السبت , نوفمبر 30 2024
الامين | دروس فقهيّة - التّقيّة .. معناها ومصادرها وموارد استعمالها

دروس فقهيّة – التّقيّة .. معناها ومصادرها وموارد استعمالها

دروس فقهيّة – التّقيّة .. معناها ومصادرها وموارد استعمالها

تطرّق العلاّمة السيد علي الأمين في دروسه الفقهيّة إلى بحث التقيّة وتفسيرها الفقهي ومعناها ومصادرها وموارد استعمالها وحول دفع الضرر والقضايا الإتفاقية ومما قاله سماحته في هذا الصددّ: 

دروس فقهيّة - التّقيّة..معناها ومصادرها وموارد استعمالها

 التّقيّة والتّقاة والتقوى ألفاظ لمعنى واحد وهو الوقاية والإحتراز، وهي مأخوذة من فعل(إتَّقَى)المشتق بدوره في الأصل من الفعل الثلاثي(وَقَى).                                
ومن الآيات القرآنية التي يستدل بها على تشريع التقية قول الله(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)آل عمران-٢٨-. وهذا التشريع لها في الآية المباركة لم يحدث شرخاً ولا مشكلة في علاقات المسلمين مع غير المسلمين قديماً وحديثاً، فقد قامت بين شعوب ودول الفريقين العلاقات الحسنة في مراحل عديدة وهي مستمرة إلى زماننا هذا وعلاقات العيش المشترك في بلادنا العربية والإسلامية تشهد لذلك ناهيك عن عيش ملايين المسلمين في دول غربية عديدة يحملون جنسياتها الوطنية، وما ذلك إلا لأن العلاقات في المجتمع البشري تقوم على أساس ظواهر الأقوال والأعمال وليس على أساس البواطن والمعتقدات.وإذا كانت التقية بالمعنى القرآني لم تمنع من قيام تلك العلاقات الحسنة بين المسلمين وغيرهم فبطريق أولى أن لاتمنع من ذلك بين المسلمين أنفسهم بعضهم مع البعض الآخر!.وهذا ما حصل فعلاً في حياة أئمة أهل البيت وخصوصاً الإمام جعفر الصادق الذي رويت عنه روايات كثيرة تحكي إيمانه بالتقية وقد كان الإنفتاح في عهده قائماً على أئمة المذاهب الإسلامية وسائر المدارس الفقهية وكانت علاقة الأخوة الإسلامية راسخة فيما بينهم على رغم تعدد الآراء الفقهية وتباينها أحياناً ولم يحصل تشكيك في ذلك كما تشهد له علاقات الدرس والمصاهرة وغيرها.ولكن الفهم المشوّه للتقية من قبل بعضهم عن قصد أو غير قصد يريد أن يجعل منها عائقاً أمام تقارب المسلمين وحاجزاً يمنع من ثقة بعضهم بالبعض الآخر مع أنها كانت موجودة بالطريقة التي اعتمدها الإمام الصادق كما بيّناها في بحثنا عنها وتفسيرنا لها بأنها كانت صيغة عملية لتقديم المشترك على الخاص وترجيح جانب الموافقة والإئتلاف على جانب الإختلاف في المسائل الفقهية مما يكشف عن اتساع الشريعة السمحاء لمختلف الآراء من الناحية العملية أيضاً، فالشريعة التي تفتح باب الإجتهادات لا تغلقه بانحصار العمل بالرأي الواحد ! فهي تقول بأن الرأي المخالف لا يفقد الأهلية لترتيب الآثار الشرعية عليه وإن كنت تعتقد خطأه اجتهاداً أو تقليداً،وبذلك يتم إبعاد منطق التعصّب للرأي واحتواء مخاطره. 

