كلمة العلاّمة السيد علي الأمين في مؤتمر منتدى تعزيز السلم حول الدولة الوطنية – أبو ظبي، بعنوان:
ولاية الدّولة والحاكميّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعلى جميع عباد الله الصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
ولاية الدولة والحاكمية
لم تكن ولاية الدولة والولاء لها محل التباس فيما مضى عند جمهور علماء المسلمين، وكان الرأي الشائع هو لزوم الإنتظام فيها والعمل بأحكامها وقوانينها،ولكن قيام بعض الأحزاب الدينية في القرن الماضي بنشر بعض الشبهات حول الحاكمية والهوية الدينية للدولة ألقى بظلال من الشك حول شرعية الدولة والمواصفات التي يجب أن تتوفر فيها،وقد غدا القديم الذي عايشناه وجرت عليه أمور الناس ولم يكن محل كلام كقيام الدولة أمراً ملتبساً، مع أنه لا شك بأن الدولة الناظمة للأمر والتي تشكل ضرورة من ضروريات المجتمع هي صاحبة هذه الولاية، ولم يبحث سابقاً عن ثبوت ولاية لها باعتبار أن وجود الدولة لما كان ضرورياً فلا بد وأن تثبت لها هذه الولاية والحاكمية التي تعني سلطة الأمر والنهي، وما تحتاجه من صلاحيات لإدارة شؤون البلاد والعباد.
والمفهوم الجديد عن ولاية الدولة والولاء لها وإسلاميتها جاء من بعض العناوين التي أطلقت عليها،كدولة الخلافة ودولة ولاية الفقيه التي تطلب وجود رجل دين فقيه على رأس السلطة ، وقد اعتبر دعاة دولة الخلافة ودولة الفقيه أن شرعية الدولة تكتسب من خلال الحاكمية الربانية التي جعلوا وراثتها محصورة بهم وبأحزابهم.
- -شبهة الحاكمية وتكفير الحاكم السياسي
إن الآيات القرآنية التي تَحْتَجُّ بها بعضُ الحَرَكاتِ الإسلاميةِ على حصرِ السياسية الشرعيّة بها ، وتَكفيرِ الحُكَّام والأنْظِمَة السياسية المَدَنِيَّة ، كما في قَوْل الله تعالى في سورة المائدة : ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ و ﴿ الْظَالِمُون ﴾ و ﴿ الْفَاسِقوُن ﴾
لا يجدي في ردّ الإستدلال بها على كفر الحاكم القول بأنها واردة في شرع من كان قبلنا لأن العلة الظاهرة من الآيات المذكورة هي المخالفة للحكم المنزل، ولا فرق في ذلك بين الحكم المنزل في القرآن وغيره من الكتب المنزلة، كما لا يجدي القول أيضاً بأن المراد من الكفر الوارد فيها هو دون الكفر المخرج من الدين لأن ذلك يعني رمي الحاكم السياسي بمعنى من معاني الكفر،وهذا موافق للشبهة المذكورة في بعض وجوه الإستدلال،وليس ردّاً عليها،كما لا يخفى.
والذي ينبغي أن يقال في ردّ هذه الشبهة: أن الآيات ناظرةٌ إلى حُكْمِ القضاء بين المتخاصمين بغير الحَقِّ والعَدْل،للزوم كون القضاء بينهما بالعدل كما هو مستفاد من قوله تعالى(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
والآيات ليست ناظرة إلى شرعية من يحكم الناس المسمّى بالحاكم والرئيس والملك وغير ذلك من الأسماء،ولا إلى النظام السياسي المقبول بهما من الناس،لأنّه لا بُدَّ من الحاكم والنظام لإدارة شُــــؤون الــبِــلادِ وحِـفْـظِ مَـصـالح الـعِــبَـــاد.
والدولة هي المؤسسة الناظمة لأمور البلاد والعباد،وهي تعتبر من الضرورات التي اتفق العقلاء على إقامتها في الإجتماع البشري،وهي بهذا الإعتبار العقلائي تكون سابقة على الشرع الذي يكون موقفه منها موقف الموافقة والإمضاء، فهي لا تكون دولة شرّعها الدّين،بل هي الدولة التي أدرك الإنسان العاقل ضرورة إيجادها في مجتمعه الإنساني،ووافقه الدين على إقامتها.
