ذكرى المولد النبوي دعوة لاجتماع الكلمة ولنبذ الإنقسام والفرقة
كلمة العلاّمة السيد علي الأمين في مولد الرسول الاكرم عليه الصلاة والسلام
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع انبياء الله والمرسلين وجميع عباده الصالحين لا سيما المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الاطهار وصحبه المنتجبين الأخيار والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين…
السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته…
أقدم لكم التهاني والتبريكات بهذه المناسبة المباركة مناسبة ولادة خاتم الانبياء عليه أفضل الصلاة والسلام سائلاً الله تعالى أن يجعل أيامها أيام خير ويمن وبركة على اللبنانيين جميعاً وعلى عموم المسلمين .
وبعد، فقد اعتادت الأمم والشعوب أن تقيم مناسبات لعظمائها ومحطات للمهم من تاريخها واذا كان من عظيم من العظماء، من عظماء البشرية فهو خاتم الانبياء عليه افضل الصلاة والسلام الذي ترك البصمات الخالدات ليس في حياة أمة أو جماعة وإنما في حياة البشرية جمعاء.
اعتادوا ان يقيموا لعظمائهم المناسبات ولذلك جرت العادة ان نقيم الذكرى لعظيم العظماء في البشرية محمد بن عبد الله عليه وعلى سائر انبياء الله افضل الصلاة والسلام .
نجعلها مناسبة لناخذ منها الدروس والعبر تربية للأجيال على تلك المعاني والقيم التي جسدها رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام في حياته وفي أمته وفي البشرية جمعاء.
فهو لم يبعث لقومية أو فئة وإنما بعثه الله تعالى رحمة للعالمين. ولذلك لا يكون مولد العظماء مناسبة تقتصر على فئة دون أخرى أو على جماعة دون أخرى وانما هي مناسبة للبرية جمعاء، ولذلك قال الشاعر القروي رحمه الله رشيد سليم الخوري في هذه المناسبة:
عيد البرية عيد المولد النبويّ في المشرقين له والمغربين دوي
عيد النبي ابن عبد الله من طلعت شمس الهداية من قرآنه العُلوي
بدا من القفر نوراً للورى وهدىً يا للتَّمدن عمّ الكون من بدوي
يا صاحب السيف لم تفلل مضاربه اليوم يقطر ذلاً سيفك الدموي
يا فاتح الارض ميداناً لقوته صارت بلادك ميدانا لكل قوي
من كان في ريبة من ضخم دولته فليتلُ ما في تواريخ الشعوب روي
يا قوم هذا مسيحي يذكركم لا ينهض الشرق الا حبنا الاخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة فبلغوه سلام الشاعر القروي
هذه الكلمات من معاني الذكرى العامة والشاملة كيف غدا النبي عظيم العظماء وكيف استحق ذلك الوسام الإلهي الرفيع: (وإنك لعلى خلق عظيم)، هذه المكانة الرفيعة التي وصل اليها رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام كانت تواكبها الرعاية الالهية والعناية الربانية منذ ولادته التي شكلت بداية لمسيرة النور التي انطلقت من جزيرة العرب لتحمل هذه الرسالة الى العالم.
لقد كانت معجزته الاولى قبل القرآن الكريم، هي تلك السيرة الحميدة وتلك الأخلاق الرفيعة التي تصنع من خلالها القيادات التغييرَ والاصلاح.
فليس التغيير عملاً قهرياً، وانما هو عمل يبتدئ من القناعة الراسخة بتلك القيم التي يجب ان تتحلى بها القيادة.
في ظل ذلك المناخ المتخلف أخلاقيا وفي ظل ذلك الانحطاط القيمي الذي كان يعيشه مجتمع القبائل العربية آنذاك، يحمل النبي صفة الصادق الأمين. هذه من الصفات التي شكلت منطلقاً في عملية الإصلاح والتغيير.
كيف يمكن ان يتحلى بتلك الاخلاق النبيلة شخص ولد في هكذا مجتمع لا يعرف معنى للقيم والاخلاق؟ هذه هي المعجزة!
عندما ذهب المسلمون الاوائل في هجرتهم الى الحبشة وفيهم جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه يسأله النجاشي ملك الحبشة بعد ان جاء مشركوا قريش يريدون ان يسترجعوا منه المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده فراراً بدينهم، قال النجاشي لهم: ما هو هذا الدين وما هي هذه الرسالة التي آمنتم بها ورفضها قومكم؟
فقال له جعفر ابن ابي طالب:
أيها الملك:
إنا كنا قوماً أهل جاهلية جهلاء، نعبد الأصنام (احجاراً نعبدها) ونأكل الميتة ونقطع الارحام ونسئ الجوار ونأتي الفواحش، ويأكل القوي منا الضعيف،فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لنوحد الله (قال لنا قولوا لا اله الا الله تفلحوا) فدعانا لنوحد الله ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان، وأمرنا بصدق الحديث واداء الامانة).