-التفسير الفقهي للتقيّة 

ولعلّ التفسير الفقهي المشهور لها عند الفقهاء يتحمّل قسطاً كبيراً من مسؤولية التشويه لمفهوم التقية حيث انطلقوا في تعريفهم لها من منطلقات الخوف الشخصي والضرر الطارئ على الأفراد مما أوحى أنها طريقة سرية لحفظ الشخص نفسه بإظهاره شيئاً لا يبطنه! ولذلك أخذ الفقهاء في تفسيرها دفع الضرر مع أنه لم يرد له ذكر في معظم النصوص الواردة في التقية والتي أعلن عنها الأئمة عليهم السلام بشكل واضح وظاهر، ولم تكن طريقة سرية وإنما كانت حكماً شرعياً يكشف عن تجاوز الأشكال المختلفة في أداء العبادات والمعاملات إلى وحدة الجوهر والمضمون الذي ينطبق على كل الأشكال والأفراد فليس جوهر العبادة ومضمونها في شكلها وإنما هو قائم في حقيقة المعبود الواحد والأمة الواحدة، فالتقيّة تريد أن تقول للجماعة التي اعتادت على شكل خاص في العبادة مثلاً أن هذا الشكل ليس نهاية العبادة التي لا تنحصر بهذا الشكل وبهذه الشروط، بل هي واسعة تشمل هذا الشكل وغيره من الأشكال الأخرى التي تتكافأ في الصحة ولذلك لم تكن الدعوة إلى الإتيان بها مخصوصة بظروف طارئة وإنما كانت دعوة شاملة لحالات الإرادة والإختيار، فالإمام الصّادق كان يدعو أصحابه وشيعته للذهاب إلى مساجد المختلفين معهم في شكل العبادة وإلى عشائرهم والصلاة بصلاتهم وقال إن المصلي خلفهم كالمصلي خلف رسول الله في الصف الأوّل وأنه كالمجاهد في سبيل الله، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى الصوم وأداء مناسك الحج ولذلك لم يرد عن الأئمة وجوب الإعادة لتلك العبادات بعد ارتفاع الظرف الذي استدعى إظهار الموافقة، وهذا يعني أن التقية ليست طريقة ظرفية سرية وإنما هي الطريقة الدائمة للبحث عن المشتركات والإبتعاد عن مظاهر الإنقسام والإختلاف حفاظاً على وحدة الأمة والجماعة، ومن المعلوم أن حاجة الأمة إلى الوحدة ليست حاجة ظرفية وإنما هي حاجة مستمرة ودائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولعله لأن الغاية من التقية هي الوحدة التي تتجلى في البحث عن المشتركات والأخذ بها عبر الإمام الصادق عنها (التقية ديني ودين آبائي) (ومن لا تقية له لا دين له) لأن الذي يرفض العمل بالتقية بهذا المعنى يرفض المشترك ويرفض الآخر وهو بذلك يخالف الوحدة التي تقع في طليعة الاهداف الدينية.

-التقية والكتمان

ومن خلال ماتقدم يتبيّن لك إنّ إظهار الإنسان لشيء يبطن خلافه ليس خصوصيّة شيعيّة وإنّما هي حالة موجودة في سلوكيّات الأفراد من مختلف الطّوائف والأديان والقوميّات وقد توجد في البيت الواحد والأسرة الواحدة بين الزّوج وزوجه، وبين الوالد وولده ،والأخ وأخيه ،والصّديق وصديقه ،وبين ربّ العمل والعامل، وهكذا… ولكن القاعدة العامّة المتّبعة بين البشر في علاقاتهم الأخذ بظاهر الأقوال والأعمال كما يشير إليه قول الله تعالى (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ).
وقد جاء في أحاديث السنة النبوية: أن رسول الله(ص) قال لأسامة (هلّا شققت قلبه !.)عندما قتل رجلاً في غزوة بعد قول الرجل( لا إله إلا الله) وادعاء أسامة بأن الرجل قالها تقيةً !.فإن ما يوجد في القلوب لا يعلمه إلاّ الله علّام الغيوب سبحانه وتعالى.
وجزء من المشكلة يتمثّل في عدم إدراك بعضهم لوصف التقية بالدين  كما تقدم في بعض الأحاديث التي تقدم ذكرها مثل (التقية ديني ودين آبائي)و(من لا تقية له لا دين الله ).فإن معنى الدين هنا ليس العقيدة والشريعة وإنما جاء بمعنى الطريقة المعهودة التي اعتمدها أئمة أهل البيت في الحرص على وحدة المسلمين والعمل على ما يجمع كلمتهم ولا يفرق جماعتهم إبتداءً من الإمام علي القائل ( لأسَلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ) واستمر أئمة أهل البيت على هذا المنهاج وعلى هذه الطريقة خصوصاً في بداية عصر المذاهب الذي انتشرت فيه روايات التقية عن الأئمة عليهم السلام.

