الثلاثاء , مارس 19 2024
العيد الضائع بين الرؤية الشرعية والحسابات الفلكية 2

العيد الضائع بين الرؤية الشرعية والحسابات الفلكية

وهل يخفى القمر …
العيد الضائع بين الرؤية الشرعية والحسابات الفلكية

العلامة المجتهد السيد علي الأمين

أولاً

توطئة

كثر الجدل والنقاش في السنوات الأخيرة حول تحديد اليوم الأول لشهر رمضان المبارك الذي كتب الله فيه الصيام ويجري نفس الكلام في تعيين نهايته وبداية شهر شوال بعيد الفطر المبارك. ونتيجة لظهور الإختلاف في الآراء وتعددها فقد وقع الناس في حيرة من أمرهم، فهم لا يعلمون متى يصومون ومتى يفطرون ؟
والأسئلة المطروحة  هي :
(1) أليس لهذا الجدل من حدود ؟
(2)  أما آن الأوان لكي يتوصل المسلمون والعلماء منهم بالخصوص إلى صيغة واضحة حول هذه المسألة التي تدخل في إطار القضايا المحسوسة التي لا يصح فيها مثل هذا الإختلاف ؟!
(3)  وهل يجوز من الشريعة السمحاء التي ربطت عبادة الصوم بالهلال أن تترك وسائل إثبات الهلال بدون تحديدٍ حتى يحدث الإختلاف والتعدّد في المناسبات الدينية التي تشكّل في وحدتها مظهراً من مظاهر وحدة الأمّة؟!.
إن الشريعة السمحاء ليست مسؤولة عن هذا الحجم من الإختلافات لا في هذه العبادة ولا في سواها.
فهي خاطبت الشريعة أصحاب اللسان بلغتهم، وبينت لهم مقاصدها المطلوبة منهم. وقد تحققت الممارسة الطويلة لهذه العبادة في عهد النبي (ص) وعهد المخاطبين بلسان عربي مبين، فلم يجد الخلاف إليهم سبيلاً، لا في تحديد بداية هذه العبادة ونهايتها، ولا في غيرها من العبادات، خصوصاً في عهد النبي(ص)،  حافظ الشريعة ومبلِّغها.
لكن البعد الزمني عن عصر التشريع والتطبيق، وظهور عوامل أخرى، مثل الإبتعاد عن قواعد اللغة العربية وأصولها، أدّيا إلى خفاء الدلالة وعدم وضوح المقصود من النص الديني، فاحتاج ذلك إلى الاختصاص في جملة من العلوم الأخرى، للمساعدة على فهم النص التّشريعي وتحديد المقصود الشرعي منه .
ومن الواضح أن الاختصاص في العلوم المساعدة، كعلوم العربية وعلم أصول الفقه وغيرهما، حمل في طياته الكثير من التفاوت بين عالم وآخر. فقد يؤسس عالم لقاعدة ينطلق منها في فهم النص الديني وعملية استنباط الحكم الشرعي، وتكون هذه القاعدة مرفوضة من عالم آخر، وهذا يُشكِّل مصدراً لاختلاف الآراء وتعدد الفتاوى في المسألة الواحدة، بالإضافة إلى مناشىء  أخرى للإختلاف. ومع ذلك تبقى هناك أسس وثوابت مقبولة من الجميع تشكل مصدراً من مصادر التمييز بين الخطأ والصواب.

ثانياً
وهل يخفى القمر … (1)

لا خلاف بين أهل العلم في أن الشريعة الإسلامية قد ربطت بين بعض العبادات وبين بعض الظواهر الكونية، كارتباط عبادة الصوم الواجب في شهر رمضان ببعض حالات القمر، ابتداءاً  وانتهاءاً، فجعلت وجوب الصوم مرتبطاً بثبوت هلال شهر رمضان وانتهاءه مرتبطاً بثبوت هلال شهر شوال الذي يعتبر أوله يوم عيد الفطر المبارك، ومن خصائص يوم العيد حرمة صيامه شرعاً .
وهذا الأمر ثابتٌ وليس محلاً للكلام بين الأعلام، القدامى والمحدثين منهم على حدٍّ سواء.
وبما أن وجوب الصوم مرتبط بثبوت الهلال، فقد ذكر الفقهاء طرقاً عديدة لإثبات الهلال أساسها المعتمد هوالرؤية. فمن رأى هلال شهر رمضان وجب عليه الصّيام، ومن رأى هلال شوال فقد وجب عليه الإفطار. فالرؤية تعتبر من أهم وسائل الإثبات الحسِّي للهلال. والذي حصلت منه الرؤية للهلال فقد حصل على العلم بولادته ولا يبقى عليه سوى تطبيق الآثار المترتبة على مشاهدته والعلم به. وقد ينقل المشاهد رؤيته إلى الآخرين الذين لم يشاهدوه، فإذا توفرت في الناقل الشروط المعتبرة في حجية النقل والشهادة وجب على الآخرين الصيام.
ومن الواضح أن مرجع هذا الوجوب يستند إلى رؤية الغير الذي توفرت فيه شرائط القبول، وكذلك القول في إكمال عدة الشهر السابق لإثبات أول الشهر اللاحق، فإن الأمر يرجع في النهاية إلى الرؤية كما لا يخفى .
ثم أن المستند لاعتبار رؤية الهلال دليلاً على ثبوت أول الشهر المبارك هو النص الديني الوارد عن النبي (ص): (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته).
وقد ورد مضمون هذا النص في روايات عديدة وألسنة مختلفة وكلّها تؤكد على اعتبار الرؤية وسيلةً لإثبات الهلال; ولا يبعد أن يكون هذا المعنى قد بلغ درجة التواتر.
وقد وقع الكلام  بين الفقهاء في دلالة هذا النصّ الديني وأمثاله مّما أُخذ فيه قيد الرؤية في ثبوت وجوب الصوم ابتداءاً وانتهاءاً.
وحاصل ما جرى من كلام ونقاش في هذه المسألة :

