الخميس , مارس 28 2024
الامين | دور الأديان في تعزيز المواطنة وترسيخ المبادئ الإنسانية 8

دور الأديان في تعزيز المواطنة وترسيخ المبادئ الإنسانية

دور الأديان في تعزيز المواطنة وترسيخ المبادئ الإنسانية كلمة العلاّمة الـسـيـد علي الأمين ‎في حوار مجلس حكماء المسلمين والطائفة الأسقفية الإنجليكانية بعنوان ‎ «نحو عالم متفاهم متكامل»

 دور الأديان في تعزيز المواطنة وترسيخ المبادئ الإنسانية

كلمة العلاّمة الـسـيـد علي الأمين

 ‎في حوار مجلس حكماء المسلمين والطائفة الأسقفية الإنجليكانية بعنوان

«نحو عالم متفاهم متكامل»

 

 – ابو ظبي 2-3 نوفمبر- 2016

المصدر: صحيفة اللواء اللبنانية –  الاربعاء,9 تشرين الثاني 2016

‎إن الوجود الإنساني حقيقة قائمة على التعدد في الأفراد والمجتمعات والشعوب والأديان والثقافات والحضارات،

‎وهي على تعدّدها تطرح على العقلاء من البشر سؤالاً جوهرياً عن الصِّيغة العمليَّة التي يمكن الإعتماد عليها للعيش بسلام بين هذه الأفراد والجماعات التي تختلف في انتماءاتها الدينية وفي تنوع ثقافتها؟ .فهل تتوقف دورة الحياة الإجتماعية بين بني البشر على وفاق تام بين تلك الإنتماءات المتعددة،  والوفاق التام حقيقة غير موجودة،  وصعبة المنال والحصول ؟!
‎أم نستسلم للمنطق القائل بضرورة الصراع بين الهوية الدينية وغيرها من الهويَّات والثقافات؟ وفي ذلك الخطر الكبير الذي يجلب المآسي والويلات للأمم والشعوب ويهدد حياتهم ومصيرهم على الأرض!

–    صدام الحضارات والثقافات

‎وقد حاول بعضهم تفسير الحروب والصراعات على أنها نتيجة حتمية لتصادم الحضارات واختلاف الأديان والثقافات،  ونحن نراها نظرية خاطئة، لأن معظم الصراعات المدمّرة التي حدثت في التاريخ القديم والحديث قد وقعت بين أنظمة ودول من الحضارة الواحدة ومن الدين الواحد في أحيان كثيرة،  وكان حصولها لأسباب غير دينية كحب السيطرة وسياسة التوسّع والهيمنة والإستئثار بالسلطات وامتلاك الثروات، ولو رجع أصحاب نظرية صدام الحضارات إلى رسالة الأديان لوجدوا فيها الدعوة إلى إقامة العدل بين بني البشر جميعاً، وهي دعوة لو تمّت الإستجابة لها لأزالت معظم أسباب الحروب والعداوات.

–    الأديان وحقوق الإنسان

‎فالأديان تساهم من خلال تعاليمها ومنظومة القيم والمبادئ الموجودة فيها تعمل على صناعة الوعي لدى الإنسان وترشيده وإيصاله إلى مجموعة من القيم الإنسانية التي تلغي الفوارق بين الأمم والشعوب وتوحّد النظرة إلى الإنسان وحقوقه على اختلاف الأعراق والألوان والأجناس.
والأديان كانت وتبقى جزءاً لا يتجزّأ من تكوين الحضارة البشرية،  وهي  (الأديان)  في أصل وجودها هادفة لإطفاء نار الإختلافات التي تحدث في المجتمع البشري والتي يشعلها تلوّث فطرة الإنسان السليمة بأوحال الأرض من جشع وطمع وشهوة التّسلّط وغيرها من الشهوات، وقد أشار القرآن الكريم إلى الغاية من بعثة الأنبياء: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) .
إن الإختلاف بمعنى التعدّد والتغاير،  والتفاوت في الآراء والأفكار هو سنّة من سنن الله في خلقه، ولا يمكننا تغييرها، ولا بدّ لنا من التعايش معها، كما يشير إليها القرآن الكريم:  (ولو شاء ربك لجعل الناس أمَّةً واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربُّك ولذلك خلقهم …) .

