الموقف الشرعي من الوباء
مطالعة فقهية
سماحة العلاّمة السيد علي الأمين
جريدة اللواء اللبنانية – 1-4-2020 – العدد 15773
كثر الحديث في أيامنا هذه عن الموقف الشرعي من الوباء الذي حلّ بأهل الأرض بسبب ڤيروس كورونا رفعه الله عن كل بلاده وعباده.
والذي يمكن أن يقال في هذه المسألة-وبالله التوفيق- أنه لا ينبغي الشك في أن من مقاصد الشرع الحفاظ على صحة الأفراد والجماعات والوقاية من الأمراض، وهو ما يستفاد من بعض النصوص الدينية، منها: (ألا وإن من البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب، ألا وإن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن.. ) ومنها (سلامة الدين وصحة البدن خير من المال. . ) ومنها : (الصحة أفضل النعم) وغيرها الكثير من النصوص بهذا المضمون.
وهذا يعني أن صحة البدن التي هي مقصد عقلائي في الأصل لم تخالفه الشريعة، بل حثّت عليه وندبت إليه. وقد ورد في بعض النصوص حرمة تناول ما يضر بالجسم: (وكل شيء يكون فيه المضرة على الانسان في بدنه وقوته محرم أكله) ومن هذه النصوص وغيرها ينتقل إلى لزوم العمل بما يحفظ صحة الإنسان والسلامة العامة وتحريم كل ما يضر به.
وفي مسألة الوباء تمسّك بعض أهل العلم بما جاء في الحديث : (إذا سمعتم به (الوباء) في أرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه) .
وقد أخذ هذا البعض بالحديث على إطلاقه، وفسره بطلب المنع من زيارة مكان الوباء حذراً من العدوى، وبعدم جواز الفرار من بلد نزوله، هذا، مع أن الخشية من انتقاله بالعدوى من شخص إلى غيره موجودة في الحالين!.
فإذا كان الإمتناع عن الذهاب إلى مكان الوباء مطلوباً فلماذا لا يكون الفرار من مكان نزوله كذلك ؟.
والخشية من العدوى إذا كانت تبرر طلب عدم الزيارة لمكان الوباء كما في الحديث المنقول فهي تبرر جواز الإنتقال من مكان الوباء أيضاً طلباً للوقاية وللدواء إذا لم يكن موجوداً فيه، كما لا يخفى.
وما يفهم من بعض الأحاديث (الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف) أن منع الفرار من مكان الوباء ليس مطلقاً، وإنما هو مقيد بصورة كون المكث فيه بمثابة الزحف، وفيه إشارة إلى الزحف الواجب، كما لو كان هناك جماعة في حال الرباط على ثغر من ثغور الوطن، وكالموجودين في زماننا لإدارة مرفق عام كالمطارات والمراكز التي تحفظ الأمن والحدود، فإن لزوم المكث في مثل ذلك المكان وعدم جواز الفرار منه لا يعني لزوم الصبر على الوباء بدون وقاية ولا علاج لعدم المنافاة بين الأمرين كما لايخفى. هذا مع الأخذ بعين الإعتبار صعوبة تبديل الأشخاص الذين كانوا يقومون بالحراسة في ذلك الزمان.
وهذا المعنى في تقييد الحديث يفهم مما ورد في أحاديث أخرى، منها: (. . إن رسول الله عليه الصلاة والسلام إنما قال :(الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف) في قوم كانوا يكونون في الثغور في نحو العدو فيقع الطاعون فيخلون أماكنهم ويفرون منها فقال رسول الله ذلك فيهم) .
وهو ما يشير إليه أيضاً حديث آخر (ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه يعني الطاعون فيمكث لا يخرج صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد ) .
فإن المستفاد بمناسبة الحكم والموضوع من قوله (فيمكث صابراً محتسباً) و (كان له مثل أجر شهيد) أن وجوب المكث على العبد في ذلك البلد كان لسبب آخر غير الطاعون، كما لو كان البلد الذي يتواجد فيه من الثغور التي تجب حمايتها، فهو الذي يجب عليه أن يبقى فيه صامداً ولا يتركه لمجرد الخوف من الوباء. وأما من أصابه الوباء منهم فهو مشمول حينئذٍ لقوله تعالى المتضمن لنفي الحرج عن المريض.
ومما تقدم يظهر أن الموقف من البلاء كان حكماً طريقياً منطلقاً من الحفاظ على ما تقتضيه المصلحة العامة لخصوصية كانت موجودة في مكان نزوله، ولذلك أتى المنع من الخروج منه، ولم يكن حكماً تعبّدياً شاملاً لكل الأزمنة والأمكنة، كالصلاة مثلاً.
وبالجملة، فإن الأحاديث ناظرة إلى هذه الفئة المكلفة بالصبر والصمود في ذلك البلد الذي يجب المكث فيه، وليست ناظرة إلى كل بلد نزل فيه الوباء، ولا إلى كل أهل البلد الذي نزل فيه. فلا يجب على غير تلك الفئة التي يحتاج إليها لحفظ المكان البقاء فيه صبراً واحتساباً. فيجوز الخروج منه لغيرهم من المتواجدين الذين لا علاقة لهم بحمايته، كما في خروج المغتربين والمسافرين من بلد نزل فيه الوباء وعودتهم إلى بلادهم وإن كانت موبوءةً أيضاً، فإن تلك الأحاديث لا تمنع من خروجهم، ولا يتنافى خروجهم طلباً للوقاية والعلاج مع الإيمان والعلم بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، كما لا يخفى.
ومما تقدم يظهر لنا أنه لا يوجد في الأحاديث ما يمنع من عزل المصابين بالداء وخروجهم من بلد الإصابة طلباً للعلاج إلى مكان آخر يخصص للمصابين حرصاً على سلامة غيرهم، كما لا مانع من خروج الصحيح من بلد الإصابة إلى بلد آخر طلباً للوقاية وفراراً من عدوى المرض، فليس هذا الإنتقال ونحوه فراراً من الزحف.
وقى الله عباده من الوباء ومن شر كل داء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
*عضو مجلس حكماء المسلمين