جلسة رمضانية في جنوبية حاضر فيها العلامة #السيد_علي_الأمين عن دلالة عبادة الصوم وابعادها الاجتماعية بحضور ومشاركة عدد من أصدقاء #جنوبية
(شهر رمضان مدرسة الصبر والإيمان)
بسم الله الرحمن الرحيم
يعد شهر رمضان المبارك محطة سنوية لتطهير النفس وشحذ العزيمة وتقوية الإرادة وتربية الإنسان المسلم على الأخلاق الفاضلة و إضعاف نوازع الشر الموجودة فيها وإظهار عوامل الخير الكامنة في النفس وتغليب النزعة الإجتماعية المتفاعلة مع الآخرين والمتحسسة لآلامهم وحاجاتهم على نزعة التفرد والإستئثار، لأن الصائم هو الذي صام لسانه عن الشر وامتنعت جوارحه عن المعاصي ليستخدمها في إصلاح نفسه وصلاح مجتمعه.
وهذه الأمور هي من التقوى التي جعلها الله ثمرة للصيام كما جاء في قوله تعالى عن الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فلم تكن كتابة الصيام للإمتناع عن الطعام والشراب، بل كانت لأجل الحصول على التقوى وهي أم الفضائل ومجمعها.
فالـتـقيُّ لا يكذب وكذلك الصائم، والتقي لا يخون ولا يظلم غيره،و كذلك يجب أن يكون الصائم، والتقي هو الذي لا يغش ولا يخدع و لا يفعل الشر، والتقي هو الذي يتحلى بـالسلـوك المستقيم،وهو الذي يعدل في حكمه ومعاملاته وهو الذي ينصف الآخرين، وهكذا يجب أن يكون الصائم.
وما الإمتناع عن الطعام والشراب وبعض الشّهوات والرّغبات إلا محاولة لتدريب الصائم على أن يصل الى تلك الأخلاق الفاضلة التي تشكل دعامات المجتمع الصالح والسعيد،وهكذا نعرف أن الصوم مدرسة تعلم الفرد الصبر الجميل والإرادة القوية والأخلاق الفاضلة التي تساعد على تحقيق أهداف الخير للفرد والجماعة .
وقد جاء في بعض الأحاديث أن “رسول الله صلى الله عليه وآله سمع امرأة تسب جاريه لها وهي صائمة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بطعام فقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك!إن الصوم ليس من الطعام والشراب فقط ، وإنما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطِّرُ الصائم، ما أقلَّ الصوام وأكثر الجواع!” .
وفيها أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام:ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر .
وعن الإمام الصادق عليه السلام: ” إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودع المراء، وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك “.
وفي الإنجيل عن السيد المسيح عليه السلام(…ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين. فإنهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين.الحقَّ أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم.)
-وهذه الغايات النبيلة والشريفة التي يساهم شهر رمضان في إيجادها من خلال تهذيب النفس ووقايتها من حالات الضعف والسقوط أمام المغريات تؤهل الصائم للقيام بدوره خارج إطار ذاته في المجتمع الذي ينتمي إليه والذي لا يكتمل بناؤه إلا بتظافر الإرادات الخيرة التي يحملها أبناؤه. فعندما ينتصر الفرد والأفراد على ذواتـهم وعلى أنانيـاتـهم، يكون بإمكانهم أن يحققوا الإنتصار في معركة بناء المجتمع الصالح الذي يتكافل أبناؤه بعضهم مع البعض الآخر .
ومن خلال الحكمة التي يهدف إليها تشريع الصوم في شهر رمضان المبارك، يتبيّن لنا وينكشف أنّه ليس شهر التنافس على الطيبات ليلاً ،بعد الإمتناع عنها نهاراً.
وإذا كانت القاعدة العامة في الشريعة التي تحكم الطعام و الشراب هي قوله تعالى: ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين )، فإن تطبيقها في هذا الشهر يكون أكثر تأكيداً من بقية الشهور لأنه الشهر الذي تتضاعف فيه الطاعات في أجرها وثوابها والسيئات في جرمها وعقابها.
وقد ورد في بعض الأخبار أن الإمام علي عليه السلام قد أفطر عند بعض بناته فجاءت له بصنفين من الطعام فطلب منها أن ترفع أحدهما وقال لها: أتريدين أن يطول وقوف أبيك بين يدي الله تعالى.