(1) هل الرؤية الواردة في النصوص الدِّينية تجعل ارتباط وجوب الصوم بها وحدها بحيث تكون دخيلة في ثبوت الحكم لموضوعه، فيثبت الحكم بثبوتها وينتفي بانتفائها؟

(2)  أم أن وجوب الصّوم إبتداءاً وانتهاءاً لا علاقة له بالرؤية وهي مجرد طريق إلى المرئي (الهلال)، فلا تكون دخيلة في ثبوت الحكم، فلا ينتفي بانتفائها كما أنه لم يثبت في حال الرؤية لثبوتها وإنّما ثبت الوجوب لثبوت موضوعه وهو ولادة الهلال; والرؤية كانت مجرد كاشفٍ عن هذه الولادة وقد يكون بالإمكان الإطلاع على هذه الولادة بكاشف آخر؟

على الوجه الأول:
تكون الرؤية الحسية والبصرية هي العمدة في إثبات وجوب الصوم لظهور هذا المعنى من كلمة الرؤية عند إطلاقها، ولأن دعوى الطريقية في القيود المأخوذة في النصوص الشرعية تؤدي إلى إلغاء القيود بدون دليل ظاهر، فتكون الدعوى تحكماً بلا دليل.
ومن المعلوم أن ظاهر كل قيدٍ أن يكون مأخوذاً بعنوانه الظاهر منه; وعلى هذا الوجه لا يمكن إثبات وجوب الصوم والإفطار بالإطلاع على ولادة الهلال من خلال المراصد الفلكية، وإن أفادت العلم واليقين.

وعلى الوجه الثاني:
تكون العمدة في إثبات وجوب الصّوم ،(ولادة الهلال)، وليست الرؤية إلا مجرد كاشف وطريق إلى المولود ،(الهلال)، وهذا يعني أن المولود الجديد، (الهلال)، يمكن الإطلاع على ولادته من كاشف آخر كالحسابات الفلكية إذا افادت العلم واليقين.

 وبعبارة أخرى أكثر وضوحاً يقال:
هل يتساوى النص الديني (صوموا لرؤيته) في الدلالة مع هذه العبارة (صوموا لولادته) فإذا ثبتت هذه المساواة بين هاتين العبارتين أمكن إثبات هلالي الصوم والإفطار بغير الرؤية، من حسابات المراصد الفلكية التي تفيد العلم واليقين بالولادة، وإن لم تثبت هذه المساواة بين الجملتين لم يصح الإعتماد على المراصد الفلكية وإن أفادت علماً بالولادة .

ولعلّك تقول : كيف لا يصحّ الإعتماد على المراصد الفلكية المفيدة للعلم مع أن العلم،(اليقين)، تنتهي إليه الأدلة والحجج والبراهين; فهو الأساس لكل دليل معتبر، وهو العمدة لكل حجة وبرهان. فإذا لم يصحّ الإحتجاج  بالعلم ،(اليقين)، فلا يصحُ الإعتماد بعده على أي شيء ؟.

والجواب:
أن اعتماد العلم بمعنى القطع واليقين ليس محلاً للكلام بين أهل العلم والتحقيق، فكلُّهم يعترفون بالعلم دليلاً وحجةً، وأن اليقين هو مرجع الأدلة والحجج في نفي شيءٍ وإثباته في شتى حقول الفكر والمعرفة .

والذين يرفضون اعتماد نتيجة المراصد الفلكية لا ينكرون حجية العلم بمعنى اليقين، ولا يرفضون الحداثة ولكنهم يشككون في إسباغ صفة العلم واليقين على النتائج المستفادة من هذه الوسائل الحسابية، خصوصاً بعد وجود الإختلاف الكبير بين الخبراء بها، وعدم اتفاقهم على رأي موحد في النتائج التي يتوصلون إليها. وهذا يعني أن نتائج علم الفلك لم تصل إلى درجة العلم واليقين على مستوى ولادة الهلال، كما هو الحال في المراصد التي تعنى بأحوال الطقس والتي تتراوح نتائجها بين الظن والإحتمال، وإن كان علم الفلك قد وصل على مستوىً آخر إلى درجة اليقين في بعض المباحث الفلكية .
وعليه، تبقى نتائج المراصد الفلكية بشأن الهلال والطقس في دائرة الظنّ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.

وإن شئت قلت :
إن البحث في استفادة العلم واليقين من علم الفلك ومراصده وعدمها ليس من اختصاصنا، ولا علاقة له بالبحث الفقهي من قريب أو بعيد، وهو على كلّ حال بحث صغروي قليل الجدوى لا علاقة له في استنباط الحكم الشرعي; أما المهم في المقام فهو البحث الكبروي في أخذ العلم بولادة الهلال في تشريع وجوب الصوم أو عدم أخذه في التشريع وأخذ الرؤية فيه فحسب. وهذا الأمر يرجع فيه إلى فهم النص الشرعي الدّال على وجوب الصوم، ولا يرجع فيه إلى المراصد الفلكية كما لا يخفى.
وبعبارة أخرى : إن المرجع في تحديد موضوعات الأحكام الشرعية هو النصوص الشرعية وحدها، إلا إذا كانت من الموضوعات العُرفيّة فيترك تحديدها للعرف إذ لم يرد فيها تحديد من قبل الشرع. وقد عرفت أن النصَّ الشرعي القائل (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) هو نصٌ جليٌ وظاهر في اعتبار الرؤية الحسية وسيلة لإثبات  بداية الشهر الواجبِ صيامُه. وقد كان للشارع مندوحة في أن يقول (صوموا لولادته) أو (إذا علمتم بولادة الهلال فصوموا) ولكنه لم يذكر سوى الصيغة المشتملة على الرؤية، وهي ظاهرة فيما ذكرناه كما عرفت .
والفرق كبير بين استفادة العلم من المراصد الفلكية وبين أخذ العلم قيداً على نحو الطريقيّة في تشريع وجوب الصوم، كما أن الفرق أوضح وأكبر بين مُشِّرعٍ لزمانٍ محدد في زمان معَّين وبين مشرِّعٍ تنكشف لديه الأزمان، ويعلم بالمستجدّات والتطوّرات العلمية كما لا يخفى .

