جريدة الجريدة الكويتية في حوار مع العلاّمة السيد علي الأمين:
القرآن والسنّة والتّصدّي للفتنة
المعارضة السياسية المطالبة بالحقوق ليست من الفتنة في شيء
جريدة الجريدة الكويتية – الاثنين 30 يونيو 2014
العلامة السيد علي الأمين أحد الأسماء الدينية البارزة في العالم العربي، له مواقفه واجتهاداته الفقهية في الدين والمسائل الدينية والسياسية، وله رأيه الحضاري والمختلف في قضية الفتنة والمذاهب والتيارات الدينية والحروب بين السنة والشيعة. معه هذا الحوار.
كتب الخبر:بيروت – محمد الحجيري
كيف رصد القرآن والسنة الفتنة وما وسائل تصديهما لها؟
وقوع الخلافات داخل المجتمع الواحد أحد الأمور المتوقّعة الحصول في ظلّ اختلاف الآراء والأفكار وتعدّد الرّغبات والطموحات التي تصل إلى حدود التناقض والتّضاد بين أصحابها، وهذا ما يحتاج إلى وضع الأسس المرجعية لمنع حصول التّصادم والنزاعات بين الأفراد والجماعات، ووضع الحلول لها على تقدير وقوعها، وقد تصدّى القرآن الكريم لوضع العلاجات لها بالنهي عن وصولها إلى درجة التنازع بقول الله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}. وبالعودة إلى مرجعيّة الحلّ كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
ومن خلال منهج الإسلام في الحكم والتربية الذي يقوم على مبدأ التآخي بين أبناء المجتمع واعتبارهم أمّة واحدة كما جاء في قول الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وقوله تعالى {إن هذه أمتكم أمّةً واحدة وأنا ربّكم فاعبدون}، وجاءت السنّة النبويّة الشريفة لتؤكد على هذا المعنى ابتداءً من تأسيس المجتمع الإسلامي في المدينة المنوّرة الذي ابتدأه الرسول عليه الصلاة والسلام بعقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وانتهاءً بوصيته في حجّة الوداع {لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض}، ومروراً بكل المواقف والتوصيات القائلة {كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه}. وقد استجاب المسلمون رضي الله عنهم لهذه التعاليم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله فكانوا خير أمّة أخرجت للناس واعتصموا بحبل الله جميعاً وأصبحوا بنعمته بعد العداوة إخواناً في دين الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
ما صحة حديث {الفتنة نائمة} وما حجم دوره في ممارسة المسلمين للسياسة؟
{الفتنة نائمة، ولعن الله من أيقظها} هو حديث مشهور، وهو يعبر عن حقيقة تصاب بها المجتمعات، والمقصود منه النهي الشديد عن السعي إليها، وعدم الدخول فيها، وقد نامت فتنة العصبيات والعداوات القبلية والمنطق الجاهلي الذي كان السبب في حدوث الصراعات الدموية وانتشار الظلم، وقد نامت تلك الفتنة بنعمة الإسلام ومنطقه الذي يقوم على العدل والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات ملغياً التفاضل في العنصر والعدد، وقال {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} و}لا فضل لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى}. والمستفاد من حديث الفتنة وغيره أن كل دعوة إلى شقّ الصفوف تؤدي إلى سفك الدماء وزعزعة الاستقرار وتعطيل النظام العام هي من الفتن التي يجب اجتنابها. أما المعارضة السياسية المطالبة بالحقوق والإصلاح فهي ليست من الفتنة في شيء، بل هي معارضة لازمة كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. وجاء في الحديث الحث على المعارضة السياسية {أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر}.
تحث الأحاديث النبوية على اعتزال الفتنة، هل هذا أمر ممكن؟
لا شك في وجوب اجتناب الفتنة بالمعنى المتقدم كما يستفاد من الأحاديث، والنهي خير دليل على إمكان اجتنابها، فإن التحذير من وقوع الشيء والدخول فيه يكون في الشيء الواقع تحت القدرة والاختيار، ويمكن اجتنابها من خلال تنظيم الخلافات والتزام القواعد الداعية للحفاظ على سلامة المجتمع وعدم تعريضه للأخطار.