وإذا رجعنا الى سيرة المسلمين في الصدر الأول من الإسلام وعلى عهد رسول الله (ص)، نجد أن شهر رمضان ما كان له عندهم برنامج غذائي مخصوص، بل كان دون بقية الأيام والشهور في المسألة الغذائية وكانوا يعتبرونه شهراً يحصلون فيه على الغذاء الروحي الذي يساعدهم على تحقيق الأهداف الكبرى لدينهم وأمتهم، ولذا تحققت في هذا الشهر المبارك جملة من الإنتصارات خارج إطار الذّات عادت بالخير على المجتمع عموماً.
ففي شهر رمضان، تحقق الإنتصار في معركة بدر الكبرى، وتحقق فتح مكة وتحرير أهلها من الظلم و العدوان. وهذا يكشف عن أن المسلمين الأوائل فهموا الصوم على أنه مدرسة لمجاهدة النفس التي تعتبر من الجهاد الأكبر،والتي تعتبر الوسيلة للتغيير والإصلاح في سبيل الدعوة وإنقاذ الإنسانية المعذبة والمقهورة.
وفي شهر رمضان ليلة القدر،وهي بمعنى التقدير والـتدبير و إتخاذ القرارات الحكيمة من الله سبحانه و تعالى التي قد تتعلق بمسائل الكون و الحياة و تصنع للبشر تاريخاً مشرقاً إذا أعتمدت تلك القرارات و تم العمل على أساسها.
وهي ليلة وجدت في عهد الأنبياء وهي باقية الى يوم القيامة كما جاء في بعض النصوص الدينية المروية عن رسول الله عليه الصلاة والسلام جاء فيها :
(أن رسول الله سئل عن القدر أنه شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل عليهم فيها الأمر فإذا مضوا رفعت ، قال : لا بل هي باقية الى يوم القيامة).
و في القرآن الكريم أنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم.
و من الواضح أن الأمر الحكيم له أفراد كثيرة قبل نزول القران الكريم و بعده وإلى يوم القيامة.
فبعث الأنبياء كان من الأمر الحكيم، و إنزال الكتب السماوية كان من الأمر الحكيم.
و لولا بعثة الأنبياء وما أنزل الله عليهم من الكتب والتعاليم لكان تاريخ البشرية غير التاريخ الذي نقرؤه.
فإن تلك الأحداث السماوية هي التي حولت مجرى الحياة البشرية من الظلمات الى النور و من الضلالة الى الهدى وهي التي أرشدت الإنسان الى سواء السبيل ومهدت له الطريق من أجل حياة تحكمها مبادىء الخير و مثل الحق.
وهناك نصوص دينية تتحدث عن علامات لهذه الليلة المباركة تظهر في الطبيعة قد يراها الإنسان في بعض الأحيان و يحس بها في أحيان أخرى، ولكن الجوهر الحقيقي لليلة القدر لا يكون في هذه المظاهر بقدر ما يكون في عزم الإنسان وتصميمه على عمل الخير لنفسه ومجتمعه،وهذا ما يؤهله لأخذ الجائزة من الرب في ليلة القدر،والى هذا المعنى تشير بعض النصوص الدينية الواردة بهذا الشأن عن الإمام محمد الباقر عليه السلام ( أن رسول الله إجتمع إليه الناس يسألونه عن ليلة القدر فقال إعلموا أيها الناس أنه من ورد عليه شهر رمضان و هو صحيح فصام نهاره و قام ورداً من ليله وواظب على صلواته و هجر الى جمعته و غدا الى عيده فقد أدرك ليلة القدر و فاز بجائزة الرب عزّ و جلّ ) فإن المستفاد من هذه النص الديني و غيره أن ليلة القدر تشمل أولئك الذين يقومون بالواجبات ويعملون الخيرات و يؤدون الطاعة لله عزّ و جلّ .