ويمكن أن يقال أيضاً بأن الشريعة السمحاء، قد اعتمدت في عملية التاريخ للحوادث الواقعة والتوقيت للمناسبات الجارية في حياة البشر، على الطريقة الميسورة لكل الناس وهي حركة القمر التي تتبدل يوماً بعد آخر بشكل محسوس وملموس، من غير حاجة إلى دراسة وعلم كما هو الحال في نظام الحساب الشّمسي الذي اكتشف بعد ذلك بعّدة قرون، ولا يزال التبدل بين يوم وآخر أو شهر وآخر أمراً غير محسوس لعامة الناس بالنسبة للحساب الشَّمسي، وهذا بخلاف الحساب القمري الذي لا يتوقف على غير الحس والمشاهدة وهو أمر ميسور لعامّة الناس الذين كانوا يسجلون الحوادث الواقعة والمعاملات الجارية فيما بينهم والولادات والوفيات بحركة الهلال الظاهرة لديهم، فيقولون ولد فلان في أول الشهر أو في وسطه ومات فلان آخر الشهر وهكذا ….
ومن الواضح أنّ ربط حادثة وقعت بأخرى كونية أو غيرها يحتاج إلى جلاء ووضوحٍ في الأمرين المرتبطين معاً، إذ لا معنى للربط بين أمرين خفيّيّن وغير محسوسين، أو بين أمرٍ جليّ كالولادة وأمرٍ خفيِ كحركة الأرض مثلاً.

 فولادة شخص أو وفاة آخر حدثٌ جلي وتتم عملية التأريخ لها من حيث الزمان بأمرٍ جلي آخر كحركة القمر التي تكون من الحركات المحسوسة لدى أهل الأرض، حتى تتم عملية الربط والتاريخ بينهما .
فحركة الناس على الأرض والأحداث الواقعة فيما بينهم والصادرة عنهم أو الواقعة عليهم تحتاج في عملية التسجيل والتوثيق لها إلى حركة أخرى محسوسة عند الناس. وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:
( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) 189: البقرة.
و(هو الذي جعل الشمس ضياءاً والقمر نوراً وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب…) يونس : 5.
و(فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسبانا ) الأنعام: 96.
ومن الواضح أن عملية التوقيت والحساب لدى الناس ارتبطت بالحالة الجلية عندهم والمحسوسة لديهم، ولا معنى لأن تكون الحركة غير المحسوسة للناس هي البداية في عملية التوقيت والحساب، لأن الخفي عنهم وغير المحسوس لديهم هو بمنزلة المعدوم، ولا يصلح الأمر المعدوم أن يكون بداية أو نهاية لعملية التوقيت والحساب عند الناس وتسجيل الحوادث والقضايا، لعدم إحساسهم بذلك الشيء الموجود في الواقع، (إن كان موجوداً) .
وقد عرفت أن عملية التوقيت والحساب هي ربط بين أمرين محسوسين .
والشريعة عندما ربطت بين شهر الصوم والهلال، تكون قد ربطت هذه العبادة بما هي مواقيت للناس، وغير خفيٍّ على أحدٍ أن المواقيت للناس هي الحالة الظاهرة التي يحس ويشعر بها أهل الأرض .
وبعبارة أخرى أكثر وضوحاً، هناك حركات خفية في الكون لا يشعر بها أهل الأرض منها حركة الأرض والكثير من الكواكب والأجرام السماوية.
ولكن، بما أنّ حركتها غير ظاهرة ولا يحسُّ بها الناس فلا معنى لأن تكون مواقيت للناس وإن كانت حركاتها محسوبة بدقَّة وخاضعة لنظام حسابيٍّ محكم بحسب ما توصل إليه العلم الحديث.
ولكنّ المسألة عندما تكون مسألة حساب للناس وتاريخ لهم فإنهم ينطلقون من الشيء المحسوس لهم والذي يشعرون بمتغيراته ومراحله ويجعلونه مبدأً لعملية الحساب والتَّاريخ ، ومن هنا يظهر الفرق جلياً بين الحالة المحسوسة للهلال وبين الحساب العلمي الدقيق له وغير المحسوس حيث يصحّ في الحالة الأولى، (حالة الرؤية المحسوسة )، أن تكون مبدأً لعملية الحساب والتوقيت لأنها حالة يشعر بها الناس ويعيشونها في حياتهم.
ولا يصح في الحالة الثانية، وهي حالة انعدام الرؤية لامتناع المرئي، (الهلال)، كما لو كان في المحاق، أو لقصورٍ غير عارض في قابلية الرّائي، (البشر)، وهذه المسألة كما ترى ليس لها علاقة باعتماد العلم وسيلة أو رفضه كذلك، بل هي مسألة مرتبطة بالحالة البشرية للهلال ولا علاقة لها بالحالة الفلكية له.
والتشريع إنما كان تشريعاً لأهل الأرض وليس لأهل السماء وخصوصاً أهل الفلك الذين يعرفون بولادته بالحساب و الحدس وليس بالحسّ.
وقد استبدل بعضهم قيد الرؤية الواردة في النصوص بقيدٍ آخر هو إمكان الرؤية، وأنت خبير بعدم استقامة أخذ هذا القيد لمخالفة ظواهر الأدلة والنّصوص التي وردت فيها الرؤية قيداً. فمثل النص الوارد (صوموا لرؤيته…) ظاهر في اعتبار الرؤية على نحو الفعلية وليس دالاً على إمكان الرؤية. فإذا قال القائل (إذا رأيت زيداً فأكرمه ) كان هذا القول دالاً على اعتبار فعلية الرؤية في وجوب الإكرام، وليس دالاً على الوجوب عند إمكان الرؤية المستفادة من نفس تعليق الوجوب على الشرط كما لا يخفى .
ثم إذا كان المقصود من أخذ إمكان الرؤية قيداً هو كون الهلال في معرض الرؤية البشرية فهذا رجوع إلى نفس اعتبار الرؤية على نحو الموضوعية; وهذا يؤدي إلى نفي الاعتماد على المراصد الفلكية، هذا مضافاً إلى أن الحساب الفلكي يسبق في أغلب الأحيان الرؤية الميسورة للبشر إن لم يكن هذا السبق على نحو الدوام، فيكاد يكون الجمع بين المراصد الفلكية وبين إمكان الرؤية يشبه الجمع بين المتنافيين .
وإن كان المقصود من إمكان الرؤية هو إمكانها الذاتي مع غضّ النظر عن الحالة البشرية للهلال، فمثل هذا الإمكان لو فرض إمكان أخذه  قيداً في عالم الثبوت فقد عرفت عدم الدليل عليه في عالم الإثبات والدلالة. وبعد أخذ فعليّة الرؤية كما هو ظاهر الدليل يكون أخذ الإمكان الذّاتي قيداً في وجوب الصّوم من أبشع صور تحصيل الحاصل كما لا يخفى على اهل العلم والتحصيل.