هل صحيح أن الإسلام أمر باعتزال الفتنة وعدم التورط فيها ولو بتأييد أي جانب من المتصارعين؟
نهت الشريعة الإسلامية عن الفتن كتاباً وسنّة، والاعتزال المطلوب هو الاعتزال الإيجابي الهادف إلى عدم تأجيج نيرانها وزيادة اشتعالها، كما يفهم من بعض النصوص {كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهرٌ فيركب، ولا ضرعٌ فيحلب}، وهذه تعتبر الخطوة الأولى لمحاصرة الفتنة، وأما الخطوة الأخرى فتكون بالسعي إلى إطفائها ومنع استمرارها ولا يكون ذلك بالاعتزال السلبي الصامت الذي لا ينهى عنها ولا يبين وجوه الحق، ولذلك أمر القرآن الكريم بالإصلاح بالعدل بين الفئتين المتصارعتين كما تقدم بقوله تعالى {فأصلحوا بين أخويكم}، هذه هي القاعدة الأساسية، فإذا امتنعت الفئة الباغية عن الاستجابة لنداء الإصلاح وأصرّت على البغي فيجب حينئذٍ مع الإمكان العمل من خلال الدولة الناظمة للأمر على إيقاف البغي والعدوان حتّى تفيء إلى أمر الله وتستجيب لقواعد العدل والإصلاح.
هل الفتنة ترادف عملية الخروج على الحاكم أم هي خاصة بحالات الصراع داخل المجتمع؟
الفتنة بالمعنى الذي يؤدي إلى الفرقة والانقسام بين أبناء المجتمع الواحد والأمّة الواحدة هي شاملة لكل وجوه الصراعات الداخلية سواء كانت في مواجهة جماعة لأخرى أو في الخروج المسلّح على الحاكم، لأن ذلك كله يعتبر من الأسباب الداعية إلى اختلال النظام الذي يعرض المجتمع والأمّة لأفدح الخسائر والأخطار، وقد أثبتت التجارب الكثيرة في الماضي والحاضر حجم المفاسد الكبيرة الناجمة عن الصراعات الداخلية على السلطة بكل وجوهها، والوسيلة الوحيدة المقبولة في حلّ الخلافات الداخلية هي في الدعوة السلمية للإصلاح، وهذا ما يستفاد من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن النصوص الدينية الآمرة بالإصلاح بين الناس.
الربيع العربي… فتنة أم ثورة؟
حركات الربيع العربي لها أسبابها التي انبعثت من أمورٍ كانت تعاني منها شعوب تلك الدول والأنظمة التي لم تحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية لشعوبها، واستبد فيها الحاكم الأوحد والحزب الواحد باتخاذ القرارات وحصر السلطات واتسعت الفجوة بين الحاكم والمحكوم. ولا نشك في أصل شرعية الاحتجاجات على تلك السياسات ولا في حق تلك الشعوب في التعبير عن تطلعاتها نحو الحياة الأفضل. وقد كان لرفض حكام تلك الأنظمة المطالب المشروعة لشعوبهم واستخدام العنف والسلاح الأثر الكبير في خروج الربيع العربي عن طبيعته السلمية إلى ساحات الاحتراب والتقاتل الداخلي.
ولست أرى في الربيع العربي قانوناً يسري في كل الدول والأنظمة العربية وذلك لاختلاف الأمور بين دولة وأخرى وبين حاكم وآخر من حيث العدالة الاجتماعية والحريات السياسية التي يمكن تعزيزها من خلال العمل على المزيد من إشراك الشعب في العملية السياسية وإدارة البلاد عبر المؤسسات التشريعية ومن خلال تعزيز المواطنة بربط المواطن بالدولة ومؤسساتها مباشرة وليس من خلال الزعامات الشخصية والحزبية والمؤسسات الطائفية.