فالدولة كمؤسسة ناظمة لأمور الشعب والوطن المطلوب أن يكون دينها هو الإنسان مع غض النظر عن انتمائه الديني أو السياسي أو العرقي.
- -الدولة الدينيّة
ونحن لا نريد أن نجادل في مشروع الدولة الدينية الذي تحمله بعض الأحزاب الإسلامية السياسية،ولا في حق تلك الأحزاب في الدعوة السلمية إليها،ولكننا نتساءل من خلال الواقع الذي تعيشه الشعوب والأمم، هل هذا المشروع يتسق وينسجم مع النسق المعاصر للحياة وللدولة، وهل ثمة إمكانية لاستمرار هذه الدولة الدينية حتى لو قامت وتأسست وعلى رأسها(الخليفة) أو(الولي الفقيه) أو(المرشد)أو الدولة التي يرضون عنها!هل يمكن أن يكون لهذه الدولة الدينية مستقبل في هذا العصر؟
فلو تحدثنا عن نظرية ولاية الفقيه، فسنرى أنها غير قادرة على الاستمرارية باعتبارها نظرية مذهبية خاصة،وليس عليها إجماع من أهل المذهب نفسه،ولا يمكن أن تعيش في وسط فيه شيء من التعددية المذهبية، وأن تفرض وجهة نظر مذهب على مذاهب أخرى،وهذا ما سوف يؤدي إلى الصراعات داخل المجتمع الواحد والدولة الواحدة ،وفي الأمة بشكل عام.
أما على مستوى الدولة الدينية فإنها هي الأخرى ستعاني من المذهبية والطائفية حين تتبنى ديناً ما في مقابل أديان أخرى موجودة داخل المجتمع، ومن هنا توجد إشكالية بأن توصف الدولة بالدينية، ونقول بأن الوصف السليم لها هو وصف الدولة المدنية والوطنية.والدولة التي قامت في العهود الإسلامية كانت دولة مدنية ووطنية تقوم بشأن مدني، وكان للحاكم فيها الدور المدني الذي يدير فيه شؤون الناس بغض النظر عن الانتماء السياسي أو الديني، وفي الفقه الإسلامي ظهر مفهوم (الرعيّة) القريب من معنى المواطنين في عصرنا، وهو مفهوم لا ينظر للانتماء الديني والمذهبي.
وهكذا كانت التجربة الإسلامية في مجتمع المدينة المنورة، كما ورد في وثيقة إعلان مراكش التي أطلقها الشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله،وقد أسس فيها المسلمون وغيرهم برعاية الرسول عليه الصلاة والسلام للمجتمع الجديد عبر وثيقة المدينة التي كانت شاهداً على أنهم كانوا يريدون نسيجاً من العلاقات المدنية بين المجتمع الذي تجمعه الدولة الوطنية،ولم تكن بين المسلمين وحدهم بل بين المسلمين واليهود وغيرهم بل وحتى الوثنيين الذين لم يؤمنوا بالدين الجديد وقتها،وقد جمعت الوثيقة بينهم على قواعد عامة في الفكر والسلوك والحقوق بما يمكن تسميته بالشراكة الوطنية وحقوق المواطنة .
وقد وقع كلام آخر عند بعضهم في الدولة والحاكمية، فمنهم من ذهب إلى عدم شرعيتها،وعدم جواز التعامل معها بصفتها غاصبة للحق من أهله الشرعيين، وقائمة على الظلم والجور،واستدل هذا البعض بحديث(العلماء ورثة الأنبياء) ونحوه،مع أن هذا الحديث ناظر إلى الدور الديني في تبليغ الأحكام الشرعية ونشرها،وليس ناظراً إلى الدور السياسي على مستوى السلطة والدولة، فالأصل في بعثة الأنبياء هو للهداية والإرشاد وليس لإقامة الدولة الدينية.