–    الإنسان المتعدد والأصل الواحد

فالقول بأن هناك تعدُّداً في الأفراد والجماعات ليس إلا اعترافاً بواقعنا الموجود الذي خلقنا الله عليه،  وهو لا يعني وجود من نختلف معه وإن تعدّدت آراؤنا وأفكارنا، فالأديان تقول لنا بأنكم من عائلة بشرية واحدة، وقد ورد في الإنجيل : (أن الخالق جعل الإنسان منذ البدء ذكراً وأنثى)  وفي القرآن:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

فالواحد منّا في نظر الأديان يساويه غيره ويعادله في الإنسانية التي ننحدر فيها جميعنا من أصل واحد،  وهي التي تشكل مصدراً للمساواة في الحقوق.
فعندما نقول: نعيش مع غيرنا أو غيرنا يعيش معنا،  فهذا يعني أننا شركاء في عيش واحد، وعندما نقول بأننا موجودون في هذه الأرض فهذا يعني بالمنظور الديني أن الله خلقنا منها وأوجدنا عليها، كما ورد في العهد القديم: (خَلَقَ الرَّبُّ الإِنْسَانَ مِنَ الأَرْضِ) وكما أشار إلى ذلك أيضاً القرآن الكريم:(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)،  وهذا يعني وجود شريك لنا في العيش عليها،  وأنها مشتركة بيننا، وليست خاصّة ببعضنا، وفي هذه الحال تخاطبنا التعاليم الدينية الداعية للمساواة في الحقوق، كما جاء في الحديث :  (أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره لغيرك ما تكره لنفسك)  وكما ورد في الإنجيل: (كل ما تريدون أن يعاملكم الناس به،  فعاملوهم أنتم به أيضاً: هذه خلاصة تعليم الشريعة والأنبياء)  وحتماً نحن نريد أن يعاملنا الناس بالحسنى،  فيجب أن نعاملهم بمثلها، والدين هو المعاملة كما جاء مضمون بعض النصوص الدينية.

–    صراع الأديان ليس مع العلم وعدم الإيمان

ولذلك يمكن القول أن ما يقدمه الدين من التعاليم الدينية قد ساهمت وتساهم في إزالة الفوارق المزعومة والمصطنعة بين بني البشر، وتعبر عن نظرة الدين إلى الحقوق المتساوية والمنبثقة عن الوحدة في الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع، فالصراع ليس بين الأديان وبين العلم وعدم الإيمان، فالدين يقول: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) و (إنما يخشى الله من عباده العلماء)  و (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) و (لا إكراه في الدين) .

إن الدين بدعوته للتمسّك بمبادئ الخير والعدل يصارع نوازع الشرّ في نفوس البشر وينهاهم عن الظلم والفساد في الأرض، فالدين يقول لهم: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) ولا يمكن الإستغناء عن دور الأديان في مواجهة سلوك طرق الشرّ والعدوان، وقد أثبتت التجارب أن الإنسان يمكنه العيش على الأرض بدون الصواريخ العابرة للقارات، وبدون أسلحة الدمار الشامل، ولكنه لا يمكن أن يعيش بدون التواصل بين أفراده القائم على قيم الحق والعدالة، والإحترام المتبادل، ولا يمكنه أن يعيش بدون منظومة من الأخلاق الإنسانية الداعية إلى التعاون بين بني البشر على البِرّ والتقوى، والأديان هي المدرسة والخزّان لكلّ هذه المبادئ التي تقرّب الإنسان من أخيه الإنسان.
وقد أشارت إلى هذه الحقيقة الإنسانية الواحدة والمشتركة بين كل الأفراد والشعوب الشرائع السماوية، ولا شك بأن التعدّدية التي انبثقت عن هذا الأصل الواحد يلازمها التغاير والإختلاف في الآراء والأفكار والمعتقدات بين الشعوب والأفراد والجماعات،  ولا يخلو وطن من الأوطان،  ولا شعب من الشعوب،  ولا أمَّة من الأمم من خصوصيَّة التعدُّد في الآراء والأفكار والثقافات والديانات والتقاليد والعادات.
ولكن هذا لا يعني بالضرورة حصول الخلافات والنزاعات،  لوجود الكثير من المشتركات التي تؤسس لبناء أفضل العلاقات من خلال ثقافة الحوار التي تؤدي إلى التفاهم الذي يبعد عن المجتمعات في العالم آفة الحروب والنزاعات والصراعات.

