موارد العمل بالتّقِيَّة في أحاديث الأئمة
المرجع الديني السيد علي الأمين: تقدم الكلام في البحوث السابقة عن معنى التقية ومصادرها الأساسية وهنا بعض الكلام عن مواردها وبالله التوفيق.
-التقية بمعنى موافقة الآخر في القول والفعل يتحقق موضوعها عند تعدد الآراء واختلاف الإجتهادات تقديماً لعوامل الإتفاق على عوامل الإختلاف ، وهي تسبغ الشرعية على الرأي المخالف من خلال ترتيب الآثار عليه باعتباره رأياً مشروعاً ناشئاً من النظر والإجتهاد في الكتاب والسنة، وهذا يعني أن من كان اجتهاده على خلاف رأيك أو رأي العالم الذي ترجع إليه تكون الموافقة له في مقام العمل محكومة بالصحة ومسقطة للتكليف .
وقد جاءت التقية بهذا المعنى في عصر ولادة المذاهب وتعدد الإجتهادات فكانت في تطبيقاتها على تلك المرحلة علاجاً من الناحية العملية لمفاعيل تلك الآراء المتعددة يمنع من تحويلها إلى صراعات تولد الإنقسامات في جسم الأمة ويفسح في المجال أمام حركة الفكر والإجتهاد غير المخالف لصريح الكتاب والسنة، فهي بهذا المعنى تقي الأمة من آثار الإختلاف في الرأي وتحفظ وحدتها ضمن تعدد الآراء والإجتهادات تطبيقاً لقوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) وهي بالمعنى الذي ذكرناه من الموافقة تكون تقيّة حافظة للأمّة من ضرر الإختلاف، ولذلك كان الإمام جعفر الصادق يطلب من شيعته الذهاب إلى الصلاة في المساجد مع من يختلفون معهم في بعض العبادات من ناحية الشكل، وقد روي عنه القول بأن المصلي خلفهم كالمصلي خلف رسول الله في الصف الأول .وهذا مما يدلنا على أن الإختلافات التي نشأت من تعدد المدارس في كيفية تلقي النصوص ووسائل إثباتها وتباين الأفهام فيها لا تؤثر في صحة العبادة شرعاً ولا يجوز أن تفسد للدين قضية، فتلك العبادات تبقى واحدة في الجوهر وإن اختلفت في المظهر.وهذا ما يتفق أيضاً مع اليسر الذي جاءت به الشريعة الغرّاء .
وعلى سبيل المثال إذا كنت ترى في الوضوء اجتهاداً أو تقليداً أن مسح الرجلين هو الواجب وليس غسلهما، فإن هذا لا يمنع من الإئتمام بالصلاة بمن يرى غسلهما، والعكس صحيح أيضاً، ويحكم بصحة الصلاة ، وهكذا هي الحال في سائر العبادات والمناسبات التي تتجلى فيها مظاهر الوحدة والجماعة وإن وقع الإختلاف الإجتهادي في أشكالها كما يشير إليه ما روي عن الإمام محمد الباقر(الصوم يوم يصوم الناس،والفطر يوم يفطر الناس،والأضحى يوم يضحّي الناس).
ويبدو من كثرة نصوص التقية ومن صيغ المبالغة الواردة فيها، كصيغة (من لا تقية له لا دين له ) وما يشبهها- أن التقيّة التي كانت موضع مزيد من الإهتمام هي مرتبطة بالمسائل الإجتهادية المختلف فيها بين الأئمة والفقهاء ذات الطبيعة الوحدوية من خلال مظهرها العام كالصلاة والصيام والحج وغيرها من مسائل الخلاف التي قد يؤدي اختلاف الآراء المشروع فيها والتمسّك بها إلى تسلّل التباين والإنقسام إلى صفوف الجماعة الواحدة في الدين الذي تعتبر وحدة الأمة فيه من مقاصده الأساسية، وهذا يعني أن النظر في روايات التقية كان منصبّاً في الدرجة الأولى على هذه الناحية من الضرر الذي يمكن أن يصيب الأمّة في مظاهر وحدتها،وليست ناظرة إلى حفظ الأفراد من الضرر الشخصي الذي يلحق بهم من إظهار معتقدهم وممارسة طقوسهم،لأنها حينئذٍ تكون حكماً عقلياً يعمل به أفراد العقلاء من باب وجوب دفع الضرر عن النفس الذي لا يحتاج إلى هذا المزيد من البيان،وقد أشار إلى هذا المعنى الفردي الفخر الرازي في كتابه (مفاتيح الغيب)عند تفسير آية التقية التي أشرنا إليها في بحث سابق، وقد نقل رواية عن عوف عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال الرازي بعد ذلك وهذا القول أولى،لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.
ومن الواضح أن دفع الضرر عن النفس هو من الأحكام العقلية الفطرية المدركة بالوجدان والغنيّة عن البرهان ولا تحتاج إلى المبالغة في البيان.هذا خصوصاً وأن روايات التّقيّة ليست خاصّة بحال الإضطرار، بل هي عامّة وشاملة بدعوتها للقيام بالعمل الموافق في حالات الإختيار.