وقد ذهب الآخرون إلى شرعية الدولة القائمة وإلى ضرورة المشاركة فيها، وإقامة العلاقات معها، حفظاً للنظام العام وتحقيقاً لمصالح الناس، ودفعاً للأضرار والمفاسد وجلباً للمصالح والمنافع التي لا يمكن أن تقوم للمجتمع قائمة بدونها. وقد اشتد هذا النزاع بين الفريقين في أوائل القرن الماضي ووصل بعضهم إلى القول بعدم جدوى استبدال ظالم بآخر، أو استبدال قانون من قوانين الظلم بقوانين أخرى في السلطة الظالمة نفسها،وبقيت هذه الشبهة مستحكمة في أذهان كثيرين، ولا يزال بعضها عالقاً في أذهان بعض طلبة العلوم الدينية في زماننا الحاضر.
ولعل منشأ الشبهة قد تولّد في أذهان البعض من خلال بعض المصطلحات الشرعية التي تدرَّس في علم الفقه، حيث يطلق فيها على الفقيه الجامع للشرائط بأنه الحاكم الشرعي، بحيث يفهم منه أن كل حاكم ما عدا الفقيه سواء كان عادلاً أم لم يكن كذلك هو حاكم غاصب للسلطة، فاقد للشرعية، مع أن المقصود من مصطلح الحاكم الشرعي ناظر إلى أهلية القضاء و إصدار الفتاوى والأحكام الشرعية، وليس ناظراً إلى الحكومة الفعلية والسلطة السياسية المنبثقة عن نظام سياسي مدني وغير ديني. ففي الفقه السياسي يوجد فرق بين الحاكم الشرعي بمعنى المرجعية الدينية في التشريعات الدينية، والحاكم بمعنى الأمير الذي يشكل مرجعية في النظام السياسي، وأساساً لحفظ النظام العام من الانهيار الناتج عن فراغ المؤسسات القيادية والقانونية التي لا بد منها في حفظ مصالح البلاد والعباد. وهذا ما أشار إليه الإمام علي (ع) في جوابه عن شبهة الخوارج وشعارهم عندما قالوا: “ليس لك الحكم يا علي، الحكم لله”. فقال (ع): “كلمة حق يراد بها باطل. نعم لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجر”.
وقد أبطل الإمام (ع) هذه الشبهة المؤدية إلى الفراغ القاتل وانهيار الدولة التي لا بد للمجتمع من قيامها، ووجوب العمل فيها على الموالي والمعارض، مع غضّ النظر عن الرفض والقبول والإيمان والكفر بهذه الإمرة والحاكمية، حفظاً لضرورة انتظام المجتمعات واستمرارها واستقرارها، من خلال الدعائم الأربع للنظام السياسي والاجتماعي البشري التي تدخل عند الفقهاء في الواجبات النظامية التي لا يجوز تعطيلها بحال من الأحوال، وهي نظام الدفاع عن البلاد، وأشار إليه الإمام (ع) بقوله “يقاتل به العدو”؛ ونظام الأمن الداخلي الذي يمنع اعتداءات الناس بعضهم على بعض، ويحفظ سبل التواصل مفتوحة بينهم، وقيام العلاقات بين مختلف الجماعات والمناطق وأشار إليه بقوله “وتأمن به السبل”؛ ونظام قضائي يحفظ الحقوق ويعاقب الخارجين عن القانون كما في قوله “ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجر”؛ ونظام الفيء الذي يعني الخراج وجمع الضرائب وتوزيع الثروات، لأنه لا قيامة للأنظمة الثلاثة التي بها قوام المجتمع بدون الخزينة التي تؤمن النفقات اللازمة للقيام بتلك الأعباء وغيرها، وأشار إلى ذلك بقوله “يجمع به الفيء”. وكل هذه الأنظمة اللازمة لحياة المجتمعات والشعوب في أوطانها وبقائها تتوقف على سلطة تنفيذية، بيدها الأمر والنهي، وهو ما عبّر عنه الإمام (ع) بـ “إنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر” ومن خلال ذلك يظهر أن الدولة هي ضرورة اجتماعية عقلائية، تكتسب شرعيتها من الواقع اللازم المشتمل على حاجة العباد لجلب المصالح ودفع المفاسد الواجبة عقلاً وعقلائياً.
