نظرة موجزة في فقه
( العقوبات بين الآليات والمقاصد والغايات )
العلاّمة السيّد علي الأمين
يستفاد من أدلّة العقوبات أنّها شُرِّعَتْ صوناً للمجتمع وحفظاً للحقوق ودفعاً للمفاسد الكبرى المترتبة على تلك الأفعال الموجبة لها كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قول الله تعالى:
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
وقد قسّم الفقهاء تلك العقوبات إلى حدود وتعزيرات، والمقصود من الحدود عندهم هي العقوبات التي يوجد لها تقدير خاص في الشرع، والتعزيرات هي العقوبات التي لم يرد فيها تحديد خاص لمقدارها ويترك أمرها لنظر الحاكم وتقديره، وهناك من يشترط أن لا يتجاوز التعزير العقوبات المنصوص عليها في الحدود، وأن يكون دونها في المقدار.
- عقوبة الرجم
ومن تلك العقوبات عقوبة الرجم للزاني المحصن (المتواجد مع زوجته) وللزانية المحصنة (المتواجد عندها زوجها) وهي من العقوبات التي لم ترد في القرآن الكريم ، وإنما الذي ورد فيه بالنسبة إليهما هي عقوبة الجلد للزاني والزانية بدون تفصيل بين الإحصان وعدمه كما جاء في قول الله تعالى:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ). ويظهر من قول السيد المسيح عليه السلام في الإنجيل (من كان منكم بلا خطيّة فليرمها أوّلاً بحجر)، وجود عقوبة الرجم في الشرائع السابقة وهو ما ورد في العهد القديم أيضاً كما جاء في سفر التثنية 22: 21:
(يُخْرِجُونَ الْفَتَاةَ إِلَى بَابِ بَيْتِ أَبِيهَا، وَيَرْجُمُهَا رِجَالُ مَدِينَتِهَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى تَمُوتَ، لأَنَّهَا عَمِلَتْ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ بِزِنَاهَا فِي بَيْتِ أَبِيهَا).
وفي السنّة النّبويّة وكتب السيرة أخبار تحكي تطبيق عقوبة الرجم على عهد رسول الله -صلّى الله عليه وآله- في حالات معدودة وكذلك في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وقد ادّعى الإجماع على ثبوتها غير واحد من الفقهاء وأنكرها بعضهم.
- الإحراق بالنار
ومن العقوبات التي لم ترد في القرآن الكريم عقوبة الإحراق بالنار وإن وردت في أحاديث من السنّة النّبويّة في بعض الموارد.
وفي العهد القديم من الإنجيل ما يدلُّ على أن القدماء كانوا يستعملون النيران للقصاص.
فقد كانوا يحرقون المحكوم عليهم بالإعدام (ار 29: 22 ودا 3: 20 و21). وقد استمرت هذه العادة حتى القرون الوسطى. وكانت الشريعة تأمر بحرق الرجل الذي يتزوج من امرأة وأمها وابنة الكاهن التي زنت: ( إذا اتخذ رجل امرأة وأمها، فذلك رذيلة، بالنار يحرقونه وإياهما) (لا 20: 14) و (“إذا تدنست ابنة كاهن بالزنى، فقد دنست أباها بالنار تحرق) (لا 21: 9).
والعقوبة التي لم ترد في القرآن الكريم كحدّ الرجم وحدّ المرتدّ يقع الكلام في أنها هل هي تشريع ثابت لهذه العقوبة؟ أم أنها كانت من باب التدبير المؤقت الذي اختاره الحاكم لظروف وأسباب خاصّة ينتهي بانتهائها؟ وتندرج حينئذٍ تحت باب التعزيرات التي يترك فيها الأمر للحاكم كما تقدّم.
وكذلك يقع الكلام في الآليات والكيفيات التي ذكرت في تنفيذها من حيث لزوم الإعتماد عليها أو تركها واعتماد غيرها مما تتحقق به الغاية.