ما يحدث في سورية هل هو فتنة أم ثورة؟
طغيان العناوين الطائفية والمذهبية على الأحداث كان من بين أسبابه قيام بعض التجمعات العلمائية بإصدار فتاوى الجهاد والدعوة إلى نصرة الشعب السوري بالسلاح والمسلحين، وتدخل حزب الله الناتج من تحالف النظامين الإيراني والسوري ورفعه شعار الدفاع عن المقامات الدينية والقرى الشيعية في القصير، ودخول عمليات الخطف لأسباب طائفية ومذهبية… ذلك كله أدّى إلى صبغ الصراع باللونين الطائفي والمذهبي في سورية، ومن أهم تلك الأسباب التي هيّأت لولادة هذا المناخ الخطير اعتماد النظام على الخيار العسكري من أول الأمر واستمراره عليه وانجرار الثورة إلى حمل السلاح مما غيّب المطالب المشروعة للشعب السوري ومنطق الإصلاح وجعل منطق الغلبة هو السائد، وهو منطق يدفع الأطراف المتصارعة إلى الاستقواء بالعصب المذهبي والاصطفاف الطائفي. والمطلوب لإطفاء نار هذا الصراع المدمر للجميع والذي لن تنجو منه مجتمعات وشعوب المنطقة العمل على إنهاء هذا الصراع المسلّح ولزوم اقتناع النظام والمعارضة بأن السلاح لن ينتج سوى المزيد من الدمار لسورية والمزيد من الأحزان والآلام والتشريد للشعب السوري. وللخروج من الاحتقانات الطائفية والمذهبية فقد طالبنا باجتماع المرجعيات الدينية الفاعلة والمعتمدة في مصر والعراق والسعودية وإيران وسائر الدول العربية والإسلامية وإصدار فتاوى تحريم ذهاب المقاتلين إلى سورية، فإن فتاوى التحريم هذه تبطل الحجج الدينية والمذهبية للقتال باسم الدين والمذهب، وتساهم في إزالة الاحتقان الطائفي والمذهبي من النفوس، وتعمل على إخراج كل المقاتلين الموجودين على الأراضي السورية.
يعتبر البعض أن التعددية المذهبية سمحت لمزيد من الفرقة بين المسلمين وبالتالي انتشار الفتن بينهم.
حالة الاختلافات المذهبية التي تتصاعد باتّجاه العداوة بين الطرفين السنّي والشّيعي يظهر منها أنّها ليست ذات طبيعة داخليّة من منطقتنا، لأنّ التعدّدية المذهبيّة والطائفية كانت موجودة في المنطقة منذ قرون عدة، ولم نكن نسمع بالعداوات المذهبية والاحتقانات الطائفية. إن ضعف دول المنطقة وعدم ترسيخها لمنطق المساواة بين المواطنين في الحقوق هو ما يفتح النافذة للتدخّلات الخارجيّة التي تشجّع على نموّ حالات التّصارع المذهبي في المنطقة تحت شعار الحريات وحرمان طائفة لأخرى، وبذلك يضعفون الجميع ويشغلون الأمّة بعضها بالبعض الآخر.
ولذلك فإن المطلوب من الدول العربية والإسلامية وولاة الأمور فيهما العمل على إغلاق هذه النافذة وغيرها من نوافذ تزرع الفرقة والبغضاء في مجتمعاتنا بتعزيز منطق الدولة الحاضنة لكل أبنائها والتي تشكل المرجعية لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية، والعمل على إصلاح مناهج التعليم الديني بالشكل الذي يعزز الوحدة الوطنية والولاء للوطن.
الأمين: الإسلام كما جاء- إسلام بدون مذاهب
لا يخفى على باحث المدى الذي بلغه المسلمون بفعل استجابتهم لنداء الإسلام فقد أصبح العرب والمسلمون أمةً واحدة جمعها الانتماء العقائدي الواحد إلى الرسالة التي ختمت بها الرسالات السماوية، وقد تجسدت وحدتهم وأخوتهم في النفوس وانعكست سلوكاً حياتياً لهم وأصبحت الوحدة والأخوة من الخطوط العريضة التي شكلت لهم قاعدة انطلاق في شتى المجالات والميادين وركيزة من الركائز التي قام عليها فهمهم لأبعاد الرسالة وأهداف الشريعة السمحاء فكل حكم وكل دعوة لا تلتقي مع الوحدة والأخوة كانت مرفوضة لأنها تخالف مرجعية الانطلاق ومناخ الرسالة العام.