و على كل حال فإن ليلة القدر التي جعلها الله خيراً من ألف شهر بإعتبار ما يحصل فيها من إنجازات و تغييرات،لأن التفاضل بين وحدات الزمن ليس بإعتبار طول المدة وقصرها، وإنما بلحاظ المضمون الذي يحصل في تلك الوحدات الزمنية،وهي وإن كان يفرق فيها كل أمر حكيم،كما تقدم،ولكنها فيما يعود إلى الإنسان ليست قرارات سالبة لإرادته وإختياره فيما يتعلق بأعماله،فلا تعطل القوانين في حياة الإنسان ومسيرته،فهي لا تجعل من أسباب النجاح أسباباً للفشل،ولا من أسباب الفشل أسباباً للنجاح،وإنما هي ليلة فيها تجديد روحي للإنسان يدفعه إلى مزيد من التصميم والعزم على فعل الخير وعلى الإبتعاد عن الشر، وكما قال الله تعالى في القرآن الكريم ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) وبهذه الروحية يتهيأ الأنسان لإستقبال ليلة القدر التي تحمل شعار السلام كما جاء في سورة القدر من القرآن الكريم (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ) فهي تهدف الى تحقيق السلام للعباد من الآفات والشرور، وهذا يتطلب منا سعياً لأن نحقق أهدافها في أنفسنا و مع أبناء مجتمعنا و في وطننا وبذلك يصبح الوطن بجميع أبنائه موضعاً لعناية الله و لطفه في ليلة القدر.
وهنا لا بد من الـتـنبـيـه على أمر، وهو أن ليلة القدر ليست هي البساط السحري كما يتصوره بعض الناس وأنه ينتظر فيها المعجزة التي تنقله من الشقاء الروحي الى السعادة الروحية والإيمان والتي تنقله من الشقاء الدنيوي الى السعادة الدنيوية بدون عمل ولا إرادة و لا إختيار فإن الأنسان هو كائن له إرادته و حريته و إختياره فهو يطيع الله بإرادته وبإختيار سبل الإيمان وليس مكرهاً على ذلك،وهو الذي يحقق الخير أو الشر بإرادته و إختياره لأن المجبور على فعل الخير أو فعل الشر لا يستحق بنظر العقل ثواباً و لا عقاباً .
فليلة القدر لا تصنع المعجزة في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً إلا من خلال تصميم الفرد والمجتمع على العمل الصالح و إرادة الخير، وهذا التصميم الصادق والإرادة الراسخة يجعلان من الإنسان موضعاً للألطاف الإلهية التي تصدر في ليلة القدر وتجعله مشمولاً لقرار العفو الألهي الشامل عن المذنبين في هذه الليلة المباركة وقد جاء في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة و السلام( أنه إذا كانت ليلة القدر غفر الله ذنوب عباده إلا لرجل بينه و بين أخيه شحناء فيقول الله عزّ وجلّ أنظروا هؤلاء حتى يصطلحوا ) .
وقد سأل بعض الأحبّة عن تصفيد الشياطين في شهر رمضان وهناك: وساوس وذنوب ونزعات ودوافع شريرة واحلام مزعجة او غريزية وعدم حضور القلب في الصلاة وكثير من الذنوب !!! والجواب:أنه قد ورد في الأحاديث عن شهر رمضان المبارك أنه فيه تغلّ الشياطين وتصفد، والمقصود منها -والله أعلم- ليس المعنى الظاهر منها الذي يعني تكبيل الشياطين ومنعها من الإغراء بالذنوب والمعاصي لتصبح الطاعة من الإنسان قهرية،وإنما يقصد منها التنويه بعظمة شهر رمضان المبارك، فهو شهر الرحمة والمغفرة، وهو الشهر الذي تفتح فيه أبواب الرحمة، فتتضاعف فيه الحسنات التي يدخل بها العبد الجنة خلافاً لدعوة الشيطان إلى المعصية والنار.
فهو شهر في كل ليلة من لياليه عتقاء من النار، وفي آخر ليلة منه يعتق بقدر ما أعتق في كل لياليه،كما جاء في الأخبار. فلكثرة الفرص التي تتوفر في هذا الشهر لنوال الرحمة والمغفرة، وهو لكثرة العتقاء فيه من النار تبدو الشياطين بدون تأثير،فهي كالمكبّلة بالقيود والمصفّدة بالأغلال.
وقد ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه قال: “إن رسول الله صلى الله عليه وآله خطبنا ذات يوم، فقال: أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابة، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه. أيها الناس، إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله تعالى ذكره أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين. أيها الناس، من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه. فقيل: يا رسول الله، وليس كلنا يقدر على ذلك. فقال صلى الله عليه وآله: اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء. أيها الناس، من حسن منكم في هذا الشهر خلقه، كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عليّ ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور. أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم. قال أمير المؤمنين عليه السلام: فقمت فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل…”تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وجعلنا من الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.