بدأ يذكر جعفر مبادئ الكتاب وأسس الدعوة الجديدة التي آمن بهاالمهاجرون الاوائل .
(…وامرنا بصدق الحديث واداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وامرنا ان نعبد الله لا نشرك به شيئا وامرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وآمنا به).
عندئذٍ قال النجاشي هذا ما قرأناه في سيرة السيد المسيح عليه السلام. إذاً، الملاحظة أنه في ظل ذلك المناخ الوبيء من القيم والاخلاق، النبي عليه افضل الصلاة والسلام كان الصادق الامين (فبعث الله رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وامانته وعفافه).
أن يتحلى بهذه القيم وبهذه المبادئ في ظل ذلك الظلام والظلم المستشري، هي معجزة قبل معجزة القرآن الكريم . يقول احمد شوقي رحمه الله:
يا جاهلين على الهادي ودعوته هل تجهلون مقام الصادق العلم
فاق البدور وفاق الأنبياء فكم بالخلق والخلق من حسن ومن عِظَمِ
لقيتموه أمين القوم في صغر وما الأمين على قول بمتَّهَمِ
هذه هي العظمة!، أن ينهض بتلك الامة التي كانت على شر حال كما يقول علي ابن ابي طالب عليه السلام:( بعث الله محمداً صلى الله عليه واله وانتم معاشر العرب على شرّ حال يغذو احدكم كلبه ويقتل ولده…) كانوا يقتلون الاولاد،قال الله (واذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت)…
كانت من احوالهم «اصنام معبودة وبنات موؤودة: (وانتم معاشر العرب على شر حال يغذو أحدكم كلبه ويقتل ولده تأكلون الميتة والدم، يُغير أحدكم على غيره فيرجع وقد أُغير عليه تسفكون دماءكم ويسبي بعضكم بعضا مُنيخون على احجار خشن «عاكفون على هذه الأحجار الخشنة تعبدونها» واوثان مضلة تأكلون الجشب وتشربون الماء الآجن تسفكون دماءكم ويسبي بعضكم بعضاً فألّف الله بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) .
عوامل النهضة
هذه الحال التي كان عليها العرب، كيف نجحت هذه الدعوة؟
يقول الباحثون بأن حصول النهضة في أمة من الأمم وفي أي مجتمع من المجتمعات هي بحاجة الى عوامل. لا يكفي أن ترفع شعاراً، وانما تحتاج الى مجموعة من العوامل لتنهض بأمتك ومجتمعك.
أنت بحاجة الى الكتاب، الى النظام، الى الدستور الذي تجتمع عليه الكلمة مرجعاً نرجع إليه ونحتكم عند الإختلاف إليه. لذلك عندما قال جعفر نحن كنا أمة بلا كتاب بلا قيم بلا مبادئ بلا نظام ننتظم فيه، فجاءنا رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام بتلك التعاليم التي شكلت نظماً لأمرنا ولجماعتنا التي كانت متفرقة ومفككة.
أ- فالكتاب الذي تنتظم به الأمور، يشكل أول مصدر من مصادر النهوض بالأمة والمجتمع من حالة التفكك .
ب- الأمر الآخر هو الإيمان بذلك الكتاب وبتلك الرسالة. لا يكفي بأن تنجح أمة بوجود كتاب أو رسالة أو نظام أو دستور لها، وإنما تحتاج الى الإيمان بذلك الكتاب تحتاج الى الإيمان بذلك النظام.لأن كتابا بدون إيمان لن يحدث شيئا على صعيد التغيير والاصلاح.
ج- الأمر الثالث هو الوعي. الوعي لأبعاد ذلك الكتاب، لمقاصد تلك الرسالة، لأهداف تلك الشرعة والشريعة. أن يكون هناك وعي لأنه بدون وعي لن ينفع الإيمان عندئذ شيئاً.
د- الأمر الرابع القيادة… القيادة التي تؤمن بتلك الرسالة وبذلك الكتاب وبذلك النظام. أما إذا كان القائد لا يؤمن بذلك الكتاب قولاً أو عملاً، فعندئذ أيضا لا يمكن أن تنهض الأمة وأن يتحقق الإصلاح والتغيير،لأنه القدوة.
وهذا ما تحقق للأمة آنذاك، هذه العناصر الأربعة وانضم إليها العنصر الآخر وهو سلوك الاتباع: إيمانهم ووعيهم لمضامين تلك الرسالة، إيمانهم جعلهم يهاجرون الى الحبشة بإيمانهم، اقتنعوا، وإيمانهم ووعيهم هو الذي أسس لنهضة الأمة آنذاك التي تحوّلت من إغارة بعضهم على البعض الآخر، حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس وغيرها مما يذكره التاريخ…تحول هذا المجتمع من غزاة إلى حملة رسالة ودعاة، وصاروا كما جاء وصفهم في القرآن (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ..) فقد جسدوا إيمانهم بالرسالة سلوكاً في حياتهم وفي علاقاتهم.
