كلمة العلاّمة السيد علي الأمين في مؤتمر أي عروبة تصح في القرن الواحد و العشرين – البريستول
إضغط لتشاهد على الـ Youtube الجزء الأول الجزء الثاني القصيدة
ظهرت في بدايات القرن الماضي في بلادنا العربية مسألة العروبة وكثر الحديث عنها كرابطة قومية تجمع الشعوب العربية خصوصاً بعد تقسيم الوطن العربي الذي أعقب سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ونشأت بعد ذلك دول وأحزاب وتنظيمات تبنَّت مسألة العروبة ورفعت رايتها وإن اختلفت الآراء والأفكار في النظرة اليها والمقصود منها.
وقد ألبستها تلك الدعوات، ثياباً مختلفة فبعضها ألبس العروبة لباساً أيديوليوجياً مغايراً للأيديولوجية الإسلامية الّتي حمّلوها السلبيات التي أدّت للتخلّف وسقوط نظام الخلافة العثمانية، فاستعدى هذا الطرح الجديد للعروبة، الأحزاب والجماعات الإسلاميّة والمرجعيّات الدّينيّة وأثار مخاوفهم حتى وصل الأمر إلى حدِّ التكفير لدعاة العروبة الذين أعطوها مضموناً معادياً للدّين.
وبعض الدّعاة إلى العروبة ألبسوها لباس القومية التي قامت على فلسفة العنصر العربي وامتيازه كردَّة فعل على ممارسات الدولة العثمانية ضدَّ العرب، فاستنفر هذا الطرح العصبيَّات الأخرى الموجودة في الوطن العربي والتي تعتبر من مكوناته البشرية والثقافية .
ومنهم من طرح العروبة وألبسها لباساً دينياً وساوى بينها وبين الإسلام فأخرج بهذا الطرح أهل الكتاب من العرب وغيرهم مع كونهم جزءاً أساسياً من المشرق العربي وبينهم وبين المسلمين أخوَّة التاريخ والجغرافيا والمصير.
ولا شك بأن مثل هذه الطروحات قد أساءت الى الرابطة العروبيَّة مفهوماً وقضيَّة خصوصاً تلك الممارسات التي نجمت عنها وحصلت باسمها وتحت رايتها كما حصل في بعض الأقطار العربيّة التي حُكمت باسم العروبة القوميَّة.
وقد أثبتت تلك التجارب العروبيّة التي مرّت في القرن العشرين، فشل تلك النماذج والطروحات التي تجاوزت وحدة المشروع السياسي إلى أيديولوجيات يراد فرضها بالقوة والإكراه فتراجعت بذلك شعاراتها القوميّة الواسعة والفضفاضة، إلى القطرية الضيّقة بعد الوصول إلى السلطة، وأنتجت قمعاً في الداخل القطري لكلِّ معارضة من العرب وغيرهم من المواطنين. وفي علاقاتهم الخارجيّة مع العرب الآخرين، لم تمنعهم عروبتهم أحياناً من إظهار الطّمع في ابتلاع الشقيق،كما لم تمنعهم عروبتهم أحيانا أخرى من الهيمنة على الأخ ومعاملته كالرّقيق.
ولم يصل العرب من خلال تلك الشعارات التي رفعوها عن العروبة، إلى حدٍّ أدنى من التضامن، فضلاً عن الوحدة التي حملوا شعارها وزعموا النّضال من أجلها منذ عقود عديدة.
هذا من الإرث الثقيل للعروبة الّتي طرحت في القرن العشرين الذي يجب أن نضعه في إطار نقدي تصحيحي جاد – وهذا ما تقومون به مشكورين في مؤتمركم هذا – بحثاً عن الصحيح منها من خلال الدراسة وإعادة النّظر في تلك التطبيقات لمفهوم العروبة لنخرج بصيغة مقبولة عن عروبة حضاريّة بعيدة عن جدليّات القرن الماضي حولها، وبعيدة عن الممارسات التي أساءت إليها وعن الإخفاقات الّتي وقعت فيها.
وعلى الرّغم من كلّ ما مضى من تجارب سياسيّة وسلطويّة باسم العروبة في القرن العشرين فإنّ الشّعوب العربيّة، لا تزال تؤمن إيماناً لا شكّ فيه بأن هناك ما يجمع بينهم وأنّ بحثهم عنه ليس بحثاً عن سراب، بل هو سعي للإمساك بالحقيقة الموجودة في أنفسهم وبين أيديهم وإقامة البنيان عليها وإن تباعدت المسافات واختلفت الأنظمة وتعددت الطروحات .
ويتمثل ذلك الشيء الذي يجمعهم بروابط التاريخ واللغة والجغرافيا ووشائج القربى ومصادر الثقافة ووحدة المصير، وإن اختلفت المعتقدات وتعدَّدت الآراء والأفكار.