ثالثاً

وهل يخفى القمر (2)

(رب اشرح لي صدري ويسِّر لي أمري واحلل  عقدة من لساني  يفقهوا  قولي) طه:25.
وبعد ، فإن  البحث  الفقهي  يعتمد  على  قواعد  وله مصطلحات  لا يعرفها إلاَّ  أهلُ  الإختصاص .
ولذلك  فقد  تصعب على  البعض  معرفةُ  المقصود  إن  لم  يكن  لديه   الإلمام    المطلوب بعناصر البحث، ولكي  يصبح  البحث  عن  مسألة  رؤية  الهلال  أكثر  فائدة  وأشمل  منفعة  وأوسع مساحةً من  حيثُ  القرّاء،  لا  بدَّ  من  ذكر  تعريفٍ  لبعض  المصطلحات  الواردة في  المقام،  وهذا شيء  يساعدنا  ويساعد  القارىء  على الخروج  من دائرة    الجدل وصناعة المُغالطات، ويفسح المجال  أمام  الجيل  الناشئ  من  أهل  العلم  في  الحوزات  والمدارس  الدينية  للإطلاع  على حقيقة  الحال،  ولإعادة  النظر  فيما  كتبوه  ونشروه  من  تقريرات  لأبحاث الأساتذة.
وقبل  الدخول  في  ذكر  تلك  الأمور،  لا بأس  في  التنبيه  على  أمر  يرتبط بعلاقة  الفقيه بالأحكام  الشرعية.
فالفقيه  ليسَ  مُشرعاً  للأحكام،  بل  هو  الباحثُ  عنها  بجدٍّ  واجتهاد،  يحاول  أن  يتعرّف  عليها  من  خلال  مصادرها  المُقرّرة  مع  مراعاة  القواعد  المعتبرة  في  فهم مقاصدها وتحديد مطالبها.
فليس  للفقيه  أن  يحذف  قيداً  موجوداً  لحكمٍ  مثلاً  ويستبدلهُ  بقيدٍ  غير  موجود انسجاما مع رأيه في علم من العلوم ;فإنّ ذلك من الاستحسان المرفوض والاجتهاد في مقابل النّص.
إذا  عرفت  هذا  نقول:  لقد  وردت  في  بحث  مسألة  الهلال  عدّةُ  عناوين  ومصطلحات لا بدَّ من  توضيح  المقصود منها  تمهيداً  لمعرفة  الحقّ.

(1)  احترازية  القيود،  وهي  قاعدة  يعتمدها  علماء  أصول  الفقه لتحديد  طبيعة  العناوين والقيود  الموجودة   في  النصِّ  الديني.
ومؤدى هذه  القاعدة  أنه  قد  يرتبط  الحكم  أو  الموضوع  بقيدٍ  من القيود  كما  لو  قال  المُشرِّع : ( إذا  زالت  الشمسُ  فصلِّ) أو( أكرم  الإنسان  الفقير).
فإن  الحكم  في  الصورة  الأولى، وهو  وجوب  الصلاة،  قد  ارتبط بزوال  الشَّمس  كما  هو  ظاهر  من  الشرط.  وارتبط  الموضوع،  وهو الإنسان  في  الصورة  الثانية،  بالفقر.
ومعنى  هذا  الارتباط  أن  شخص  الحُكم  في  الصورتين  ينتفي  عند انتفاء القيد  سواء   كان  قيداً  للحكم  أو  قيداً  للموضوع ،  وهذا  يعني  أن  كلَّ  قيدٍ  بحسب  هذه   القاعدة  يكون  دخيلاً  في  ثبوت الحكم  لموضوعه، ولذلك  كان  الحكم  ينتفي  بانتفائه  فإذا لم  يحصل  الزَّوال  لم  يحصل  وجوب  الصلاة   وإذا  لم  يحصل  الفقر  في  إنسان  معين  لم  يشمله ذلك  الوجوب  المجعول  على  الإنسان  الفقير ولا يكون الحكم فعلياً بالنسبة إليه.
وأنت  ترى  أنّ  القيد  في  كلتا  الصورتين  لم يكن  قيداً  تبرّعيّاً  بل  كان  مدلولاً  عليه  من  قبل  النصِّ  المذكور،  وقد  أطلق  عليه  إسم  القيد  الإحترازيّ  لأنَّ  المُشرِّع  بذكره  قد  احترز  عن  شمول  الحكم  الخاصّ  لحالة  فقدان  القيد;  إذ  لو لم  يكن  القيد  موجوداً لكان الحكم  ثابتاً  في  حالة  فقدان  القيد. وهنا  يقول  علماء  الأصول  بأن  الأصلَ  في  القيود   أن  تكون  إحترازيّة.