- -الدولة الوطنية
وهذا الرأي في شرعية الأنظمة والدولة الوطنية هو الذي استقرّ عليه مشهور العلماء والمجتهدين،وقد عبّر عن هذا الرأي الميرزا حسين النائني أحد أعلام الفقه الجعفري في النصف الأول من القرن الماضي،وقد جاء في قوله : “إن ما اتفقت عليه جميع الأمم الإسلامية، بل عقلاء العالم أجمع، هو أن استقامة نظام العالم وتعيّش البشر متوقف على وجود سلطة وحكومة سياسية سواء قامت بشخص واحد، أو بهيئة جمعية، وسواء كان المتصدي لها غاصباً أو قاهراً أو وارثاً أو منتخباً”.
وقد ذكر هذا الكلام وطبقّه على الدولة الوطنية في إيران التي كان يحكمها الملوك،ولم تكن محكومة بنظرية ولاية الفقيه،ولا بنظرية دولة الخلافة.
وهذا التوقف المذكور مع السيرة التي أطبق عليها العقلاء موجود في مضمون ما أشار إليه الإمام علي (ع) في الخبر الذي تقدم الحديث عنه (… وإنه لا بد للناس من أمير…).
وقد قسم الميرزا النائيني السلطة السياسية في كتابه(تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة) إلى قسمين:
أ-سلطة استبدادية باطلة لا يمكن إثبات شرعيتها بحال من الأحوال، لأنها قائمة على استعباد الناس واسترقاقهم، وقد خلقهم الله أحراراً،وهذه أسماها بالسلطة الفرعونية.
ب-سلطة دستورية تخضع للقوانين التي تحدّ من الظلم والاستئثار وتمنح الحرية لأفراد المملكة، وأطلق عليها اسم السلطة المحدودة والمقيدة والمشروطة والمسؤولة والعادلة، وغير ذلك من الأسماء التي تخرجها من طور الاستبداد الفرعوني،وأطلق على القائمين بهذه السلطة الحكومة المشروطة وعلى الصانعين لها الأمة الحيّة والحرّة والأبيّة.
- -شرعية الدولة والحاكم
وعلى كل حال فإن المستفاد من الخبر المتقدّم ومن سيرة العقلاء الممضاة شرعاً أن الدولة تكتسب شرعيتها من أمرين:من كونها ضرورة لاستقامة النظام،ومن سعي القائمين عليها لحفظ البلاد وصون حقوق العباد،وهذه الدولة لا يجب أن يكون لها دين سوى سعيها لإقامة الحق والعدل بين الناس وصون حقوقهم وحرياتهم،وليس فيما تقدم من الخبر والسيرة اشتراط دين للدولة والحاكم،وذلك لاندراج الموضوع فيهما تحت منظومة المصالح والمفاسد،ونحن لا نتضرّر من الهوية الدينية للدولة والحاكم،ولكن الضرر يأتي من فقدان الحق والعدل،ولذلك قلنا سابقاً وقبل سنوات عديدة لبعض الأحزاب الإسلامية التي طالبت بجمهورية إسلامية في لبنان ولبعض آخر طالب بدولة الخلافة،قلنا لهم عن الدولة والحاكم (نحن لا نتضرّر من مسيحيّة الحاكم،ولا ننتفع من إسلاميّته، ولكن تأتينا المضرّة من جور الحاكم،والمنفعة من عدالته).
وقد تحدثنا عن ولاية الدولة بشكل أوسع في كتابنا(ولاية الدولة ودولة الفقيه) ونتقدم أخيراً بالشكر إلى منتدى تعزيز السلم في أبو ظبي وإلى رئيسه سماحة الشيخ عبد الله بن بيّه على هذه الإثارات الفكرية والفقهية النافعة والتي تساهم في إعادة صياغة الأفكار والمفاهيم التي تعزّز ثقافة السّلم في مجتمعاتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أبو ظبي 18-12-2016