وفي الوقت الذي يصغر فيه العالم على كبره واتّساع رقعته ليصبح بالتواصل والإتصالات كالقرية الواحدة والمدينة الواحدة، وفي الوقت الذي تعمل فيه دول متعدِّدة القوميات والشعوب على إزالة الحواجز بين شعوبها وبلادها وتسعى لإيجاد التعاون والتكامل ضمن اتحادات تجمعها بعد أن تصارعت قروناً فيما بينها، فلا يمكننا بعد كلِّ هذا الذي نراه في العالم من حولنا إلاّ أن نتحدث عن تعاون وتماسك أمَّتنا الواحدة في وطنها العربي الكبير بكلِّ مكوِّناته البشرية والثقافية، ولا نجد رباطاً أشدّ وأقوى من رباط العروبة الذي يجمع الدوّل العربية وشعوبها، وهو الأساس الصالح لجمع شملها وتظهير وحدتها وتعاونها وتضامنها وصولاً الى اتحادٍ عربيٍ كبير يزدادون به قوّة ويحفظ لهم مكانتهم التي تليق بهم في عالم يذهب نحو التطور والتواصل باستمرار .
إنَّ العروبة التي نريدها في القرن الواحد والعشرين، هي التي تستفيد من تجارب الماضي وتتجاوز الأخطاء لتصحيح المسيرة وبناء المستقبل، إنها العروبة الجامعة لكلِّ المكونات البشرية الموجودة في الوطن العربي والثقافية الآخذة بالحريات الدينية والفكرية والسياسية التي يقوم عليها بناء الدّولة الحديثة و العصريّة.
والعروبة أيها الإخوة والأخوات كما نفهمها، ليست على تلك الحال من التعقيدات والتنظيرات التي تدخلنا في عالم الجدل والجدليّات العقيمة الّتي تبنى عليها الأحكام الباطلة : إنّها ذلك النّداء الداخلي المنبعث من أعماقنا الذي يدعونا للتآلف والوحدة والإنسجام والذي يخاطبنا بالإبتعاد عن التّفرّق والعصبيّة والإنقسام، إنّها عروبة الصّدق والصّداقة، وعروبة الحقّ والحقيقة، وعروبة العدل والعدالة، وعروبة حماية الجار وحسن الجوار، وعروبة الوفاء والإخاء، وعروبة الشّجاعة والإباء ونصرة المظلوم ورفض العدوان، إنّها عروبة التّمجيد لهذه القيم والتّمسك بها وبأمثالها من القيم السّامية التي شكّلت الأرض الصالحة لاحتضان رسالات السّماء ودعوات الأنبياء فأصبح أهلها خير أمّة أخرجت للناس أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وإيماناً بالله ورسله. إنها تلك الدّموع الطاهرة التي ذرفتها عيون الأجداد لتجمعهم وتغسل خطاياهم وأخطاءهم بعد الإحتراب كما قال عنهم شاعرهم:
إذا احتربت يوماً وسالت دماؤها
تذكّرت القربى فسالت دموعها
هذا هو المضمون القيمي للعروبة التي صنعت تاريخنا المجيد والتي جمعت بين المناذِرة والغساسِنة، وبين العرب العارِبة والعرب المستعرِبة.
تلك العروبة بمضامينها الرفيعة ومبادئها الرائعة، هي التي نريدها في القرن الحادي والعشرين ولا نريد عروبة الأيديولوجيات التي تحوّلنا في الوطن الواحد إلى إثنيات وأقليات وأكثريات، إننا نريد عروبة التعاون على البر والتقوى وعروبة الوحدة والتضامن التي يرهبها الأعداء ويحترمها الأصدقاء ويطمئن إليها الأشقاء ولا يطمع فيها الغرباء. إنها عروبة حوار الحضارات والأديان والثقافات، وهي العروبة التي دعا إليها شيخ العرب وحكيم حكمائهم جلالة الملك عبد الله خادم الحرمين الشريفين، وهي العروبة التي جسّدها وكان نموذجاً لها الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله، ليس فيها انغلاق على قومها وانطواء على ذاتها، عروبة عابرة للطوائف والمذاهب والأحزاب والأديان يتم من خلالها توطيد أحسن العلاقات مع الأشقاء العرب ومنفتحة على العالم بكل ألوانه وأشكاله، كما فعل ذلك الرئيس الشهيد رفيق الحريري في علاقاته الوطنية والعربية والدولية، مدركاً بأنّ المقصود من هذه العروبة الجامعة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إطلاق العنان للحريات المسؤولة وبناء دولة القانون والمؤسسات، على أسس ديموقراطية سليمة تعتمد على المواطنية، التي يتساوى فيها الجميع، مصدراً للحقوق والواجبات، بعيداً عن كلّ الإنتماءات الدينية والفكرية والسياسية.
أخذ الله بأيديكم لإكمال المسيرة بما يصلح شؤون أمّتنا ووفّق الله المؤتمرين والقائمين على المؤتمر من الأخوة في تيار المستقبل للمزيد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة العلاّمة السيد علي الأمين في مؤتمر مستقبل العروبة: العروبة في القرن الواحد و العشرين – بيروت – البريستول الذي أقامه تيار المستقبل برعاية رئيس كتلة المستقبل النيابية النائب سعد الحريري
25-2-2009