(2) الطريقية  والموضوعية،  والمقصود  منهما  ها هنا  أنَّ  بعض  العناوين  المأخوذة  في  موضوع  من  الموضوعات  قد  يكون  لها  صفةُ  الكشف  والحكاية  عن  شيء  آخر  نظير الرؤية  المأخوذة  في  وجوب  الصوم  المستفادة  من  قوله (صوموا  لرؤيته…)  فإنَّ  لها  حكاية  عن  المرئي  وهو  الهلال  فيقع  الكلام  في  أن  الرؤية  المأخوذة  في  موضوع  وجوب  الصوم،  بحسب  ظاهر  الدليل،  هل  أخذت  بما  هي  طريق  ومرآة  كاشفة  عن  ولادة  الهلال فلا تكون لها  خصوصية  أخرى  غير  الكشفِ  دخيلة  في  الموضوع،  وهذا  معناه  أخذ  الموضوع على  نحوِ  الطريقية  فيمكن  إثبات  ولادة  الهلال  بكاشف  آخر.  وإن  أخذت  الرؤية  بما  هي رؤية  لا  بعنوان  أنَّها  مرآة  كاشفة  عن  ولادة  الهلال  أو  للأمرين  معاً  فهذا  يعني  انحصار ثبوت  ولادة  الهلال  بها  ولا  تثبت  الولادة  شرعاً  بعنوان  آخر  وإن  كانت  له  صفة  الكشف  والحكاية، وهذا  معناه  أخذ  العنوان  على  نحو  الموضوعية.
وبما  أن  الطريقية  تستدعي  إلغاء  خصوصية  العنوان،  فهي  تحتاج  إلى  بيان  زائد   لا  يكفي  في  ثبوته  نفس  الدليل  المشتمل  على  العنوان  والظاهر  في  أخذه  وإعتباره  بعنوانه  الشخصي  لا  بعنوان  آخر لم  يُذكر  في  مفردات  النصِّ  محلّ  البحث  والإفادة.  ولذلك  يقول  المحققون  من  أهل  العلم  بأنَّ  الأصل  في  العناوين  المأخوذة  أن  تؤخذ  على  نحو  الموضوعية. 

(3)  فعلية  الرؤية، والمقصود بها أن يكون الهلال في معرض الرؤية البشرية، وليس المقصود أن يراه المكلف بنفسه ولذلك قالوا يثبت الهلال لدى المكلف برؤيته الشخصية أو بالرؤية المنقولة له بالتواتر أو بالشياع  المفيد للعلم، فتكون الرؤية الحاصلة بالتواتر أو بالشياع بالنسبة إلى المكلف الذي لم يشاهد الهلال بمعنى كون الهلال في معرض الرؤية البشرية بحيث لو حصل الاستهلال لحصلت الرؤية البشرية مع عدم المانع من غيم وشبهه.  وعلى هذا فمن أغلق عليه باب داره وكان الهلال في معرض الرؤية البشرية كان الصوم عليه واجباً ولذلك وجب عليه القضاء إذا قامت البينة الشرعية على الرؤية فيما بعد.

وبعد هذه المقدمات نقول:
إن النصوص الدينية التي وردت فيها صيغة ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) وما شابهها قد بلغت حد التواتر، ومن الواضح أن الصيغة المذكورة وأمثالها قد أخذت الرؤية فيها قيداً للحكم وهو وجوب الصوم. وقد عرفت من خلال ما تقدم أن الأصل في القيود الاحترازية وعرفت أيضاً أن الأصل المعتمد عند أهل التحقيق في عناوين الموضوعات أن تكون مأخوذة على نحو الموضوعية، والفرق في غاية الظهور والبيان بين التعبير عن وجوب الصوم بالقول ( إذا رأيت الهلال فصم ) وبين القول ( إذا ولد الهلال فصم ) أو ( إذا علمت بولادة الهلال فصم ). وقد كان للمشرع مندوحة في إختيار التعبير الخالي من قيد الرؤية، ولكنه لم يذكر سوى الصيغة المشتملة على كلمة الرؤية الواردة ضمن قضية شرطية. وقد عرفت في البحث السابق الفرق بين مشرعٍ زماني لزمان مخصوص أخذ قيداً في عالم الجعل والتشريع وبين قيدٍ أخذه مشرعٌ تنكشف لديه الأزمان ومطّلع على المستجدات والتطورات العلمية كما لا يخفى.
وكيف كان فإن كلمة الرؤية المذكورة في النصوص معناها لدى العرف واللغة من الواضحات، فهي تعني الرؤية البصرية المعهودة لدى البشر. ومما يؤكد إرادة هذا المعنى العرفي واللغوي  للرؤية  الواردة في النصوص والروايات  الأدلة الدالة على استحباب الدعاء عند رؤية الهلال والنظر إليه وكذلك الروايات الدالة على ثبوت الهلال بالبينة الشرعية;  فراجع واغتنم .

وعلى ما تقدم، فلا بد من الرؤية لثبوت الهلال الموجب لثبوت تكليف الصوم أو الإفطار، وأما الوجود الواقعي للهلال بمعزل عن هذه الرؤية لا يكون له أي أثر من الناحية الشرعية كما ذكر أستاذ الفقهاء والمجتهدين السيد الخوئي في مستند العروة الوثقى حيث قال ما نصه: ( ولكن هذا الوجود الواقعي لا أثر له في تكون الهلال وإن علمنا بتحققه علماً قطعياً حسب قواعد الفلك وضوابط علم النجوم، إذ العبرة حسب النصوص المتقدمة بالرؤية وشهادة الشاهدين بها شهادة حسية عن باصرةٍ عادية لا عن صناعة علمية ).  ثم قال: ( ومنه تعرف أنه لا عبرة بالرؤية بالعين المسلحة المستندة إلى المكبرات المستحدثة والنظارات القوية كالتلسكوب ونحوه من غير أن يكون قابلاً للرؤية بالعين المجردة والنظر العادي ) مستند العروة الوثقى- الجزء الثاني من كتاب الصوم -صفحة-123-124-.