-موارد العمل بالتقيّة

تقدم الكلام في البحوث السابقة عن معنى التقية ومصادرها الأساسية وهنا بعض الكلام عن مواردها وبالله التوفيق.
-التقية بمعنى موافقة الآخر في القول والفعل يتحقق موضوعها عند تعدد الآراء واختلاف الإجتهادات تقديماً لعوامل الإتفاق على عوامل الإختلاف ، وهي تسبغ الشرعية على الرأي المخالف من خلال ترتيب الآثار عليه باعتباره رأياً مشروعاً ناشئاً من النظر والإجتهاد في الكتاب والسنة، وهذا يعني أن من كان اجتهاده على خلاف رأيك أو رأي العالم الذي ترجع إليه تكون الموافقة له في مقام العمل محكومة بالصحة ومسقطة للتكليف .
وقد جاءت التقية بهذا المعنى في عصر ولادة المذاهب وتعدد الإجتهادات فكانت في تطبيقاتها على تلك المرحلة علاجاً من الناحية العملية لمفاعيل تلك الآراء المتعددة يمنع من تحويلها إلى صراعات تولد الإنقسامات في جسم الأمة ويفسح في المجال أمام حركة الفكر والإجتهاد غير المخالف لصريح الكتاب والسنة، فهي بهذا المعنى تقي الأمة من آثار الإختلاف في الرأي وتحفظ وحدتها ضمن تعدد الآراء والإجتهادات تطبيقاً لقوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) وهي بالمعنى الذي ذكرناه من الموافقة تكون تقيّة حافظة للأمّة من ضرر الإختلاف، ولذلك كان الإمام جعفر الصادق يطلب من شيعته الذهاب إلى الصلاة في المساجد مع من يختلفون معهم في بعض العبادات من ناحية الشكل كما تقدمت الإشارة إليه سابقاً .وهذا مما يدلنا على أن الإختلافات التي نشأت من تعدد المدارس الفقهية في كيفية تلقي النصوص ووسائل إثباتها وتباين الأفهام فيها لا تؤثر في صحة العبادة شرعاً ولا يجوز أن تفسد للدين قضية، فتلك العبادات تبقى واحدة في الجوهر وإن اختلفت في المظهر.وهذا ما يتفق أيضاً مع اليسر الذي جاءت به الشريعة الغرّاء .
وعلى سبيل المثال إذا كنت ترى في الوضوء اجتهاداً أو تقليداً أن مسح الرجلين هو الواجب وليس غسلهما، فإن هذا لا يمنع من الإئتمام بالصلاة بمن يرى غسلهما،  والعكس صحيح أيضاً، ويحكم بصحة الصلاة ، وهكذا هي الحال في سائر العبادات والمناسبات التي تتجلى فيها مظاهر الوحدة والجماعة وإن وقع الإختلاف الإجتهادي في أشكالها كما يشير إليه ما روي عن الإمام محمد الباقر(الصوم يوم يصوم الناس،والفطر يوم يفطر الناس،والأضحى يوم يضحّي الناس).

-التقية ودفع الضرر

ويبدو من كثرة نصوص التقية ومن صيغ المبالغة الواردة فيها، كصيغة (من لا تقية له لا دين له ) وما يشبهها- أن التقيّة التي كانت موضع مزيد من الإهتمام هي مرتبطة  بالمسائل الإجتهادية المختلف فيها بين الأئمة والفقهاء ذات الطبيعة الوحدوية من خلال مظهرها العام كالصلاة والصيام والحج  وغيرها من مسائل الخلاف التي قد يؤدي اختلاف الآراء المشروع فيها والتمسّك بها إلى تسلّل التباين والإنقسام إلى صفوف الجماعة الواحدة في الدين الذي تعتبر وحدة الأمة فيه من مقاصده الأساسية، وهذا يعني أن النظر في روايات التقية كان منصبّاً في الدرجة الأولى على هذه الناحية من الضرر الذي يمكن أن يصيب الأمّة في مظاهر وحدتها،وليست ناظرة  إلى حفظ الأفراد من الضرر الشخصي الذي يلحق بهم من إظهار معتقدهم وممارسة طقوسهم،لأنها حينئذٍ تكون حكماً عقلياً يعمل به أفراد العقلاء من باب وجوب دفع الضرر عن النفس الذي لا يحتاج إلى هذا المزيد من البيان،وقد أشار إلى هذا المعنى من الضرر الفردي الفخر الرازي في كتابه (مفاتيح الغيب)عند تفسير آية التقية التي أشرنا إليها في بحث سابق، وقد نقل رواية عن عوف عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال الرازي بعد ذلك وهذا القول أولى،لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.
ومن الواضح أن دفع الضرر عن النفس هو من الأحكام العقلية الفطرية المدركة بالوجدان والغنيّة عن البرهان، ولا تحتاج التقية بمعنى دفع الضرر الشخصي إلى هذه المبالغة في البيان لأنها بهذا العنوان يأتي بها الإنسان بطبعه وإن لم يكن من أهل الأديان . وقد عرفت من خلال ما تقدّم أن روايات التّقيّة ليست خاصّة بحال الإضطرار، بل هي عامّة وشاملة بدعوتها للقيام بالعمل الموافق في حالات الإختيار.
هذا ما يتعلّق بموارد التقيّة المستفادة من رواياتها في العبادات والمعاملات وما فيها من وجوه الإختلاف في العقود والإيقاعات.

