السبت , ديسمبر 14 2024
الامين | كيف عالج الإسلام ظاهرة التطرف في المجتمع

كيف عالج الإسلام ظاهرة التطرف في المجتمع

كيف عالج الإسلام ظاهرة التطرف في المجتمع؟

المستفاد من النصوص الدينية وسيرة الحكم في الإسلام أن الحوار مع الرأي الآخر ونشر ثقافة التسامح والاعتدال في المجتمع ووضع الضوابط لأدب الخلاف بعدم التجاوز على الحقوق والحرمات بما لا يتنافى مع الحرية الفكرية، وقد أعطى الدين المساحة الواسعة التي تشمل مختلف التيارات الفكرية من دون إخراج بعضها عن الإطار الديني الذي يتّسع لمختلف الآراء والأفكار، وإذا عدنا إلى القرآن الكريم فإننا نرى أن ثمة خطوطاً عدة ودائرة وسيعة يدخل فيها الجميع ودعوة إلى الوسطية والاعتدال واعتماد الحكمة والموعظة الحسنة في إظهار الرأي والالتزام به والدفاع عنه، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى {لا إكراه في الدين} و}ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} و}ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا}… وغير ذلك من آيات دالة على عدم جواز قمع الآخرين وإرهابهم.

شواهد

بالعودة إلى تاريخ الأنبياء والصالحين، نرى أن سيرتهم كانت قائمة على استيعاب الآخرين ومناقشة آرائهم وأفكارهم.


وقد كان الإمام الصادق (ع) يناقش الملحدين أمثال ابن أبي العوجاء والديصاني وحماد عجرد وأمثالهم ممن اشتهر إلحادهم وكان يبعث إليهم أحياناً من يجادلهم في أفكارهم لإقناعهم وإرشادهم إلى مواطن الضعف والخلل في معتقداتهم وكانوا يعيشون مع المجتمع المسلم من دون أن يواجهوا قمعاً لأفكارهم.

وفي حياة الإمام علي (ع) بعض الشواهد على ذلك، ومن بينها أن جماعة الخوارج كانت تروج لأفكار تنسف الأسس الفكرية التي تقوم عليها حكومة الإمام علي ولكنه لم يمنع تلك الجماعة من إظهار أفكارها وآرائها بل كان يتصدى للكشف عن بطلانها. واللغة السائدة معهم كانت لغة الفكر والجدل الذي لا يتعدى الكلام.

ولم يواجه الإمام علي تلك الجماعة عسكرياً إلا بعدما حاولت أن تفرض أفكارها بقوة السلاح وبعدما عرّضت سلامة المجتمع إلى الخطر وهددت الأمن والاستقرار بأعمالها المسلحة.

أنقل لكم هنا حادثة وقعت في زمن خلافة الإمام علي تكشف عما ذكرناه من الانفتاح والنقاش الفكري مع المعارضين، وهي أن الامام علي كان يخطب ذات يوم في مسجد الكوفة بالناس وأثناء الخطاب قاطعه بعض الخوارج بقوله {الحكم لله! ليس لك يا علي} وأصبح هذا شعاراً سياسياً وفكرياً للخوارج يعتمدونه في رفض حكومة الإمام علي والترويج لأنفسهم. وقد تصدى الإمام علي لإبطال هذه الفكرة وقال {كلمة حق يراد بها باطل. نعم لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر…}.

إن الإمام علياً بهذا الكلام حاول أن يبطل ادعاءهم بالفكر والحوار وليس بالسلاح والوعيد والتهديد، فهو يقول: {نعم، الله هو المشرع للحكم ولكن الناس تحتاج إلى الأمير الذي ينفذ حكم الله تعالى. تحتاج إلى حاكم من البشر يعاقب المسيء ويثيب المحسن ويدير شؤون البلاد والعباد وهذه أمور يقوم بها البشر}.

 وفي حادثة أخرى، كان الإمام علي مع مجموعة من أصحابه وكان هناك خارجي يعتقد كفر الإمام علي، وقد مرت امرأة أمامهم فنظر إليها أصحابه فقال الإمام في مقام التوجيه لأصحابه إن أبصار القوم طامحة فإذا رأى أحدكم امرأة أعجبته فليذهب إلى زوجته فإنها مشابهة لها، هذا مضمون الحادثة والحديث، وقد سمع الخارجي هذا الكلام من الإمام علي فأعجبه ذلك، وقال بصوت مسموع: قاتله الله كافراً ما أفقهه! وحيئذ قام بعض أصحاب الإمام علي وأرادوا أن يضربوا الرجل الخارجي بالسيف لأنه تجرأ على الإمام وحكم بكفره، ولكن الإمام علياً قال لهم: {مهلا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب!}، وعفا عن الرجل الخارجي.

وثمة شواهد عدة من حياة المسلمين السياسية تدل بوضوح على عدم جواز إرهاب الآخرين وقمعهم لمجرد أفكار وصلوا إليها أو لآراء أظهروها، ولدينا قاعدة دينية واضحة في هذا المجال وهي الحديث الشهير {الحدود تدرأ بالشبهات}، أي أن العقوبات لا تثبت على إنسان دخلت عليه شبهة من الشبهات جعلته يطرح أفكاراً تخالف السائد العام ويعلن عن آراء مرفوضة من الناحية الدينية، بل اللازم مناقشته لإزالة الشبهة التي دخلت عليه من خلال إبطالها وإظهار فسادها.

وهذه تعتبر من الشواهد على عدم الحكم بالكفر والارتداد على من لم يؤمن بإمام زمانه، فالإمام علي لم يقل عن الذين لم يؤمنوا بإمامته أنهم مرتدون عن الدين! ولم يعاقبهم على ذلك.

والحوادث كافة التي ذكرناها تتفق مع الحرية الفكرية والدينية، وهي موافقة لقول الله: {لا إكراه في الدين} و(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.

وفي كل الأحوال، لا يكون عدم الالتزام منافياً للإيمان ولا منافياً للإسلام لأنه دون الارتداد والإلحاد في الحكم، فإذا قبل الإمام علي بالخارجي الذي حكم بكفره ولم يرض بمعاقبته! وقبل الإمام الصادق الحوار مع الملحدين الذين كانوا يجاهرون بآرائهم! فكيف لا تقبل جماعة المسلمين وبعض الأحزاب الدينية بالرأي الآخر الذي لا يلتزم بآرائهم وأفكارهم؟!

ولذلك أعتقد أن المرجعيات الدينية يفترض أن يصدر منها توجيه وتعميم مستقل يؤكد على استيعاب الرأي الآخر والحوار معه واستبعاد التطرّف معه وعدم جواز التعرض لأصحابه بالقمع والأذى لمجرد فكرة طرحوها أو اعتقدوها لأن في ذلك مجافاة وابتعاداً عن سماحة الإسلام ورحابة أرجائه، ولأن في ذلك إطفاءً لسراج العقل وخنقاً لروح الإبداع.


العلامة السيد علي الأمين – جريدة الجريدة الكويتية – 19 – 7 – 2013

شارك المعرفة وانشر