ثم إن العالم بالفلك إذا أفاده علم الفلك يقيناً بولادة الهلال فهذا بالنسبة أليه يكون علماً ويقيناً، وأما بالنسبة إلينا فهو ناقل لعلمه ومخبرٌ عنه وهذا لا يفيدنا القطع واليقين. ولذلك ذكرنا في البحث السابق أن الحديث عن استفادة  اليقين من كلام الفلكي وعدم استفادته هو بحث صغروي قليل الجدوى بعد كون الفقيه في الغالب من غير أهل الإختصاص في علم الفلك، والمهم هو البحث في الكبرى، وهي في اعتبار هذا العلم وسيلة شرعية  لإثبات الهلال أو عدم اعتباره. وقد عرفت من خلال ما تقدم أن  الإعتبار هو للرؤية الحسية ولم يؤخذ في الدليل العلم غير الحسّيّ بولادة الهلال.

وأما دعوى أن إمكان الرؤية مأخوذٌ  قيداً في ثبوت الهلال ووجوب الصيام  فقد عرفت أن المأخوذ هو الرؤية بالمعنى المذكور في المقدمة، وأما إمكان الرؤية فهو قيد تَبَرُّعي، والنصوص منه خالية  كما لا يخفى. فيكون هذا القيد ساقطاً من الناحية العلميّة لعدم وروده في النصوص الشرعية، وهو ساقط من الناحية العلميّة أيضاً لأن القائل به يعلن عن بداية الشهر القمري قبل أسبوع أو اكثر  من الموعد الشرعي لالتماس الهلال، وهذا إسقاط عمليّ لهذا القيد المقترح ورجوع بالكليّة إلى حساب الفلكيّ وإلغاء للرؤية الشرعيّة وللشهادات المترتبة عليها.

وممّا يزيدك بصيرة في بطلان هذا القيد اعتبار من اخذه قيداً أن بداية الشهور مرتبطة بحركة الفلك التي تكشف عنها صناعة علم الفلك بوسائلها، ولا علاقة للرؤية البصريّة بذلك، خصوصاً في زمان تلوّث البيئة، وأنت خبير بفساد هذا القول وضعفه لأن الرؤية إذا لم يكن لها علاقة ببداية الشهور، وهو كذلك، فكيف يكون لإمكان الرؤية علاقة بذلك؟! هذا مع أن النصوص الشرعيّة لم تقل ( صوموا لبداية الشهر) وإنما قالت ( صوموا لرؤية الهلال) فلا تغفل ; فافهم واغتنم.
وقد ذكر الشيخ المغربي الرشيدي في حاشيته على الرملي ما نصّه : ( الشرع إنما أوجب علينا الصوم بالرؤية لا بوجود الشهر، ويلزم عليه أنه إذا دخل الشهر في أثناء النهار أنه يجب الإمساك من وقت دخوله ولا أظن الأصحاب يوافقون على ذلك).
وقال الإمام القرافي في كتاب الفروق : ( فإذا دلّ حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة لا يجب الصّوم) وقال أيضاً : ( وإن كان الحساب منضبطاً لكنه لم ينصبه صاحب الشرع سبباً فلم يجب به الصوم).

وعلى كل حال فإن الشريعة هي صاحبة الوضع و الرفع، فإذا وضعت الشريعة رؤية الهلال قيداً لوجوب الصوم، فلا يرتفع هذا القيد بالتلوّث البيئي ولا بالاحتباس الحراري للكرة الأرضية ولا بالاتساع في ثقوب طبقة الأوزون!!

ثم إن شهادة الفلكي بإمكان الرؤية مضافاً إلى أنها ليست شهادة عل موضوعٍ ذي أثرٍ شرعي كما عرفت، فإنها شهادة مستندة إلى العلم غير المحسوس ولا اعتبار بها، فإن المعروف بين المحصلين أن الشهادة المعتبرة وكذلك الأخبار هي التي تكون ناجمة عن حسٍ بشري لا عن صناعة علمية كما ذهب إلى ذلك السيد اليزدي في العروة الوثقى حيث قال ( لا يثبت، (الهلال)، بشهادة العدلين إذا لم يشهدا بالرؤية بل شهدا شهادة علمية ).
ووافقه على ذلك أساطين العلم وفقهاء العصر منهم السيد الخوئي في مستنده والسيد الحكيم في مستمسكه والإمام الخميني في تحرير الوسيلة والسيد شريعتمداري والسيد الميلاني والسيد الخنساري والسيد الكلبكاني والسيد الشاهرودي والسيد القمّي ذكروا ذلك في حاشية العروة الوثقى فراجِعْ.
وقد ذهبوا إلى رفض هذه الشهادة لأن موضوع الروايات الدالة على قبول الشهادة هو الرؤية الحسية لدى البشر. وقال العسقلاني في كتاب إرشاد الساري من كتاب الصوم : ( فلم نكلّف في تعريف مواقيت صومنا ولا عبادتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة إنما ربطت عبادتنا بأعلام واضحة وامور ظاهرة لائحة يستوي في معرفتها أهل الحساب وغيرهم). وقال الحافظ العسقلاني في فتح الباري من كتاب الصوم: ( فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلّف).

 وأنت  خبيرٌ  بعد  الذي  تلوناه  عليك  في هذا البحث  وسابقه بحجم المُغالطة  التي  وقع فيها القائل باعتماد المراصد الفلكية  لتحديد بداية  شهر  رمضان  ونهايته وغيره  من الشهور،وأنَّ  هذه  المسألة لا  علاقة  لها بعلم الفلك لا  على  مستوى الصُغرى  ولا على  مستوى الكُبرى  بل هي مسألة فقهيةٌ  ترتبطُ بما يُستفاد  من النصوص الشرعية  أولاً وأخيراً نظير  كلِّ المسائل الفقهيَّة التي تعتمد، في المبدأ والمُنتهى، على ما يُستفادُ من الأدلَّة المُقررّة ; وليسَ لأيٍّ كان أن  يستحسِنَ  أمراً  أو يعتبِرَ  شيئاً لم تدل عليه النصوص الواردة بشأنه .
والله من وراء القصد وبه نستعين وهو ولي التوفيق، والحمد لله ربِّ العالمين. 

