الجمعة , أكتوبر 11 2024
الهوية الدينية والوطنية والثقافات المشتركة

الهوية الدينية والوطنية والثقافات المشتركة

الهوية الدينية والوطنية والثقافات المشتركة

العلاّمة السيد علي الأمين

إن الهوية الدينية التي يكتسبها الإنسان من خلال إيمانه برسالة من الرسالات السَّماوية، تأتي في المرحلة المتأخرة عن اكتسابه للهوية الوطنيَّة التي يكتسبها من خلال كونه جزءاً من شعب وأمة جمعت بين أفرادها روابط العيش معاً في الأرض والتاريخ والثقافة التي تشمل اللغة والعادات والتقاليد والتجارب .

وهذه الروابط التي تلتقي فيها أفراد وجماعات من الناس، تجعل منهم شعباً واحداً وأمَّة واحدة، وتجعل من الأرض التي يعيشون عليها وطناً لهم،ولذلك يدخل الشعب في تعريف الوطن ويدخل الوطن في تعريف الشعب. وهذا يكشف عن العلاقة الوثيقة بين الإثنين، تصل إلى درجة التلازم وعدم الإنفكاك بينهما. فلا وطن بدون شعب. لأن الوطن بدون شعب يصبح قطعة أرض جامدة قد تحكي قصص الغابرين والشعب بدون وطن يتحول الى مجموعات من المهاجرين واللاجئين الذين ينصهرون في غيرهم ولو بعد حين.

 لا وطن بدون شعب. لأن الوطن بدون شعب يصبح قطعة أرض جامدة قد تحكي قصص الغابرين .

الشعب بدون وطن يتحول الى مجموعات من المهاجرين واللاجئين الذين ينصهرون في غيرهم ولو بعد حين .

وهذه الدرجة من الإلتصاق بين الشعب والوطن والدخيلة في اكتساب الفرد للهوية الوطنية، تفسر لنا في بعض وجوهها، مدى ارتباط الإنسان بشعبه ووطنه، وحبّه لهما، والتّضحية في سبيلهما، حتى ليبدو أن حبّ الشعب والوطن من أعظم الفضائل التي يسعى العقلاء للتَّحلي بها والحصول عليها ولذا تراهم يفخرون بأوطانهم وتاريخ شعوبهم وهذا ما ينسجم مع القول بأنّ حبَّ الإنسان لشعبه ووطنه، هو حبٌّ غريزي يولد مع الإنسان ذي الفطرة السليمة التي تشترك فيها الأمم والشعوب على اختلاف أعراقها ولغاتها وعاداتها .

وفي بعض النصوص المأثورة  ما يتفق مع هذا القول من خلال دعوتها لحب الأوطان والتمسك بها والدفاع عنها ، منها:

 ” حب الأوطان من الإيمان “.

ومنها ” إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل فانظر حنينه الى وطنه ” .

ومنها في حبِّ شعبه وارتباطه بقومه ” ليس من العصبيَّة أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبيَّة أن يرى شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين “

 وهذا ما يدلنا على عدم تنافي روابط الإنسان مع وطنه وشعبه مع روابط الدين والعقيدة أو ما يسمى بالهويَّة الدينيَّة، لأن في الدين من التّعاليم ما يأمر الإنسان بالمحافظة على تلك الروابط التي تتشكل منها الهويَّة الوطنيَّة.

 ويؤيد هذا الإنسجام بين الهويتين الوطنية والدينية، أن الشريعة قد أوجبت الجهاد الدفاعي عن الوطن والشعب واعتبرت من يقتل في سبيل الدفاع عنهما شهيداً .

وقد وصف أمير الشعراء أحمد شوقي الوطن بقوله:

) الوطن موضع الميلاد وجامع أوطار الفؤاد ومضجع الآباء والأجداد ، والدنيا الصغرى وعتبة الدار الأخرى …وهو أول هواءٍ حرك المروحتين وأول ترابٍ مس الراحتين وشعاع شمس اخترق العينين ، مجرى الصّبا وملعبه عرس الشباب وموكبه ، ومراد الرزق ومطلبه ، وسماء النبوغ وكوكبه وطريق المجد ومركبه.. ) .