ولذلك فقد بحث بعض الفقهاء في كتاب الحدود ونظام العقوبات في أمرين:
الأول: في انحصار العقوبة بالمنصوص عليها وعدمه.
والثاني: في وسيلة التنفيذ.
ومنهم من يذهب إلى عدم الإنحصار بها إنطلاقاً من مقاصد تلك العقوبات ومن أن الأدلّة لم تكن في مقام التعيين والحصر بها عند ذكرها، وإنما كانت في مقام الإعتماد عليها بما هي من الوسائل الرادعة، وليس لانحصار الردع بها، ولذلك لم تنحصر الأفعال الموجبة للعقوبة بتلك الأسباب المنصوصة، بل كانت في مقام ذكرها باعتبارها من الموجبات البارزة، ولذلك ثبتت موجبات أخرى اندرجت في باب التعزيرات، ويقال نفس هذا الكلام في العقوبات أيضاً، وعليه فإن كانت هناك عقوبة أخرى يتحقق بها الردع فلا موجب للإنحصار في المنصوص عليها.
والحاصل أن مقاصد العقوبة في الشريعة هي الردع والتّأديب كما يستفاد من مجموع أدلّتها، وليس هناك من غاية أخرى وراء تشريعها، فهي ليست نظير العبادات المعدودة عند الفقهاء من الواجبات التّعبّديّة والأمور التوقيفية التي يقتصر فيها على صيغتها الواردة عن صاحب الشرع.
والحدود لا تختلف عن التعزيرات في المقصد والغاية، فكما أن التعزيرات تُرِكَتْ لتقدير الحاكم لما يتحقق به الردع، فلماذا لا يكون ذلك في الحدود أيضاً بلحاظ تطبيقاتها ومقاصدها ووسائل تنفيذها، ومجرد التسمية لهذه بالحدود ولتلك بالتعزيرات لا يحدث فرقاً جوهريّاً بينهما في المقاصد والغايات.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله -صلّى عليه وآله-: (إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
وهذا الحديث الذي نخرج به عمّا دلّ على انحصار وسيلة التنفيذ بالسيف أو الرجم أو الإحراق إلى غيرها مما هو أحسن منها، كذلك يمكن أن نخرج به عما يمكن أن يكون مشعراً بانحصار العقوبة بكيفية ومقدار خاصّين من خلال العموم الحاكم على تلك الأدلة في قوله صلّى الله عليه وآله: (إن الله كتب الإحسان في كلّ شيء).
ومن خلال ما تقدّم ينظر إلى الكيفية الخاصّة الواردة في حدّ الحرابة الذي ذكر فيه القتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل كما جاء في قوله تعالى(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهي من الكيفيات التي لا تختصّ بالقرآن الكريم فقد وردت في العهد القديم أيضاً: سفر صموئيل الثاني 21: 9:
(وَسَلَّمَهُمْ إِلَى يَدِ الْجِبْعُونِيِّينَ، فَصَلَبُوهُمْ عَلَى الْجَبَلِ أَمَامَ الرَّبِّ. فَسَقَطَ السَّبْعَةُ مَعًا وَقُتِلُوا فِي أَيَّامِ الْحَصَادِ، فِي أَوَّلِهَا فِي ابْتِدَاءِ حَصَادِ الشَّعِيرِ).
وسفر صموئيل الثاني 4: 12:
(وَأَمَرَ دَاوُدُ الْغِلْمَانَ فَقَتَلُوهُمَا، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَأَرْجُلَهُمَا، وَعَلَّقُوهُمَا عَلَى الْبِرْكَةِ فِي حَبْرُونَ).