رابعاً

إزدواجية الفتوى والسلوك:
الإشكالية الفقهية في الحج الواحد وعيد الأضحى المتعدد

لقد أخذت مسألة البحث عن رؤية الهلال  في السّنوات الأخيرة، بالخروج عن دائرة النّقاش الفقهي النّظري المعتاد بين الفقهاء، وبدأت بالانعكاس السّلبي على بعض الجوانب المهمّة والعمليّة من حياة المسلمين تتجاوز آثار الخلاف فيها على بداية شهر رمضان وعيد الفطر المبارك، إلى الخلاف على مسألة أكثر أهميةً وارتباطاً بجماعاتهم، وهي مسألة الحجّ الذي يجتمع فيه المسلمون من كلّ الأقطار في مكان واحد لأداء عبادة الحجّ الّتي تتجلّى فيها مظاهر الوحدة والجماعة كالوقوف في عرفات يوم التاسع من شهر ذي الحجّة وما يتبعه من المناسك في وادي منى وعيد الأضحى في اليوم العاشر منه.
وقد وصل الاختلاف في التوقيت، إلى حدّ تشكيك بعض المسلمين بصحّة عبادة الحجّ، ويعود السّبب في ذلك إلى تعدّد الجهات والمرجعيّات الّتي تتصدّى لتحديد أوائل الشّهور القمريّة وإلى اعتماد بعضهم على آليّات جديدة في التّحديد مستبقاً دعوى الرؤية الشّرعيّة ورأي الهيئة المشرفة على شؤون الحجّ والّتي كان الأمر موكولاً إليها منذ القدم تنظيماً للأمر ومنعاً للاختلاف وتعزيزاً لروح الوحدة والائتلاف بين الحجيج خصوصاً وبين المسلمين عموماً، فلا يصحّ أن تأتي كلّ جماعة من الحجيج من بلدها ومعها موعد للحج يختلف عن موعد جماعة أخرى قادمة من بلد آخر وعلى هذا كانت سيرة السّلف الصالح في كلّ العهود الماضية.
ومن الآليات الجديدة التي يعتمدها – بعض الأساتذة المعاصرين خلافاً للمشهور بين الفقهاء إن لم يكن مجمعاً عليه – آراء علماء الفلك وحساباتهم الّتي ينتج عنها إلغاء الاعتماد على الرؤية البشريّة لأن الحسابات الفلكيّة تكون نتائجها سابقة على الرؤية البشريّة في أغلب الأحيان كما عرفت في البحث السابق ولذلك بدأ هذا البعض يعلن عن بداية الشهور القمريّة قبل أسبوع أو أكثر من الموعد الشّرعي لالتماس الهلال ممّا يؤدّي إلى وقوع الخلاف المسبق مع دعاوى الرؤية المتأخرة وإلى التشكيك في مواعيد عبادة الحج.
ومن عجائب الأمور، أنّ بعضهم يمارس عملاً غير معقول من هذه الناحية، حيث يفتي لأتباعه بالوقوف مع المسلمين في عرفات في يومٍ واحد، مع إظهار اختلافه المسبق حول موعد الوقوف وعيد الأضحى، اعتماداً على الحسابات الفلكيّة السّابقة، الّتي يعتبرها مقدَّمةً على الرؤية الشرعية عند وقوع المعارضة بينهما.
وتأكيدا على إشاعة اجواء الشكّ والاختلاف بين الحجّاج وعموم المسلمين، يقوم هذا البعض بأداء صلاة عيد الأضحى في بلده بعد انتهاء عيد الحجاج بيوم أو يومين، وقد يكون ذلك بعد ثلاثة أيام  أحياناً،حسب اختلاف دعاوى الرؤية مع حسابات الفلك.
ووجه العجب والغرابة في هذا العمل، يبدو في الجمع بين النقائض والأضداد. فكيف نحافظ على مظهر الوحدة والاتفاق بين المسلمين، على ركن واجب من أركان الاسلام، و هو الحج، وفي نفس الوقت، نظهر الاختلاف بين المسلمين على أمر غير واجب يجوز تركه، كصلاة العيد، التي يفتي نفس هؤلاء باستحبابها وعدم وجوبها!!
ثمّ ،ماهي الفائدة من التّصدّي لتعيين موعد تلك المناسبة الدينية، مع إفتائه بالوقوف مع المسلمين في يوم واحدٍ، ومع وجود الهيئة الناظمة لشؤون الحج، والّتي يكون عمل الحجّاج حسب مواعيدها؟!
مع أنّ هذا السّباق على تحديد مواعيد الحج ليس واجباً في حدّ نفسه، فإن الله يأمر باستباق الخيرات؟! وهل يحصل من هذا التسابق على إعلان أوّل الشّهر فلكيّاً، سوى توليد الشكّ في نفوس الكثيرين من الناس حول مواقيت عبادتهم وصحّتها، وهم الّذين لم يجتمع لديهم المال اللازم لها إلاّ بشقّ الأنفس، وقطع المسافات الطّويلة؟! وما الّذي يحصل في بلاد المسلمين الأخرى، عندما تقام صلاة العيد بعد يومين من عيد الأضحى للحجّاج، غير المزيد من وحشة المسلمين بعضهم من البعض الآخر، وإيجاد المناخ الملائم للانقسامات و التّشرذم؟!
فأين هو اليسر في كلّ ذلك و الله تعالى يقول: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
وأين هو الاتّحاد في ذلك خصوصاً من دعاة الوحدة بين المسلمين؟! والله تعالى يقول: ( إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون).
وفي مثل هذا الاختلاف المذموم  يقول الامام علي عليه السلام:
( ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الامام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً – وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد! – أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه!.).