وأنت اذا نظرت في كلِّ تعريفات الوطن والشعب، رأيت أن المعتقد والدين والسياسة، هي من الأمور التي لا علاقة لها في اكتساب الهوية الوطنية لشعب ووطن ، فالإنسان ينتسب الى شعبه ووطنه من خلال تلك الروابط الجامعة له مع غيره من بني قومه والتي نشأت في الغالب منذ ولادته. وتلك الروابط مع شعبه ووطنه، هي في الأصل سابقة على الدعوة الدينية التي جاءت إلى مجموعات بشرية لها شعوبها وأوطانها.

 وقد يستفاد هذا المعنى من آيات عديدة كقوله تعالى:

 (كان الناس أمّة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين …) البقرة-آية-213-

(وإن من أمّة إلاّ خلا فيها نذير ) فاطر-24-

.(وإنّه لذكر لك ولقومك ) الزخرف-44- .

فإن الروابط التي كانت موجودة بين أفراد تلك الجماعات، هي التي جعلت منهم أمّة، وهي التي جعلت منهم قوماً وشعباً في المرحلة السابقة على دعوة الأنبياء والرسل. وقبل اكتسابهم لهويَّة دينيَّة معينة كانت توجد لديهم حتماً من خلال تلك الروابط هوية وطنية لا علاقة لها بالدين. والدعوات الدينية كسائر الدعوات كان يؤمن بها بعض القوم ويرفضها البعض الآخر، وفي أغلب الأحيان كان الذين يرفضون الرسالة أكثر عدداً من المؤمنين بها كما يشير الى ذلك قوله تعالى في عدة آيات منها:

 (وأوحي الى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) هود-36-

 (ولكنَّ أكثر الناس لا يؤمنون ) غافر-59-

(ولقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون ) الزخرف-78-

ورغم هذا الإختلاف في الهوية الدينية، إلاَّ أنّ ذلك لم يحدث انقساماً على مستوى الهوية الوطنية والإنتساب الى القوم والأرض.فلم يقل فريق المؤمنين لفريق الرافضين لستم من قومنا وأرضنا وكذلك العكس.ولم يكن بإمكان فريق أن يسلخ الهوية الوطنية عن الفريق الآخر مع أنَّ الإختلاف كان يصل الى حد التضييق والمقاطعة وصولاً إلى الحرب المعلنة بينهما، وهذا ما جرى للنبي عليه أفضل الصلاة والسلام عندما أمره الوحي أن يقول لقومه الرافضين لدعوته:

 (لكم دينكم ولي دين ) أو عندما قال لقومه في الطائف: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).

 فقد بقيت تلك الهوية التي تجمعه مع قومه رغم إختلاف العقيدة بينه وبينهم. وهذا إن دلَّ على شيء، فهو يدلُّ على نحو المطابقة أو التضمين، على أن الهوية الوطنية التي يكتسبها الإنسان من قومه ووطنه، لا تلغيها هوية أخرى دينيَّة يكتسبها من الإيمان برسالة معينة. كما لا ينقص من قدرها وواقعها عدم اكتساب الهوية الدينيَّة المتأخرة عنها في رتبة الوجود والولادة، مع غضِّ النظر عن شرف مكانتها وعلو منزلتها في نفسها عند الله وعند المؤمنين بها .

ولذلك يقع التساؤل عن هذا الواقع الجديد الذي نشأ من خلال إيمان بعض القوم بالرسالة ورفض البعض الآخر لها وقد اكتسب بعضهم الهوية الدينية باعتناقه للرسالة، والآخرون الرافضون لها لم يكتسبوا الهويّة الدينية وقد حصل الإنقسام العقائدي والفكري بين أبناء الأمة الواحدة والجماعة التي كانت متَّحدة ووقع الإختلاف كما أشار الله الى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى:

 (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)يونس-19-

وقوله تعالى (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر …) البقرة-253- .

والتساؤل المطروح هو :ما هي الصِّيغة العمليَّة التي يمكن الإعتماد عليها في الجمع بين هذه الأفراد والجماعات التي اختلفت في الهوية الدينية والثقافية؟ .

