مرجعيَن عالِمين كبيريَن.
“الإعتداء على الطائفة”!
وكي يكون بعضُ الكلام السابق واضحاً، ثمّة حاجةٌ الى إبراز موقفَين “إقترفهما” الشيخ قبلان في الآونة الأخيرة.
إعتبر قبلان إعادة رئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير الى الجيش في إطار قرار مجلس الوزراء في 5 أيّار الماضي، اعتداءً على الطائفة الشيعيّة. طبعاً القرار لم يعد موضوع بحث. والعميد شقير معروفٌ على نطاق واسع بأنه رجل آدميّ وعصاميّ. لكن كيف تكون إعادته إلى الجيش إعتداءً على الطائفة الشيعيّة؟ كيف تكون كذلك إذا جرى استبداله بضابط شيعيّ آخر؟ وهل سئل العميد رأيه في أن يكون عنواناً فردياً لطائفة بكاملها؟ وهل ثمّة نص ميثاقيّ أو دستوريّ يقول إن طائفة معينة يحق لها ألاّ تعترف بانتماء أحد أبنائها إليها وأن تعترف بشخص واحد حصراً؟.
العلاّمة الأمين
أمّا “الأفظع”، فكان إقدام الشيخ والمجلس المنتهية ولايته على “تجريد” العلامة السيّد علي الأمين من مهمته كمفتٍ لصور وجبل عامل. وقد حصل ذلك بالتزامن مع الإعتداء الذي تعرّض له مقره في صور وتعرّض له نجلا السيّد الأمين. بكلام آخر، وبدلاً من أن يكون المجلس إطاراً حامياً لرجال الفقه والاجتهاد والعلم والفكر، إذا به “يُفتي” ضد أحد أبرز رجال الدين الشيعة عِلماً و”يحلّل” القضاء عليه.. ودائماً بصورة غير قانونية.
دعوة
إنّ سماحة الشيخ قبلان مدعوّ الى وقف توظيف “المجلس الاسلاميّ الشيعيّ الأعلى”في خدمة أحادية أو ثنائية سياسيّة، والى وقف تحويل المجلس الى إطار لتصفية الحسابات من جانب “الشيعيّة السياسيّة” مع قيادات وتيارات وأفكار شيعيّة أخرى.
وهوَ مدعوّ الى تصحيح الوضع القانونيّ للمجلس بما يؤدي الى جعله إطاراً مرجعياً عاكساً للحيوية الثقافية الشيعيّة.
وهو مدعوّ الى زيادة إهتمامه بالشؤون “الكبرى” والتوقف عن الادلاء بدلوه في “التفاصيل” التي يكفيها أن يتحدث فيها غيره.
فهل يُرضي سماحته أنّ صورته عند اللبنانيين في الطوائف الأخرى، ومن “الشيعة الآخرين” غدت صورة من يصبّ الزيت على النار تارة ومن يُقال عبره ما لا تريد “الشيعيّة السياسيّة” قوله في لحظة معيّنة تارة أخرى؟
مع كلّ الاحترام للشيخ قبلان.. وأعاد الله الإمام المغيّب موسى الصدر ورحمات الله على الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين.