الأخوّة الإنسانيّة: التّحدّيات والفُرص
- يسعدني أن أشارك في هذا المؤتمر العالميّ شاكرًا الدّكتور سلطان الرميشي، أمين عام مجلس حكماء المسلمين على الدّعوة. ويطيب لي أن أهنّئ دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، بشخص سموّ الأمير الشّيخ خليفة بن زايد آل النهيان، على تنظيم هذا المؤتمر العالميّ، الذي يندرج في عنايتها بقضايا الحوار والإخاء والعيش معًا والسّلام. كما اتوجه بالتحية والشكر الى سمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد ابو ظبي.
موضوع مداخلتي :الأخوّة الإنسانيّة: التّحدّيات والفُرَص”. فأتناول أربع نقاط: مفهوم الأخوّة، أهمّيتها، تحدّياتها، فرصها.
I- مفهوم الأخوّة:
الأخوّة هي الرّباط الذي يجمع بين النّاس، لكونهم أعضاء في العائلة البشريّة، مهما كان اختلافهم الإتنيّ والدّينيّ والثّقافي والسّياسيّ. فإنّنا نرى ملايين من المؤمنين يتردّدون في كلّ يوم جمعة وسبت وأحد إلى الجوامع والمجامع والكنائس ليعبدوا الله الواحد، ويعيشوا الوحدة في التّنوّع ويحافظوا معًا على هويّتهم الخاصّة، مدركين أنّهم أعضاء في عائلة واحدة تحت نظر الله الخالق بالنسبة إلى بعضهم، والأب بالنّسبة إلى البعض الآخر.
فكما أنّنا في العائلة البشريّة نختبر، كإخوة وأخوات، اختلافنا الواحد عن الآخر، من دون أن نكون دائمًا على اتّفاق، ونختبر وجود رباطٍ لا ينفصم يجمعنا، وحُبٍّ والديّ يساعدنا لنتحابّ، هكذا في العائلة البشريّة إنّما الله هو الخالق والأب وأساس أخوّتنا وقوّتها.1
II- أهميّة الأخوّة
نقرأ في المادّة الأولى من “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان” (سنة 1948): “يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والضّمير. وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الأخوّة”.
يتّضح من هذا النّص أنّ “التّعامل بروح الأخوّة يصون “الحريّة والمساواة” اللّتين فيهما يولد كلّ إنسان، ويجمع بينهما. فالحريّة لوحدها تقضي على المساواة، والمساواة، إذا فُرضت كمبدأ وحيد، تهدم الحريّة. وحدها الأخوّة تسمح بالمحافظة على الحريّة، وبمكافحة جميع أشكال اللّامساواة. من دون الأخوّة، تصبح الحريّة حقًّا لاستغلال الآخرين والتّسلّط عليهم؛ ومن دونها تفتح المساواة السّبيل إلى البيروقراطيّة والاستبداد والديكتاتوريّة.
التّعامل بروح الأخوّة يحترم “كرامة” كلّ إنسان، ويقرّ أنّ في كلّ شخص بشريّ كائنًا هو في آن مختلف عنّي ومساوٍ لي: مختلف لأنّ كلّ واحد فريد في ذاته، ومساوٍ لأنّ في كلّ واحد يتردّد النّداء ليكون أخًا في الإنسانيّة.
إنّ ممارسة الأخوّة، هي السّبيل المؤدّي إلى السّلام، الذي يبقى مشروعًا يُبنى كلّ يوم. ذلك أنّه “عمل العدالة” (أشعيا 7:32) و”ثمرة المحبّة” (الكنيسة في عالم اليوم، 78). الأخوّة البشريّة واجبة كي يعيش النّاس في احترام متبادل وتكامل وسلام. ليست خيارًا حرًّا، بل هي ضرورة. كما أنّها ليست عفويّة وفوريّة، بل هي انفتاح دائم على الآخر. إنّها واجبة “بين الأشخاص في كلّ وطن وثقافة؛ وبين الأشخاص من أفكار مختلفة، والقادرين على الاحترام المتبادل وسماع الآخر؛ وبين الأشخاص من أديان مختلفة”.
III- تحدّيات الأخوّة الإنسانيّة
لقد وهب الله كلّ إنسان ثلاثة: عقلاً لكي يفهم، وقلبًا لكي يحبّ، وضميرًا لكي يصغي إلى صوته في أعماقه. فيأتي التّحدّي الأوّل الذي تواجهه الأخوّة، من العقل عندما يصبح آلة صمّاء لغيره، أو عندما يزيغ عن الحقّ والحقيقة ويستسلم للكذب وأفكار السّوء؛ ومن القلب عندما يعشعش فيه الحقد والبغض، ويفرغ من الرّوح الإنسانيّة والإحساس؛ ومن الضّمير عندما يخنق صوت الله الدّاعي إلى الخير والنّاهي عن الشرّ.
التّحدّي الثّاني هو النّزعة الفرديّة التي لا تريد أن تؤدّي حسابًا لأحد، وكأنّ صاحبها لا يقرّ بأنّه خليقة، بل يشتهي كلّ ما يطيب له من دون قيود، فيقول: “أريد كلّ شيء وحالاً”.