وقد تبدل النزاع بالوفاق والاجتماع، وتحولت العداوة والشحناء إلى المودة والإخاء وانتقلوا من الأفق الضيق إلى الآفاق الرحبة والواسعة من التفكير الذي كان يقتصر على الفرد وينحصر بالقبيلة على أبعد الحدود إلى التفكير بحياة الأمة وقضايا الجماعة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التحول بقول الله تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} (الأنفال-63).
وقد كانت هذه النعمة جليلة القدر عظيمة الأثر في تلك الجماعات التي لم تعرف قبل الإسلام معنى الوحدة في إطارها الشامل إلا من خلال الدعوة الجديدة، وقد أراد الله تعالى منهم أن يبقوا على ذكر من هذه النعمة لتبقى حاضرةً في أذهانهم ماثلة أمام أعينهم يرجعون إليها أساساً لقوتهم ودعامة لاستمرار مسيرتهم كما في قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءاً فألف بين قلوبكم وأصبحتم بنعمته إخوانا} (آل عمران-103). وقد أصبحوا بفضل هذه النعمة أصحاب قضية كبرى وغدوا أصحاب رسالة عظمى يتحملون أعباءها ويبذلون الأنفس والأموال في سبيلها متآزرين متعاضدين فكانوا: {خير أمة أخرجت للناس}، كما جاء في القرآن الذي وصفهم أيضاً بأنهم الرحماء بينهم والأشداء على الكفار يبتغون من الله فضلاً ورضواناً.
سر التحول
هذه الصورة الرائعة التي أصبحت سمة لتلك الجماعات بعدما كانت متصارعة تعيش الحياة القبلية تستدعي هذه الصورة التساؤل عن سر هذا التحول وعن العوامل التي أدت إلى هذه النتيجة التي تشبه السحر.
لا شك في أن الجماعات المختلفة والمتفرقة تحدث لها الوحدة عندما تكون لها القضية الواحدة وعندما تتهيأ لها القيادة الرائدة التي تشكل لها القدوة وتحدث لها الوعي والإيمان من خلال الالتزام بأعلى الموازين وأدقها والتحلي بالقيم حينئذ يحدث الانقلاب في حياة الأمم والشعوب فكيف إذا كان الكتاب هو القرآن الكريم الذي عبر عن القضية اللازمة ببيان ما بعده بيان وكيف إذا كانت القدوة قد تمثلت بالنبي محمد(ص) الذي ضرب أروع الأمثلة في الإخلاص والتضحية والثبات على المبدأ وليس بعد ثناء الله عليه من ثناء: {وإنك لعلى خلق عظيم}. وفي قوله تعالى: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} (الحجرات-7).
لقد استجاب العرب والمسلمون لنداء الحياة هذا فكانت لهم الحياة الجديدة وكان لهم الوجود الفاعل والمؤثر على صعيد المنطقة والعالم.
دور القرآن
وقد أدرك المسلمون أن القرآن الكريم بما اشتمل عليه من أحكام وتشريعات وتوجيهات وعظات لا ينتهي دوره في بناء الأمة وصناعة غدها المشرق بانتهاء حياة النبي (ص) عرفوا ذلك من النبي ومن القرآن نفسه كما جاء في قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} (آل عمران- 144).
وأدركوا أيضاً من خلال قوله تعالى: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت-42) أن القرآن باق مصدر عطاء لا ينضب وأنه الكتاب المعصوم عن الخطأ فهو مصدر للعلم والمعرفة ومرجع في معرفة الحق والباطل وتمييز الخطأ من الصواب وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة: {ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه ألا أن فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم}, وأنه {حبل ممدود بين السماء والأرض لا تفنى غرائبه ولا تنقضي عجائبه} وأنه {يجري فينا كما يجري الليل والنهار}.