- بين المحارب وأسير الحرب
والمحارب عند الفقهاء هو الذي يشهر السلاح ويعتدي على الناس قتلاً وسلباً ويروع الآمنين ويقطع السبيل ويزعزع الأمن والإستقرار في المجتمع ويسعى للفساد في الأرض، وهو قريب من معنى الإرهابي بالمصطلح السياسي في أيامنا، ويختلف المحارب في المعنى والحكم عن أسير الحرب في اصطلاحهم كما سيأتي حكمه.
وهذه العقوبة للمحارب لا يستفاد من أدلتها الحصر بها كمّاً وكيفاً، بل يمكن تجاوزها إلى ما يحقق الغاية من تشريعها وهو الردع الذي يحصل بالقصاص قتلاً، وقد ورد في بعض النصوص أن المحارب يُقتل إذا قَتل وليس مطلقاً، وهذا يشعر بالخروج عن ظاهر الآية في التخيير بين القتل وغيره مما هو مذكور في الآية.
والذي يظهر من آية المحارب أنها في مقام بيان الإستحقاق للعقوبة وليست في مقام بيان وجوب التنفيذ للشكل المذكور، فإن الشكل قد يكون وارداً أحياناً لبيان المزيد من الردع والتغليظ في العقاب لتحقيق الإبتعاد عن هذه الجريمة النكراء، وليست هي في مقام بيان وجوب التنفيذ على النحو الوارد في الآية.
وعلى كل حال فهي غير ناظرة إلى أسير الحرب وغيره من الأبرياء الخارجين عن الآية المذكورة، قال الله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا) وجاء في الحديث: ( وقد اشتدّ غضب الله على مَنْ ظلم من لا يجد ناصراً غير الله، وأفحش الظلم ظلم المستسلم) وقال تعالى: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)وهذا مما يدل على أن قتل الأسرى والأبرياء -من كل بني البشر-وتعذيبهم هو من الظلم الذي نهت عنه الشريعة نهياً قاطعاً، وقد ورد في أخبار السيرة أن رسول الله-صلى الله عليه وآله- قد عفا عن أسرى معركة بدر الذين كانوا من المشركين، وهذا ما ينسجم مع ما ورد في القرآن الكريم من التخيير في حكم الأسرى بين تحريرهم منّاً أو مع الفدية كما جاء في قوله تعالى:
(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)
وبالحديث المتقدم: (إنَّ الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) يتم تفسير ما ورد عنه صلى الله عليه وآله من قوله لأبي جهل في مكة (جئتكم بالذبح) عندما ألقى عليه بعض الجهلة قطعة من حيوان، فهو كلام لبيان طريقة الذبح للحيوان الذي يراد أكله، لأنهم كانوا يأكلون الميتة والمنخنقة والمتردية والموقوذة، وليس لهم معرفة بطريقة الذبح، ولم يكن النبي في مقام التهديد بالذبح لهم كما فهمه البعض، فإن مكة كانت داراً للدّعوة، ولم يكن النبي فيها في الموقع الذي يسمح له بالتهديد بالحرب والذبح، وقد وردت عقوبة الذبح في الإنجيل: (أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي).
- المماثلة في العقاب
وما ورد في سورة البقرة من قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وفي سورة النحل:
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ)، ليس تشريعاً للمماثلة في العقاب والإعتداء، فإن الرد على العدوان لا يكون اعتداءً، وإنما هو مجازاة على فعل المعتدي، وقد أطلق عليه نفس الإسم من باب المعنى المجازي لا على نحو الحقيقة كما يقول علماء البيان، فالكلام في الآيتين ناظر إلى أصل استحقاق الفاعل للعقاب لا إلى كيفيّته، فلو مثَّل المعتدي بالجثة فهذا لا يعني جواز التمثيل بجثّته. وبالجملة فإن معاقبة المعتدي تبقى محكومة للأدلة الناهية عن تجاوزها.
والتوسّع في موضوع الكلام بالنقض والإبرام موكول إلى مباحث علم الفقه، والله سبحانه وتعالى هو الأعلم.
المصادر:
نشرة لتعارفوا