 فهل تتوقف دورة الحياة الإجتماعية على وفاق غير موجود ؟!

 أم يستمر الصراع بين الهوية الدينية وغيرها من الهويَّات والثقافات حتى تحصل الغلبة لواحدة على ما عداها من هويَّات وثقافات؟!

أم أنه بالإمكان إيجاد صيغة من العيش الواحد بين هذه الجماعات رغم اختلاف الهويَّات الدينية وتعدد الثقافات أو اشتراكها ؟

 وبعبارة أخرى: هل من قاسم مشترك يجتمعون إليه ويأوون الى كنفه ويحفظ لهم وحدتهم وجماعتهم ويعطيهم الحق في الإحتفاظ بخصوصيَّات التعددية الدينية والثقافية ؟

هذا هو التساؤل الذي حاول الكثيرون من علماء الإجتماع والسياسة والقادة المصلحين الإجابة عليه، مستفيدين في ذلك من تجارب الحكم وأشكاله المتعدِّدة التي مرَّت على المجتمعات البشرية التعددية حيث لا يكاد يخلو وطن من الأوطان، ولا شعب من الشعوب، ولا أمَّة من الأمم من خصوصيَّة التعدُّد في الثقافات والأديان والآراء والأفكار وغيرها من الأمور.

وقد يشير الى هذا الإختلاف بمعنى التغاير والتفاوت والتعدد قوله تعالى:

 (ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّةً واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربُّك ولذلك خلقهم …)هود-119-.

 والذي يبدو من ظاهر جملة من الآيات القرآنية ومن السنة النبوية الشريفة وسيرتها أنّ بناء المجتمعات والأوطان يعتمد على الأمور التي تشترك فيها جميع المكوّنات في المجتمع والوطن وهي التي تكون منشأً لحقوق الأفراد والجماعات المتواجدة فيه وهذا ما ينسجم مع اعتماد الهوية الوطنية التي يحملها الفرد بصفته مواطناً يشترك معه في هذه الصّفة كلُّ الأفراد والجماعات وهي التي تكون منشأً لثبوت الواجبات عليه وعليهم تجاه الوطن والمجتمع. ولا نرى في الإسلام ما يتنافى مع اعتماد المواطنية قاعدة في نظام الحكم والإدارة وتوزيع الحقوق والواجبات بعدالة ومساواة بين المواطنين مع اختلاف هويّاتهم الدينيّة والثقافية بل يعدُّ اعتماد هذا الأمر موافقاً لقاعدة العدل والإنصاف المستفادة من آيات عديدة منها قوله تعالى:

 (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) النساء85،

وقوله تعالى:

(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) المائدة8…

ولا شك بأن العدالة المأمور بها في الآيات القرآنية منبثقة عن المساواة التي ينظر إليها القرآن الكريم على أنها موجودة بين جميع بني البشر الذين كرّمهم الله تعالى بقوله:

(ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا) الإسراء70،

 وعبّر عن المساواة فيما بينهم بقوله تعالى:

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات13،

 وقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) النساء1.

ويبدو أيضاً أن هذه المساواة في منشأ الخلق كانت مصدراً للمساواة في الحقوق الإنسانية التي ارتكزت عليها أحكام العدالة.

وإذا كانت المواطنية تعني المساواة بين المواطنين في اكتساب الهوية الوطنية التي كانت مصدراً للحقوق الوطنية، فهي تقع مورداً لتطبيق الآيات عليها، وهذا ما يظهر من وثيقة المدينة المنورة التي عقدها النبي مع مكونات المجتمع المتعدّدة فيها في بداية العهد الجديد وإقامة الدولة وتنظيم الشؤون فيها وقد كانت موطناً للأوس والخزرج واليهود والمهاجرين والأنصار، وقد كانت الهوية الدينية مختلفة بين هؤلاء ولكنّ الهوية الوطنية كانت الجامع المشترك فيما بينهم، وقد نظرت هذه الوثيقة إلى الجميع على أنهم متساوون بما في ذلك اليهود وقد تضمنت وثيقة العهد الجديد عقداً إجتماعياً أرسى قواعد الأخوّة بين المهاجرين والأنصار وحافظ على العيش المشترك مع غير المسلمين من اليهود وغيرهم من العرب الذين لم يؤمنوا بالرسالة بعد. وأعطتهم الوثيقة المساواة مع المسلمين في المصالح العامة وكفلت لهم حقوقهم على قاعدة التعايش مع الشريك في الوطن المستفادة من قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين) الممتحنة8.