وقد جرت سيرة السلف الصالح من المسلمين بعد رسول الله (ص) على اعتماد القرآن مصدراً للتشريع ومرجعاً لمعرفة الأحكام وفصل الخصومات وكانوا عندما يختلفون في حكم من الأحكام وفي قضية من القضايا يقول بعضهم للبعض الآخر هل عندك على ما تقول من كتاب الله آية أو من سنة نبيه رواية؟ وعند الإطلاع على أحد الأمرين يحسم النزاع وتنهي الخلاف وكانوا بذلك يجسدون حقيقة إيمانهم بحاكمية القرآن ورسوله من خلال قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم…} (النساء-65) وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر…} (النساء- 59).
لقد فهموا من الشرط في الآية أن الإيمان يكون بالرجوع إلى الله ورسوله والرجوع إلى الله هو الأخذ بكتابه والرجوع إلى رسوله هو الأخذ بسنته الجامعة، وقد أكدت هذا المعنى الكثير من الأحاديث مثل الحديث القائل: «إذا التبست عليكم الفتن كغياهب الليل المدلهم فعليكم بالقرآن»،
والحديث القائل {القرآن هو الحكم بين المسلمين إذا اختلفوا والدليل لهم إذا ضلوا}.
هذه المرجعية وهذه الحاكمية للقرآن مع تلك السيرة الصالحة من السلف الصالح على الرجوع إليه في فض النزاعات وفصل الخصومات هو الذي حصن الأمة من عوامل التمزق والانقسام وهو الذي كان يذكرهم بآياته المدوية بأنهم إخوان في دين الله وبهذا النهج والسلوك كانت تحل عقد الاختلاف وتترسخ روابط المحبة والائتلاف فالقرآن عندهم في موضع القداسة لا يختلفون في الحق الذي يظهره ولا في الباطل الذي ينكره.
الدين تام
لم ينتقل النبي الكريم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة كاملة غير منقوصة وقد أعلن القرآن الكريم عن هذه الحقيقة كما جاء في قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة- 5).
وقد جاء في الأحاديث الكثيرة أن الشريعة اكتملت وأنها شاملة لكل الحوادث والوقائع نظير ما ورد: {كل شيء فيه كتاب أو سنة}، أو {ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة حتى الأرش في الخدش}، ومنها ما ورد {إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج أليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لنبيه}، وفي بعضها {إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج أليه العباد}، ومنها {كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة}. وقد جاء في حجة الوداع عن النبي (ص): {ما من شيء يقربكم من الجنة إلا وأمرتكم به وما من شيء يبعدكم عن النار إلا ونهيتكم عنه}.
وعلى كل حال فإن تمامية الدين ثابتة بالكتاب والسنة وهي ليست موضعاً للخلاف بين المسلمين.
ومن خلال هذا الأصل المسلم والمتفق عليه بين المسلمين نعرف أن الصحابة والمجتهدين والتابعين وتابعي التابعين لم يكونوا من المشرعين بل كانوا يحاولون باجتهادهم الوصول إلى أحكام الله تعالى الثابتة والتي أداها الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وكلما ابتعدنا عن عصر الرسالة كلما أصبحنا بحاجة إلى الاجتهاد من أجل معرفة الأحكام الشرعية من خلال تحديد وسائل الإثبات وكيفية الاعتماد عليها.