-التقية والقضايا الإتفاقية

وأماالمسائل الأخرى الكثيرة كالمسائل السياسية والعلاقات الإجتماعية على تنوعها بما في ذلك الروابط العائلية فهي من المشتركات الحياتية بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ، وقد ورد عن الأئمة من التعاليم ما يدل على ضرورة ترسيخ التعاون وقيام أحسن العلاقات بين المسلمين انطلاقاً من قيم الإسلام الأخلاقية ولوازم الأخوة الدينية والإنسانية التي تقضي بالحفاظ على العيش المشترك بين مكونات المجتمع على اختلاف الآراء وهي ليست من موارد التقية ، وقد جاء في تلك التعاليم عن الإمام جعفر الصادق عندما سئل ( كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟فقال : تؤدون الأمانة إليهم،وتقيمون الشهادة لهم وعليهم،وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم).وفي بعض الروايات الأخرى يقول الإمام الصادق(…وأوصيكم بتقوى الله-عزّ وجلّ-والورع في دينكم والإجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوارفبهذا جاء محمد(ص) أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله(ص)كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم…) (…عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس …(…وأحبّوا للناس ما تحبّون لأنفسكم. أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جارُه حقَّه  ولا يعرف حقَّ جاره !.)(علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك،وأن يكون في حديثك فضلٌ عن علمك، وأن تتّقي الله في حديث غيرك). والروايات بهذه المعاني مشهورة وكثيرة،وهي بحسب وضوحها وصراحتها تأبى التأويل والحمل على غير ظاهرها ، وهي غير مشمولة للتقية بمعنى الموافقة على الإجتهاد المخالف لها ، لأن الإجتهاد المخالف لها مرفوض لمخالفته لصريح الكتاب والسنة كما يشير إليه قول الإمام الصادق في الرواية المتقدمة( ..فبهذا جاء محمد-ص-) وهذا يعني أن ما ثبت عن الرسول-ص- هو القاعدة التي يجب اعتمادها ولا تصح مخالفتها ولا تكون مسرحاً لتعدد الآراء والإجتهادات. وبعبارة أخرى أن هذه القواعد السلوكية التي تشير إليها تلك النصوص هي من القضايا المشتركة والمتفق عليها فلا تكون مشمولة للتقية التي تعني موافقة الرأي المخالف، فإنه لا خلاف فيها! فإنه لا خلاف في لزوم الصدق وقبح الكذب ولا شك في حسن الجوار والتواصل ولزوم أداء الأمانة والحقوق لأصحابها. وبذلك يكون عدم جواز العمل بالتقية في هذه الموارد من باب السالبة بانتفاء الموضوع كما يقال في علم المنطق.

ومن خلال ماتقدم يظهر أن التقية لا ربط لها بتلك القيم الأخلاقية والمبادئ السلوكية  التي تشكل أساساً في العلاقات الإجتماعية السليمة وهي واجبة في الشرع بلا خلاف من أحد. ولعل عدم توضيح هذه المسألة من قبل الفقهاء بالشكل المطلوب ساهم في تشويه مفهوم التقية وإعطائها معنى سلبياً مرادفاً للكذب يصل إلى حدّ الرياء في العبادة وغيرها في بعض الأحيان!  مع أن الإمام عندما حث على الصلاة في المساجد لم يطلب إعادتها بعد ذلك !. ومع أن الإمام الذي أمر بالتقية هو الذي أمر بصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار وغير ذلك من مكارم الاخلاق ومحاسن الخصال ! وهذا إن دلّ على شيءٍ فهو يدل على عدم شمول مقاصد التقية المشروعة لمثل هذه  الموارد من الفضائل الإنسانية ومسائل العلاقات الإجتماعية المتنوعة ومبادئها وأنها كانت ناظرة إلى الآراء الفقهية غير المخالفة لصريح الكتاب والسنّة كما يشير إليه قول الإمام الصادق عليه السلام(ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحداً:شرب المسكر والمسح على الخفّين ومتعة الحج). وقد ذكرنا سابقاً أنها كانت علاجاً للخلاف في المسائل الفقهية يحافظ على مظاهر الوحدة فيها وفي المجتمع ويصنع الوفاق والإنسجام بين أفراده ويسبغ الشرعية على الرأي المخالف ويصحّح العمل به .
ومن الشواهد على ذلك -وهي كثيرة في حياة الأئمة والمسلمين بعضهم مع البعض الآخر-أن اختلاف الآراء لم يمنع من حضور الإمام أبي حنيفة المجالس العلمية للإمام جعفر الصادق ، ولم يمنع ذلك الإختلاف في مسائل فقهية من تأييد الإمام أبي حنيفة للإمام زيد في ثورته وخروجه على الحاكم في عصره ، ولم تمنع التقية في موارد اختلاف الإجتهادات الفقهية من سائر العلاقات السياسية  والروابط العائلية والإجتماعية في شتى مجالات الحياة بين المسلمين .