وعلى كلّ حال، فإنّ الواجب متابعة المسلمين في أداء مناسك الحج، ذات الوقت المحدّد لعموم المسلمين، كما هو الحال في يومي عرفة وعيد الأضحى، وفقا لهيئة القضاة المكلّفة بالتّعيين ويحكم بصحّة الحجّ شرعاً، لعدم العلم بمخالفة الهيئة المذكورة للتّوقيت الواقعي وعلى هذا جرت سيرة الأئمّة عليهم السّلام. وقد ذكر السيّد الخوئي قدّس سرّه أنّ الأئمّة كانوا يحجّون في أغلب السّنوات وكان أصحابهم والتّابعون لهم يحجّون أيضا مع سائر المسلمين وكان التوقيت والتّحديد ليومي عرفة وعيدي الأضحى والفطر بيد غيرهم في ذلك الزّمان واستمرّ الأمرعلى ذلك طيلة حياة الأئمة عليهم السّلام، ولم ينقل عنهم التشكيك في صحّة الحجّ ،ولم يسألهم أحد من أصحابهم عن إعادة الحجّ أو الوقوف في يومٍ آخر، مع أنّ الاختلاف بالتوقيت كان يحصل في أكثر هذه السّنوات، ولم يطلبوا من أصحابهم الاحتياط في ذلك، ولا  هم أنفسهم قاموا بهذا الأمر، ولم يصلّوا صلاة عيد الأضحى في الحجّ أو المدينة المنوّرة في يوم آخر، ولم يتصدّوا للإعلان الذي يزرع الخلاف بين المسلمين. وهذه السّيرة القطعيّة من الأئمّة عليهم السّلام، تكشف كشفاً قطعيّاً عن صحّة الحجّ ولزوم متابعة سائر المسلمين في ذلك.
وممّا يشهد على وقوع الاختلاف في التوقيت في ذلك الزّمان، وعلى لزوم تجاوزه، وعدم الاصغاء إلى تلك التشكيكات، قول الإمام الباقر عليه السّلام عندما سأله أبو الجارود بقوله:
( إنّا شككنا في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلمّا دخلت على أبي جعفر عليه السلام وكان بعض أصحابنا يضحّي فقال: الفطر يوم يفطر النّاس والأضحى يوم يضحّي النّاس و الصّوم يوم يصوم النّاس).

وعن الإمام موسى بن جعفر (ع) :
عن الرّجل يرى الهلال في (آخر) شهر رمضان وحده لا يبصره غيره أله أن يصوم؟ قال : إذا لم يشكّ فليفطر وإلاّ فليصم مع النّاس).

وفي رواية أخرى عن أوّل الشّهر:
(إذا لم يشكّ فيه فليصم وحده وإلاّ يصوم مع النّاس إذا صاموا).
وعن الامام الصّادق عليه السّلام قال عيسى بن أبي منصور:
( كنت عند أبي عبد الله (ع) في اليوم الذي يشكّ فيه، فقال: يا غلام إذهب فانظر هل صام الأمير أم لا؟ فذهب ثمّ عاد، فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدّينا معه).

والرّوايات في ذلك كثيرة. والذي يظهر بوضوح من هذه الروايات وغيرها أن الائمة عليهم السلام لم يكونوا يقومون بالتّصدّي لدور تعيين أوائل الشّهور القمريّة وتحديد المناسبات الدّينيّة اكتفاءاً بالجهات المعنيّة بهذا الأمر في زمانهم حتّى لا يقع الإختلاف بين المسلمين على مناسبات يفترض أن تكون جامعة لهم على رأي واحدٍ ينعكس في سلوك موحّدٍ يبعد عنهم مظاهر الاختلاف في الدّين لأنّ ما يفوت على المسلمين من مصلحة بسبب الاختلاف هو أكثر ممّا يفوتهم من مصلحة التوقيت الواقعي على تقدير المخالفة معه وتكون مصلحة التوافق بين المسلمين أشبه بالمصلحة السّلوكيّة التي يتدارك بها مخالفة الواقع على تقدير حصولها كما يقول بعض المحققين في علم أصول الفقه.
هذا إذا كانت المصلحة الفائتة واجبة التّدارك فتكون المصلحة السّلوكيّة هي العوض والبديل عنها وأمّا إذا كانت المصلحة الفائتة غير واجبة التّدارك كما هو الحال في غير الواجبات كصلاة عيد الأضحى، فإنّ مصلحة الإتفاق بين المسلمين تكون هي الأولى بالتّقديم بطريقٍ أولى، دون الحاجة إلى افتراض مصلحة سلوكية لازمة لتعويض الفائت الّذي لا يجب تداركه وتفصيل الكلام في ذلك متروك إلى محلّه من علم الأصول.
وإذا وجب الوقوف في عرفات مع سائر المسلمين في يوم واحد، فلا يجوز للحاج أن يقف في يوم آخر مخالفا لهم. وقد ذكر السيّد الخوئي أنه يحرم شرعاً الوقوف في يوم آخر غير اليوم الذي وقف فيه المسلمون في عرفات. ومن المعروف أنّ الحرام، لا يقع عبادة بحالٍ من الأحوال، فإنّ الله لا يطاع من حيث يُعصى ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأخيراً، فإنّنا نجدّد دعوتنا و اقتراحنا على ذوي الشّأن، تشكيل غرفة عمليّات مشتركة من قبل دول المؤتمر الاسلامي، ويكون مركزها في مكّة المكرّمة، ويجتمع فيها ممّثلون من ذوي الخبرة، وتكون هذه الغرفة الممثّلة للجميع، هي المرجع الوحيد في تحديد المناسبات الدينية، و بذلك يمكن أن نضع حدّاً لكلّ هذه الاختلافات حول مسألة الهلال، الّتي لم يعد من المقبول في هذا العصر، أن يحصل فيها مثل هذا الاختلاف مع وجود وسائل التّواصل الّتي تجعل من العالم كالقرية الواحدة من حيث إمكان المعرفة والاطّلاع وجمع الشّهادات من مختلف البلدان وتوثيقها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

_____________
بحث للعلامة المجتهد السيد علي الأمين دام حفظه بعنوان : (وهل يخفى القمر … العيد الضائع بين الرؤية الشرعية والحسابات الفلكية) صدر في شباط عام 1999 في عدة صحف ونشرات محلية وعربية وطبع على طبعتين في كتيب