* مذهب الصحابة والخلفاء الراشدين
لقد كان اعتماد الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون على الكتاب والسنة وقد كانوا يختلفون وإلى بعضهم البعض يرجعون وكانت الآراء تتعدد في ما بينهم فيؤخذ بالأقرب إلى الكتاب والسنة ولم يصل هذا التعدد في الآراء درجة المذاهب بل بقيت تلك المرحلة وما بعدها خالية من المذاهب فلم يكن لهم من دين سوى الإسلام ولم يكن لهم من مذهب سوى الإسلام فلم يكن مذهب علي ابن أبي طالب جعفرياً وشيعياً ولم يكن مذهب عمر بن الخطاب سنياً كما لم يكن الخليفة أبو بكر مالكياً ولا السيدة عائشة أم المؤمنين حنفية أو حنبلية وهكذا فلم يكن لسائر الصحابة والخلفاء من مذهب سوى الإسلام وفقط بدون أي قيد آخر وقد كان الجواب عند السؤال من الشخص عن دينه أنه الإسلام وأنه مسلم لا غير بدون أي قيد من القيود المذهبية
* ولادة المذاهب متأخرة
وعلى هذا النهج الذي ذكرناه سار الصحابة والتابعون وتابعوهم وعاش المسلمون في ظل هذه الأجواء زهاء ثلاثة قرون عندما اكتملت المذاهب بعد وفاة الإمام أحمد بن حنبل في سنة(241) هجرية وقد حصل هذا الاكتمال للمذاهب تباعاً وقد كان أولها مذهب الإمام أبي حنيفة ثم مذهب الإمام مالك ثم مذهب الإمام الشافعي وبعده مذهب الإمام ابن حنبل وقد كان كل إمام لاحق لا يرى لزوم اعتماد مذهب الإمام السابق عليه وإلا لما خرج عن إطاره بتأسيس مذهب آخر وعلى كل حال فإن الولادة المتأخرة للمذاهب هي موضع وفاق بما في ذلك مذهب الإمام جعفر الصادق بالمعنى المذهبي ولا شك أن الذي كان موجوداً قبل هذه المذاهب هو الإسلام بدون مذاهب وهذا ما نريد أن نرجع أليه ونعتمد عليه.
ومن هنا فإننا نقول إن المذاهب ليست قدراً لا يمكن تجاوزه، إنها مناهج في الاستدلال وطرق في الاستنباط والوصول إلى حكم الله تعالى في الوقائع والأحداث وقد كان الإسلام وكان المسلمون وكانت الآراء متعددة ولم يكن هناك مذاهب وما كان حاصلاً في الماضي يمكن أن يحصل في الحاضر والمستقبل. وهل كان للأئمة الأربعة أو الخمسة أو الأكثر قبل اعتماد مذاهبهم وانتشارها مذهباً غير الإسلام؟!
* اختلاف المناهج
عندما تكون الشريعة التي يجب التعبد بأحكامها واحدة ومع ذلك يقع الاختلاف في النتائج التي يتم التوصل أليها من قبل الفقهاء والمجتهدين فإن هذا الاختلاف يعني اختلافاً في المنهج المعتمد لتحديد وسائل الإثبات وسبل الوصول إلى الأحكام واختلافاً في طرق الاستدلال وليس اختلافاً في الأهداف الواحدة التي يسعى الجميع للوصول أليها وهي أحكام الله تعالى التي استودعها الله القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه على حد تعبير الإمام علي عليه السلام فكل من بذل وسعه من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي الواقعي كان معذوراً على تقدير الخطأ مأجوراً على تقدير الصواب بل هو بمعنى من المعاني مأجور على كلا التقديرين ومثاب في كلا الحالين.
وفي كلام مأثور عن الإمام مالك أنه قال: {إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة}. .وعن الإمام الشافعي أنه قال: {إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط}. وروي عن الإمام أبي حنيفة قوله {هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي غير هذا قبلناه}. وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل {لم لا تضع لأصحابك كتاباً في الفقه قال: ألأحد كلام مع كلام الله ورسوله؟}.
وقد ذكر الشيخ تقي الدين بن تيمية في جواب بعض المسائل: {… وهؤلاء الأئمة الأربع رحمهم الله تعالى أجمعين قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولون وذلك هو الواجب}.
ونقل عنهم بعض الأقوال التي نقلناها عنهم سابقاً كما جاء في كتاب جلاء العينين للألوسي وقد تأكد لنا مما تقدم وغيره أن الاختلاف يجب أن يعرض على الكتاب والسنة وأن هذا الاختلاف يعود إلى الاختلاف في المنهج وليس إلى التعدد في أحكام الله في الواقعة الواحدة بل حكم الله واحد وقد اختلفت المساعي والسبل التي توصل إليه باختلاف الفقهاء والمجتهدين الذين بذلوا وسعهم من أجل الوصول إليه.
(جزء من محاضرة)