حدُّ الإرتداد
يقول العلاّمة السيد علي الأمين في كتابه – زبدة التفكير في رفض السب والتكفير- حول هذا الموضوع:
والذي يظهر مما تقدّم من مواقف الإمام الصادق في حواره مع الزنادقة والمشكّكين ومن عدم دعوته لإقامة حدّ الإرتداد عليهم أن القاعدة الأوليّة لا تقتضي ثبوت عقوبة القتل حدَّاً عليهم،وهذه القاعدة تستفاد من القرآن الكريم الذي لم ترد فيه عقوبة دنيوية على المرتدّ كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى في سورة البقرة-٢١٧-
(..وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون) وقوله تعالى في سورة المائدة-٥٤-
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
وتشعر هاتان الآيتان أنّ حدَّ الردّة الذي ورد ذكره في كلمات الفقهاء وبعض الروايات لم يكن حكماً أوّليّاً له بعنوانه الخاص الوارد في القرآن الكريم، وأنه لم يكن على مقتضى القاعدة الأوّليّة المستفادة من آياته.
ومن خلال عرض تلك الروايات وبعض ما روي في كتب السيرة من تطبيقات لحدّ الردّة على ما تقدّم من آيات أن تطبيقه كان تدبيراً ظرفيّاً قام به وليّ الأمر دفعاً للمفسدة الأشدّ في بداية الدّعوة وكان مع انضمام عناوين أخرى إليه كما يظهر ذلك من حدّ المحارب، لأن المحارب ليس مجرد المنكر للعقيدة وإنما هو الذي اقترن إنكاره بالسعي للفساد في الأرض كما ورد في الآية المباركة في سورة المائدة-٣٣-
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وهذا يعني أن تطبيق حدّ القتل على المرتدّ كان مقترناً مع عمل جرميّ يستوجب العقوبة الدنيوية، وليس للإنكار المجرّد،فالمحارب لله ولرسوله ليس هو الخارج عنهما بمعتقده لساناً،بل هو الخارج عليهما عمليّاً بسعيه لزعزعة السلامة والنظام العام، وهذا ما تشير إليه رواية حادثة عبدالله بن أُبَيّ الذي آذى رسول الله بلسانه ولكنّ رسول الله رفض قتله عندما قال له بعض أصحابه دعني أضرب عنق هذا المنافق، فالسّعي للفساد في الأرض بالخروج المسلّح على نظام الشريعة يشكل تجسيداً عملياً لإنكار الشريعة وصاحبها، وهو ما تشير إليه أيضاً بعض الروايات في حادثة مقتل كعب بن الأشرف، فإن ما يظهر منها أن المسلمين لم يقتلوه لكونه يهوديّاً اعترض على رسول الله وأساء إليه بلسانه، وإنما لانحيازه بعد معركة بدر إلى المشركين المحاربين فغدا محارباً مثلهم، وهذا المعنى الذي ذكرناه عن حكم الإرتداد هو ما يظهر من موقف الإمام علي من الخارجي الذي حكم بكفر الإمام وعندما همَّ بعض أصحابه بقتله قال لهم(رويداً، إنما هو سبٌّ بسبّ أو عفو عن ذنب) وهذا ما تؤيده تلك الحوارات التي أشرنا إليها بين الإمام الصادق مع من سبق ذكرهم من أهل التشكيك والزندقة، وهي تعكس لنا أجواء الحوار والإنفتاح التي كانت سائدة في عصره مع المختلفين في الفكر والإعتقاد، وهذا هو الموافق لقاعدة نفي الإكراه في الدين المستفادة من آيات عديدة في القرآن الكريم منها قول الله تعالى:
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)البقرة-٢٥٦-
ومنها قوله تعالى:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)الكهف-٢٩-.
وقد كان دور الأئمة والعلماء تعليم الأمة لأحكام الشريعة ونشرها والدفاع الفكري عنها اعتماداً على أسلوب التبشير والإبتعاد عن طرق التنفير والتكفير، وكان تطبيق تلك الأحكام على الموضوعات وتنفيذها على الأشخاص متروكاً للسلطة التنفيذية من باب لزوم نظم الأمر والحفاظ على النظام العام الذي تحفظ به الحقوق، ولم يكن من حق أيّة جماعة دينية أن ترمي شخصاً بالكفر وأن تقيم عليه حدّاً شرعياً متجاوزة دور السلطة القائمة ، وهذا هو الخطأ بل الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها جملة من الحركات الدينية المعاصرة التي تحكم على غيرها بالكفر والارتداد وتعمل على تطبيق الحكم وتنفيذه بدعوى حاكميتها وتنفيذها لأحكام الله متجاوزة بذلك دور السلطة الناظمة للأمر والتي لا بد منها في قيام المجتمعات والدول والأوطان كما جاء في كلام الإمام علي (ع): (وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلّغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر)-1-
__________
1-كتاب زبدة التفكير في رفض السبّ والتكفير-ص-26-
تأليف العلامة السيد علي الأمين