وثمّة تحدٍّ ثالث هو مسألة “اللّامعنى”. فلسبب أو لآخر، يفقد الإنسان “معنى” قيم الحياة والهدف من وجوده. وهذه حالات من التّقوقع والعزلة تقود إمّا إلى الانتحار المعنويّ أو الحسّيّ، وإمّا إلى تعاطي الكحول والمخدّرات، وإمّا إلى التّفلّت من كلّ القواعد الأخلاقيّة.
والدِّين، من جهته، يشكّل تحدّيًا إيجابيًّا وسلبيًّا. التّحدّي الإيجابيّ هو أنّ الأديان لا تصنع الحروب، بل أتباعها يصنعونها لجهلهم مفهوم الدّين أو لتسييسه من أجل غايات خاصّة. والتّحدّي السّلبيّ هو أنّ مجموعات أو منظّمات إرهابيّة مسيّسة ترتكب العنف والقتل والتّطهير العرقي باسم الله الواحد الوحيد، علمًا أنّ “إسم الله الواحد الوحيد هو إسم السّلام والآمر بالسّلام”، على ما كتب القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني.4 بسبب هذا التّحدّي المزدوج يمكن للدِّين أن يقود إلى الأحسن إذا كان مشروع قداسة، أو إلى الأبشع إذا كان مشروع تسلّط.
وبما أنّ الدِّين قادر من طبعه على تغيير قلب كلّ إنسان، لأنّ الله وحده يستطيع أن يغيّر القلب البشريّ، بات على رجال الدِّين واجب تنشئة قلوب المؤمنين، لكي يتمكّنوا من قبول محبّة الله وإنمائها وتجسيدها في الأخوّة مع النّاس كلّ يوم.
ويوجد تحدّيات أخرى، أذكر منها اثنين: الاختلاف والتّعدّديّة أو التّنوّع. فالاختلاف في الدّين والثّقافة والرّأي لا يعني عداوة. بل يغني في النّظرة إلى الأمور، ويساعد في البحث عن الحقيقة التي تجمع وتحرّر. أمّا التنوّع الدّينيّ والثّقافيّ والعرقيّ فهو ضروريّ للتّكامل والاغتناء المتبادل. ويساعد على الإقرار بأنّ الله سبحانه يعمل بشكلٍ غير مدرَك في داخل كلّ خلق من خلائقه. ألسنا نقرأ في القرآن الكريم: “لو شاء ربُّك لجعلكم أمّة واحدة”؟
IV- فُرَص الأخوّة الإنسانيّة
أولى هذه الفرص هي قيمة الدّين كمصدر سلامٍ مع الله والذات، وانفتاحٍ بروح الأخوّة على الآخرين، وصلاةٍ ترفع أيادي رجالٍ ونساءٍ نحو السّماء، بوجه حاملي السّلاح، يلتمسون أن يكونوا صانعي سلام. والدّين يقرّب بين البشر بقوّة المحبّة والحقيقة.
إنّ الدّيانات الثّلاث التّوحيديّة تحمل في تقاليدها الرّوحيّة تراث سلام قادر على تعزيز الإخاء وتغيير العالم. بالنّسبة إلى المسيحيّين يكفي أن نفكّر بعظة الجبل المعروفة بالتّطويبات كدستور أخوّة وسلام (راجع متى 5: 1-12). وبالنّسبة إلى المسلمين نفكّر بالألقاب التّسعة والتّسعين السّلاميّة التي يطلقونها على الله وأخصّها: “الرّحمن، الرّحيم، الغفور”. وبالنّسبة إلى اليهوديّة، نفكّر بنبوءة أشعيا: “لنصعد إلى جبل الرّبّ فإنّه يعلّمنا أن نسلك طرقه… الرّبّ يحكم بين الأمم ويقضي لشعوب كثيرين، فيصنعون سيوفهم سُككاً، ورماحهم مناجل، فلا ترفع أمّة على أمّة سيفًا، ولا يتعلّمون الحرب من بعد” (أش2: 3-4).
والدّيانات الثّلاث تعلّم أنّ الإنسان، إذا انقطع عن الله، خسر كلّ شعور إنسانيّ بالنّسبة إلى ذاته وإلى الآخرين، وأنّ من غير الممكن خلاص الإنسان وبناء عالم عادل، إذا رُفض مصدر الحياة نفسه الذي هو الله.
ثمّة فرص أخرى لتعزيز الأخوّة الإنسانيّة مثل التّعاون في بناء المدينة والدّولة؛ والمشاركة في عالم الرياضة والموسيقى حيث يُعاش الإخاء الرّياضيّ وترتفع النّفس إلى قمم الفنّ؛ والتّربية على الأخوّة والصّداقة في المدرسة والجامعة؛ وروح الضّيافة والإصغاء إلى الآخر، وتفهّمه، والتّعاون معه في مختلف أوضاعه وحالاته.
لا يسعني في ختام هذه المداخلة إلاّ أن أذكر صلاة المزمور: “ما أطيب وما أحلى أن يقيم الإخوة معًا” (مز 1:133). إنّه دعاء والتزام موجّه إلى كلّ إنسان من أيّ دين أو ثقافة أو عرق…
نرجو لهذا المؤتمر النّجاح الكامل، ولكم جميعًا كلّ خير.
مع الشّكر على إصغائكم!