القياس : لمحة عن القياس عند علماء الأصول
سؤال إلى العلامة السيد علي الأمين
-ما هو القياس الذي وقع فيه الخلاف بين علماء المذاهب الإسلامية؟
-جواب : إن المقصود من القياس في اصطلاح علماء أصول الفقه كما يفهم من خلال تعريفاتهم على تعددها هو إثبات الحكم لواقعة لم يرد فيها نص شرعي بعلّة الحكم في واقعة ورد فيها النّص الشّرعي، وهذه العلّة عندهم تكون على نحوين : فتارة تكون ثابتة بالنّص فتسمّى بالعلّة المنصوصة، وتارة لا تكون كذلك، وإنما يصل إليها المجتهد بغلبة الظّن ، وتُسمّى بالعلّة المستنبطة.
والمعروف هو الإتفاق على حجية القياس في النحو الأول عملاً بعموم العلة المنصوصة التي يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً، فتثبت في القضية التي لم يرد فيها نصٌّ خاص بها، فإذا نصّت الشريعة على أنّ علّة التحريم في الخمر هي الإسكار فينتقل الحكم المذكور إلى ما ثبت إسكاره في غير الخمر كالنبيذ والحشيشة مثلاً. وهنا يعتبر القياس حجة في إثبات الحكم للفرع بنفس الدليل على حجية الأصل.
ومن هذا القسم ما يسمّى بقياس الأولوية كالانتقال من حرمة الأدنى إلى الأشد كما في قول الله تعالى (ولا تقل لهما أفٍّ ) فإنه يدلّ على حرمة الضّرب بطريق أولى، والحاصل فإن العلّة في الأصل وهو المسمّى ب (المقيس عليه) إذا كانت معلومة الثّبوت في النّص وعلمنا بوجودها في الفرع وهو المسمّى ب (المقيس ) فإن الحكم حينئذٍ يثبت في الفرع على نحو القطع واليقين، والذي يظهر من كلمات العلماء أنّ هذا النّحو هو موضع اتفاق عند الكل، وينبغي أن يكون كذلك.
-وأما في النحو الثاني من القياس وهو العلة المستنبطة بظن المجتهد فقد وقع فيه الخلاف، والمعروف -عند معظم علماء المذهب الجعفري بل كاد أن يكون إجماعاً منهم- هو القول ببطلان العمل بهذا النحو من القياس لاندراجه تحت الظّن الذي لم يقم دليل خاص على اعتباره، فيبقى مشمولاً لأدلّة النّهي عن العمل بالظن كقول الله تعالى (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا). هذا مضافاً إلى أدلة خاصة من الروايات تنهى عن العمل بالقياس وهي محمولة على القياس الظني القائم على العلة المستنبطة، منها ما ورد عن الإمام جعفر الصادق: (أن دين الله لا يصاب بالعقول) وغيرها من الروايات الدالة على اختلاف الأحكام ووسائل إثباتها باختلاف الموضوعات وإن تقاربت أو تباعدت درجات الإهتمام فيما بينها، بحيث إن بعض ما ثبت للمهم من أحكام لم يثبت للأهم مثلاً، فقد ثبت وجوب قضاء الصوم على الحائض ولم يثبت عليها قضاء الصلاة مع أن الصلاة أهم من الصوم، وهذا الإختلاف في حكم القضاء بينهما- على الرغم من كون الصلاة أهم من الصوم- يكشف أنه لم يكن بالإمكان إثبات وجوب القضاء في الصلاة من خلال وجوب قضاء الصوم، وجريمة القتل مثلاً التي تثبت بشاهدين، لا تستلزم ثبوت فاحشة الزنا بشهادة الإثنين، فيما لو لم يرد نص في اعتبار الشهود الأربعة، وإن كانت جريمة القتل أشد قبحاً، وورود النص باشتراط الثبوت في فاحشة الزنا بالشهود الأربعة مع أنها أقل من القتل في درجة القبح يكشف لنا عن عدم قطعية الأولوية المستنبطة، وغير ذلك من الأمور التي وردت في بعض المناقشات المروية عن الإمام الصادق للإمام أبي حنيفة في العمل بالرأي المعتمد على الظن، وقد رفض الإمام الصادق الإعتماد على الرأي الظني غير المعتمد على الكتاب والسنّة في إثبات حكم الواقعة غير المنصوصة إنطلاقاً من قوله المروي عنه (كل شيء فيه كتاب أوسنّة حتّى الأرش في الخدش).
ومختصر القول في المقام أن القياس إذا كان مبنيّاً على العلم بثبوت العلة في الواقعة المنصوصة فهو موضع اتفاق من الفريقين، وإن كان معتمداً على الظن بالعلة فهو محل الخلاف والنزاع بين العلماء، والموافق لمقتضى الأدلة العامة هو المنع من العمل به إلا إذا قام عليه دليل خاص يخرجه عن دائرة الظن المنهي عنه شرعاً، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى الأبحاث الموسعة عنه في علم أصول الفقه، والله ولي التوفيق.