كانوا دعاة لرسالة، وما كانوا طلاب سلطة ومكانة. والتحدّي الأكبر الذي واجه النبي عليه أفضل الصلاة والسلام في قومه هو تحدي الفرقة والإنقسام الذي كان سائداً وموجوداً فيهم.
والقائد هو الذي يصنع الوحدة لأمته، القائد هو الذي يوقف سفك الدماء في أمته القائد هو الذي يصنع الحياة لأمته.
فمن الإعجاز أن توحد هذا المجتمع المنقسم والمتفرق والمتشرذم والمتصارع، وكيف تصنع منه أمة واحدة ومجتمعاً واحداً.
وحدة الأمة هو التّحدّي
ولذلك نقول للحركات الإسلامية ليس التحدّي في إنشاء أحزاب وحركات، التحدّي الذي يواجه هذه الحركات هو في قدرتها على توحيد المجتمع والأمة وليس على الصراعات على السلطة والمكانة.
في عهد رسول الله كان المؤمنون برسالته دعاة فجاءتهم المكانة وجاءتهم الدنيا. أما أن تتصف هذه الحركة بالدينية او الإسلامية أو غيرها وهي لا تصنع وحدة حتى لأتباعها أو لمجتمعها أو في وطنها هي حركة ساقطة في الإمتحان، لأنها في الحقيقة تكون قد تحولت من حركة دعوة وإرشاد إلى حركة باحثة عن السلطة والوجاهة والمكانة.
هذا الصراع الذي نراه في العالم بين حركات اسلامية، كما يجري في الصومال وفي ايران وفي العراق وفي افغانستان وفي لبنان أيضاً ،يجعلها حركات تصنع الفرقة والإنقسام في الأمّة والمجتمع. إن التحدي الحقيقي الذي واجهه رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام في أن يصنع الوحدة بين أبناء الامة المتباعدة، كما قال الله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخوانا).
هذه هي العظمة قبل الإعجاز القرآني، كيف وحّد هذه الأمة، كيف جمعها! كانوا الأعداء الألدّاء وإذا بهم يصبحون إخوة أحباء، هذه هي العظمة!.
الدّعوة هي الهمّ وليست السّلطة
ليست العظمة أن تصبح حاكماً أو وزيراً أو نائباً أو مسؤولاً، عظمة القيادة أن تصنع الإنجاز الأسمى للأمة، وأسمى الإنجازات هو إبعادها عن الإنقسامات وجعلها أمة واحدة متماسكة ومتعاونة على البر والتقوى ومبتعدة عن الإثم والعدوان ، هذه العظمة !
هذا هو الخطأ الذي وقعت فيه الكثير من الحركات الدينية. أنا أذكر في نعومة الاظفار عندما كنا نسمع بالحركات الدينية، كنا نتذكر حركة السلف الصالح في الدعوة والإرشاد والتوجيه. كان همُّ الحركة الإسلامية أن تأمر بالمعروف، أن تثقف الناس، أن تصنع لهم الوعي والوحدة والإلفة.
أما الآن، صار الهم عند بعض تلك الحركات الوصول إلى السلطة بكل ثمن، ولو كان هناك صراع واحتراب! لقد أصبحت حركات باحثة عن السلطة، وليس هدفها الأسمى الدعوة الى الله.
ولذلك عندما يدعو بعضهم الى مُثُلٍ او الى شعارات ولا يكون هو نموذجاً لها في حياته كيف يمكن أن يؤثر في مجتمعه وشعبه ووطنه.
هذه هي العناصر التي يحتاجها كل مجتمع، يحتاج الى النظام الذي نرجع اليه ونحتكم اليه كالدستور، ونحتاج الى الايمان بذلك النظام، ويبتدئ الايمان به من الكبار الذين يرفعون شعاره، ولا يكفي ان ترفعه شعاراً دون ان تجسده عملاً في حياتك وحياة اتباعك وانصارك، عندما تجسد ذلك تكون النهضة الحقيقية وعندئذ يكون الاصلاح الحقيقي.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه المناسبة مناسبة لإلفتنا ووحدتنا وإبعاد الشرور والانقسامات عنا ونسأله سبحانه وتعالى ان يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه،وكل عام وأنتم بخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر : – لتعارفوا – نشرة شهرية تصدر عن مؤسسة العلامة السيد علي الأمين للتعارف والحوار
26-02-2010
أوديتوريوم حسانة الداعوق – احتفال الكشاف المسلم في ذكرى المولد النبوي الشريف