مشتاق اللواتي – عمان: سماحة العلامة السيد علي الأمين الموقر السلام عليكم و رحمة الله وبركاته ، و بعد :
فلقد تلقيت ببالغ السرور جوابكم الثاني على تساؤلاتي إليكم ، و إني إذ أشكر إهتمامكم الكريم ، داعيا لكم التوفيق لكل خير و صلاح. سماحة السيد ، لا شك إنني أتفق معكم على أهمية تجنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى إثارة الفتنة و الفرقة بين المسلمين ، و إنني ممن يتعاطف مع دعوات التقارب و التفاهم و التعارف و التعايش السلمي بين المسلمين و غير المسلمين ، و لكن ذلك لا يتعارض مع البحث الموضوعي و العلمي في قضايا التاريخ الإسلامي ، و إلا لتوقفت الجامعات و المؤسسات البحثية و الأكاديمية عن إجراء مزيد من البحوث و الدراسات في قضايا التاريخ المختلفة . سماحة السيد لم توضحوا وجه التأمل في مسألة إستحقاق أمير المؤمنين عليه السلام للإمامة و الخلافة العامة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بموجب النصوص و الوقائع الدالة على ذلك .ترى ماذا كان النبي (ص) يريد أن يبلغ القوم في حجة الوداع بالغدير في ذلك الحر الشديد حين أوقف الركب في مفترق الطرق و نصب فيه أمير المؤمنين خليفة و إماما ووليا على المسلمين من بعده . أم انه كان يريد أن يبين لهم انه محبه و ناصره و انه إمام في الفقه و التفسير و الحلال و الحرام دون الخلافة العامة ؟………….)
الأخ العزيز مشتاق اللواتي المحترم، السلام عليكم ورحمة الله
جواب سماحته على رسالتكم الثالثة بعد عودته من جمهورية مصر العربيّة :
جواب : ” الأخ العزيز مشتاق دام حفظه
وصلتني رسالتك الثّالثة الّتي تذكر فيها جملة من مواقف علمائنا الأعلام السيّد شرف الدين في مراجعاته والسيّد الشّهيد الصّدر في بحث الولاية وأرى لديك إصراراً على إخراجنا عن موضوع البحث الأساسي الذي كان يدور حول تكفير الصحابة وهو ما نسب إلى الشيخ المفيد رحمه الله والى السيد السيستاني دام ظله وغيرهما من علماء الطائفة ولم يكن الحديث عن الخلافة إلا امرا عارضاً وقد أغفلت في رسائلك هذه النقطة الجوهرية في موضوع البحث ورحت تبدي الاهتمام في أمور لم يشغل الأئمة عليهم السلام انفسهم بها.
وعلى كل حال، فإن الخلافة السياسية التي قال عنها أمير المؤمنين عليه السلام في غير موضع : ( إن ولايتكم إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما ينقشع السّحاب …) ( ولولا حضور الحاضر… لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها … ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز … ) ( وإنه لم يكن الّذي كان منا منافسة في سلطان …)
( وأن هذه النّعل أفضل عندي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً…) وغير ذلك من الكلمات التي تكشف عن عدم تمسّكه بالخلافة بالمعنى السياسي وعن عدم السّعي إليها.
فهل كان الإمام عليه السلام زاهداً في المنصب الالهي للإمامة التي شرّفه الله بها أم كان زاهدا في منصب دنيوي؟! وهل هذه الرئاسة الدنيويّة تحتاج إلى كل هذه الحفاوة وإلى كل هذا الاعداد والاستعداد؟! أم أن الّذي يحتاج الى هذه العناية الإلهية والاهتمام النبوي هو تلك الإمامة الوارثة لدور الأنبياء في حياة الأمم و الشعوب والتي تأتي نتيجة الإصطفاء الالهي لأصحابها كما قال الله تعالى ( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ) 33-34 آل عمران. وكما قال الإمام عليه السلام : ( أيها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم …) ويؤيده ما ورد أنه عليه السلام وارث للأنبياء وغير ذلك مما يدل على أن موقع الإمامة ينشأ من الاصطفاء الإلهي وهو أمر لا يمكن أن يزهد فيه وأن يرفضه من اصطفاه الله تعالى للقيام به وهو شيء آخر يختلف عن القيادة السياسية كما هو الحال في دور النبوة التي لا تعني الخلافة السياسية وإنما ترتكز على الدعوة إلى الله تعالى كما قال عليه السلام : ( واصطفى سبحانه من ولده – آدم – أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه … فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم بمنسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم آيات المقدرة ..) فلماذا تقلل أيها الأخ العزيز من شأن الإمامة في الدّين مع أنّها عهد من الله تعالى وهي الوارثة للنبوة ! وهل لا يكتمل شأنها ولا ترتفع درجتها إلا بالسلطة السياسية وهي من العرض الزائل والسند المائل ومتاع الأيام القلائل؟!