هذا ما يتعلّق بموارد التقيّة المستفادة من رواياتها في العبادات والمعاملات وما فيها من وجوه الإختلاف في العقود والإيقاعات.
وأماالمسائل الأخرى الكثيرة كالمسائل السياسية والعلاقات الإجتماعية على تنوعها بما في ذلك الروابط العائلية فهي من المشتركات الحياتية بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ، وقد ورد عن الأئمة من التعاليم ما يدل على ضرورة ترسيخ التعاون وقيام أحسن العلاقات بين المسلمين انطلاقاً من قيم الإسلام الأخلاقية ولوازم الأخوة الدينية والإنسانية التي تقضي بالحفاظ على العيش المشترك بين مكونات المجتمع على اختلاف الآراء وهي ليست من موارد التقية ، وقد جاء في تلك التعاليم عن الإمام جعفر الصادق عندما سئل ( كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟فقال : تؤدون الأمانة إليهم،وتقيمون الشهادة لهم وعليهم،وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم).وفي بعض الروايات الأخرى يقول الإمام الصادق(…وأوصيكم بتقوى الله-عزّ وجلّ-والورع في دينكم والإجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوارفبهذا جاء محمد(ص) أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله(ص)كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم…) (…عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس …(…وأحبّوا للناس ما تحبّون لأنفسكم. أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جارُه حقَّه ولا يعرف حقَّ جاره !.)(علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك،وأن يكون في حديثك فضلٌ عن علمك، وأن تتّقي الله في حديث غيرك). والروايات بهذه المعاني مشهورة وكثيرة،وهي بحسب وضوحها وصراحتها تأبى التأويل والحمل على غير ظاهرها ، وهي غير مشمولة للتقية بمعنى الموافقة على الإجتهاد المخالف لها ، لأن الإجتهاد المخالف لها مرفوض لمخالفته لصريح الكتاب والسنة كما يشير إليه قول الإمام الصادق في الرواية المتقدمة( ..فبهذا جاء محمد-ص-) وهذا يعني أن ما ثبت عن الرسول-ص- هو القاعدة التي يجب اعتمادها ولا تصح مخالفتها ولا تكون مسرحاً لتعدد الآراء والإجتهادات. وبعبارة أخرى أن هذه القواعد السلوكية التي تشير إليها تلك النصوص هي من القضايا المشتركة والمتفق عليها فلا تكون مشمولة للتقية التي تعني موافقة الرأي المخالف، فإنه لا خلاف فيها! فإنه لا خلاف في لزوم الصدق وقبح الكذب ولا شك في حسن الجوار والتواصل ولزوم أداء الأمانة والحقوق لأصحابها. وبذلك يكون عدم جواز العمل بالتقية في هذه الموارد من باب السالبة بانتفاء الموضوع كما يقال في علم المنطق.
ومن خلال ماتقدم يظهر أن التقية لا ربط لها بتلك القيم الأخلاقية والمبادئ السلوكية التي تشكل أساساً في العلاقات الإجتماعية السليمة وهي واجبة في الشرع بلا خلاف من أحد. ولعل عدم توضيح هذه المسألة من قبل الفقهاء بالشكل المطلوب ساهم في تشويه مفهوم التقية وإعطائها معنى سلبياً مرادفاً للكذب يصل إلى حدّ الرياء في العبادة وغيرها في بعض الأحيان! مع أن الإمام عندما حث على الصلاة في المساجد لم يطلب إعادتها بعد ذلك !. ومع أن الإمام الذي أمر بالتقية هو الذي أمر بصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار وغير ذلك من مكارم الاخلاق ومحاسن الخصال ! وهذا إن دلّ على شيءٍ فهو يدل على عدم شمول مقاصد التقية المشروعة لمثل هذه الموارد من الفضائل الإنسانية ومسائل العلاقات الإجتماعية المتنوعة ومبادئها . وقد ذكرنا سابقاً أنها كانت علاجاً للخلاف في المسائل الفقهية يحافظ على مظاهر الوحدة فيها وفي المجتمع ويصنع الوفاق والإنسجام بين أفراده ويسبغ الشرعية على الإختلاف بالرأي وصحة العمل به .
ومن الشواهد على ذلك -وهي كثيرة في حياة الأئمة والمسلمين بعضهم مع البعض الآخر-أن اختلاف الآراء لم يمنع من حضور الإمام أبي حنيفة المجالس العلمية للإمام جعفر الصادق ، ولم يمنع ذلك الإختلاف في مسائل فقهية من تأييد الإمام أبي حنيفة للإمام زيد في ثورته وخروجه على الحاكم في عصره ، ولم تمنع التقية في موارد اختلاف الإجتهادات الفقهية من سائر العلاقات السياسية والروابط العائلية والإجتماعية في شتى مجالات الحياة بين المسلمين .