–    المواطنة والعقد الإجتماعي

وهذه التعاليم الدينيّة تعتبر عقداً اجتماعياً بين بني البشر عامّة،  ينظم العلاقة مع الأخر،  الفرد مع الفرد،  والجماعة مع الجماعة،  والشعب مع الشعب،  والأمّة مع غيرها من الأمم بعيداً عن خصائص الدين والمعتقد واللغة والثقافة واللون.
‎والذي يبدو من هذه التعاليم وغيرها أنّ بناء المجتمعات البشرية المنطلقة من أصل واحد يعتمد على الأمور التي تشترك فيها جميع المكوّنات في المجتمع والوطن وهي التي تكون منشأً لحقوق الأفراد والجماعات المتواجدة فيه وهذا ما ينسجم مع ترسيخ مبدأ المواطنة التي يحملها الفرد بصفته مواطناً يشترك معه في هذه الصّفة كلُّ الأفراد والجماعات وهي التي تكون منشأً لثبوت الواجبات عليه وعليهم تجاه الوطن والمجتمع. ولا نرى في الإسلام وغيره من الأديان ما يتنافى مع اعتماد المواطنية قاعدة في نظام الحكم والإدارة وتوزيع الحقوق والواجبات بعدالة ومساواة بين المواطنين مع اختلاف هويّاتهم الدينيّة والثقافية بل يعدُّ اعتماد هذا الأمر موافقاً لقاعدة العدل والإنصاف المستفادة من آيات عديدة منها قوله تعالى : (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)  ، ‎وقوله تعالى:  (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) وفي رسالة بولس :(أَيُّهَا السَّادَةُ،  قَدِّمُوا لِلْعَبِيدِ الْعَدْلَ وَالْمُسَاوَاةَ،  عَالِمِينَ أَنَّ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا سَيِّدًا فِي السَّمَاوَاتِ)  (لاَ تَرْتَكِبُوا جَوْرًا فِي الْقَضَاءِ. لاَ تَأْخُذُوا بِوَجْهِ مِسْكِينٍ….بِالْعَدْلِ تَحْكُمُ لِقَرِيبِكَ).
‎ولا شك بأن العدالة هذه منبثقة عن المساواة التي كانت مصدراً للمساواة في الحقوق الإنسانية التي ارتكزت عليها أحكام العدالة.

‎وإذا كانت المواطنية تعني المساواة بين المواطنين فهي تقع مورداً لتطبيق العدالة السماوية المطلوبة عليها، والمساواة التي تعنيها المواطنة هي من العدل الذي تقتضيه المساواة في الإنسانية،  ومما يستفاد منه العمل بقاعدة المواطنة بمعناها المعاصر الذي يعني العيش مع الآخر المختلف بعدالة ومساواة في الحقوق والواجبات قوله تعالى:  (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين) ونصوص دينية أخرى، مثل القول: (الناس سواسية كأسنان المشط) و (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)  و  (لا فضل لأحمر على أصفر ولا لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) .
 فإن المواطنين قد يختلفون في أصول أعراقهم وأديانهم وانتماءاتهم، ولكن المشترك بينهم في أوطانهم يبقى واحداً،  وهو المواطنية المرتكزة على المبادئ الإنسانية، وهم فيها على حدٍ سواء.

‎والمواطنون هم الذين يعبّر عنهم في الفقه السياسي بالرعية كما جاء في جملة من النصوص الدينية،  منها:  (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته،  الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته…)  و  (كل سائس إمام)  .. ووردت كلمة الرعية بهذا المعنى للمواطنة في كتاب الإمام علي  (ع)  إلى مالك الأشتر عندما ولّاه على أهل مصر وفيهم الأقباط المسيحيون وغيرهم من المسلمين : (أشعر قلبك المحبة للرعية واللطف بهم والعطف عليهم ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)  وقوله:  (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية) . ولا شك بأن العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات الوطنية هي الأجمع لرضى الرعية وهم المواطنون، وهذا يعني أن الحقوق المنبثقة عن الشراكة في العيش والوطن لا يتم توزيعها على أساس ديني وطائفي وإنما على أساس من الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع وعلى أساس من الشراكة الوطنية التي جعلت منهم رعية واحدة يستحقون الرعاية والحماية بلا تفاوت، وهذا ما نعنيه ونقصده بالمواطنة التي يقوم عليها النظام السياسي الذي يساوي في تشريعاته وأحكامه وقوانينه بين المواطنين مع حق احتفاظ كل فرد أو جماعة بالخصوصيات الدينية والسياسية التي لا تتنافى مع العقد الإجتماعي الذي قامت عليه قواعد النظام.
قال الشاعر:
ما دمتَ محترِماً حقّي فأنتَ أَخي___آمَنْتَ بِاللهِ أمْ آمَنْتَ بِالْحَجَرِ

 وأخيراً أتقدم بالشكر إلى رئيس مجلس حكماء المسلمين سماحة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب، وإلى رئيس أساقفة كانتربري سيادة الأب جستن ويلبي وإلى الأعضاء المشاركين والمشاركات في هذا اللقاء المميّز على طريق الحوار بين الشرق والغرب، والشكر الكبير لدولة الإمارات العربية المتحدة ولحكومة أبو ظبي على الإحتضان والتشجيع للقاءات التفاهم والحوار بين الشعوب، والسلام عليكم.


 

Processed with MOLDIVimg_0371

الشيخ أحمد الطيب- السيد علي الأمين - الشيخ حسن الشافعي
إمام الأزهر د. الشيخ أحمد الطيب- العلاّمة السيد علي الأمين – د. الشيخ حسن الشافعي

  السيد علي الأمين الشيخ أحمد الطيب

العلامة السيد علي الأمين - دور الأديان في تعزيز المواطنة وترسيخ المبادئ الإنسانية