وقد كان من عظم شأن الإمامة أن جعل الله إبراهيم عليه السلام إماماً وقد طلبها لبعض ذريّته فقال له الله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) مع أن الإمامة بمعنى القيادة السياسية ينالها الظالم وغيره كما قال الإمام عليه السلام : ( وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر…) وهذا يكشف لنا عن أنّ الإمامة بمعنى الإمرة غير الإمامة التي تكون بمعنى عهد الله واصطفائه وهي بهذا المعنى تعطي الأولويّة والأفضليّة بلا شك لصاحبها في القيادة السياسيّة كما تشير إلى ذلك معظم النصوص التي أشرت في رسالتك إليها ولكنها ليست القضية المركزيّة في تكوين الإمامة ودورها فإذا اختارته الأمّة بعد الاصطفاء فتكون قد مارست حقها في البيعة وأصابت رشدها وإن تركته إلى غيره فقد أخطأت حظها ولم تخرج بذلك عن دينها وهو القائل 🙁 ..وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً ) ولا يحطّ ذلك أبداً من قدر الإمامة الوارثة للنبوّة ومن كونها عهد الله الّذي بلّغه النبيّ (ص) في غدير خمّ. ولا تتوقف الحياة في شتى حقولها السياسيّة والاجتماعيّة والعلميّة على اختيار الأعلم والأفضل لإدارة شؤون البلاد وسلامة العباد وهي الأمور المقصودة من القيادة السياسيّة كما أشار إليه الإمام عليه السلام بقوله : ( لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين ) وكما نشاهده في مسيرة الإنسان السياسية والإجتماعية ماثلاً للعيان حتى في الأنظمة الدّينيّة ومؤسساتها التي تقيم الدنيا ولا تقعدها على أولوية ماضية ولا تقيم وزناً لأولويّة حاضرة في سلطاتها وممارساتها واختيار قياداتها فإذا كانت مراعاة الأولوية لازمة كما يقولون فلماذا هم عنها في حياتهم السياسية والدّينيّة معرضون؟!
ثمّ إنّك إذا أمعنت النظر في بعض النّصوص التي اعترض فيها الإمام عليه السلام على الشورى يظهر لك أن الإمام (ع) لم يعترض على أصل مبدأ الشورى وإنّما اعترض على عدم استكمالها بانضمام الأفراد الغائبين من ذوي المكانة عنها ممّن يُعتدّ بآرائهم ووجهات نظرهم.
وأمّا بالنسبة عن الوسيلة والاستعانة فقد ذكرت لك في جواب سابق أنّ الوسيلة الواردة في القرآن الكريم هي بمعنى ابتغاء القربة والطاعة و الدعاء كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة …) الإسراء،57.
وأمّا ما ذكرته من الذّهاب إلى الطبيب وغيره وأنّه قد يفهم أنّه من الاستعانة الممنوعة فإنّ ذلك لا يتنافى مع الاستعانة بالله تعالى لأن الله تعالى هو مسبّب الأسباب وهو الّذي ربط النتائج بأسبابها فالأخذ بالأسباب الّتي تتولّد منها النتائج بإذن الله تعالى وقدرته ومشيئته هي معدودة من الاستعانة بالله تعالى كما قال سبحانه : ( واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ..) البقرة،153 وكما أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى وكما ورد في جملة من الأحاديث ( أن من شكى حاجته إلى مؤمن فكأنما شكى حاجته إلى الله تعالى ) وما ورد فيها من ( أن الدواء من القدر ) وغير ذلك من الروايات والأحاديث التي تدلّ على انّ الأخذ بالأسباب والتعاون بين المؤمنين في شؤون دينهم ودنياهم لا يتنافى مع الاستعانة الّتي يجب أن تكون بالله سبحانه وتعالى.
وفّقنا الله وإيّاك للإصلاح وجعلنا وإيّاك من الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”