فعندما تقول (الآخر) أو (الغير) أو (غيري) فهذا يعني وجود المختلف عنك وهو ليس بالضرورة المختلف معك وإن اختلفت الآراء والأفكار والمعتقدات فأحدكما يساويه الآخر في الإنسانية التي كانت مصدراً للمساواة في الحقوق وقاعدة للعدالة كما تقدّم ذلك من الآيات السابقة الذكر.

وعندما تقول أعيش مع غيري أو غيري يعيش معي فهذا يعني وجود شريك لك في العيش والوطن وفيما يستتبعه ذلك من حقوق و واجبات، وعندئذٍ يخاطبك الحديث: (أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره لغيرك ما تكره لنفسك). ولذلك يمكن القول أن وثيقة المدينة المنورة كانت عقداً اجتماعياً نظر إلى الذين يعيشون معاً على أنهم متساوون في  المواطنية ومستلزماتها بعيداً عن خصائص الدين والمعتقد. ويؤيد هذا المعنى الذي تقدم من المساواة ما ورد في السنة النبوية الشريفة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (الناس سواسية كأسنان المشط) و (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) و (لا فضل لأحمر على أصفر ولا لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). فإن المواطنين قد يختلفون في أصول أعراقهم وأديانهم وانتماءاتهم لكن المشترك بينهم في الوطن الواحد هي المواطنية وهم فيها على حدٍ سواء.

وبعبارة أخرى إنّ هذه النصوص وأمثالها مع شمولها لإزالة الفوارق بين شعب وآخر لا يعيشان معاً وبين أمّة وأخرى بعيدة عنها ولا توجد بينهما علاقات فكيف بالشعب الواحد والأمّة الواحدة التي يعيش أبناؤها بعضهم مع البعض الآخر في وطن واحد؟ فإنّ اعتماد ما يجمعهم في هذه الحالة يكون هو الأولى بالاعتماد والاتّباع في نظام الحياة معاً والعلاقات المشتركة .

والمواطنون هم المعبر عنهم في الفقه السياسي بالرعية كما جاء في جملة من النصوص الدينية منها: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته…) و (كل سائس إمام).. ومما يكشف عن إطلاق كلمة الرعية على المواطنين على حدٍ سواء وإن اختلفت انتماءاتهم الدينية ما ورد في كتاب الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر عندما ولّاه على أهل مصر وفيهم الأقباط غير المسلمين (أشعر قلبك المحبة للرعية واللطف بهم والعطف عليهم ولا تكوننّ سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان (أي الرعية، المواطنون) إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وقوله: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية). ولا شك بأن العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات الوطنية هي الأجمع لرضى الرعية (المواطنين)،وهذا يعني أن الحقوق المنبثقة عن الشراكة في العيش والوطن لا يتم توزيعها على أساس ديني وطائفي وإنما على أساس من الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع وعلى أساس من الشراكة الوطنية التي جعلت منهم رعية واحدة يستحقون الرعاية والحماية بلا تفاوت وهذا ما نعنيه ونقصده بالمواطنية التي يقوم عليها النظام السياسي الذي يساوي في تشريعاته وأحكامه وقوانينه بين المواطنين مع حق احتفاظ كل فرد أو جماعة بالخصوصيات الدينية والسياسية التي لا تتنافى مع العقد الإجتماعي الذي قامت عليه قواعد النظام.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

نص المحاضرة التي ألقاها العلامة المجتهد السيد علي الأمين في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض

في ندوة حول الهوية الدينية والوطنية و الثقافات المشتركة ضمن فعاليات مهرجان التراث و الثقافة الجنادرية

نشرت في جريدة المستقبل اللبنانية بتاريخ 11 آذار 2009