الخميس , مارس 28 2024

معنى التَّقيَّة ومواردها – التّقيّة والموافقة – التّقيّة وخوف الضرر – التّقيّة والعيش مع الآخر

معنى التَّقيَّة ومواردها

– د. عتمان: سماحة السيد قبل أن أختم حواري أتطرق لامر مهم وهو التقية وما يردده البعض أنها عقيدة لدي الشيعة وبالتالي كل كلامهم حتى الجيد منه مرفوض لأنه تقية.. ما مفهوم التقية وحدودها وهل للعالم وخاصة من هم محل تقليد أن يتقي فيضل من يقلده؟ولدينا في المذهب السني قضية الإمام أحمد وكيف رفض رخصة الإكراه لأنه يعلم أن قوله سيتبعه غيره، فهل هناك نموذج مماثل في المذهب الشيعي وقد كان سيدا شباب اهل الجنة نموذجاً لرفع راية الحق ولو على رقابهما؟

– العلامة الأمين: الأخذ بظواهر الأقوال والأعمال قاعدة عامّة يعتمدها عقلاء البشر في علاقات بعضهم مع البعض الآخر، وأمّا ما في القلوب فلا يعلمه إلا الله علّام الغيوب! ويبدو من الكثيرين الذين يتحدثون عن التقيّة أنهم لا يعرفون مفهومها ومواردها وإن كانوا من الممارسين لها وهم لا يشعرون! وقد أعطى بعضهم التّقيّة مفهوماً مشوّهاً يزرع عدم الثقة بين الشيعة والسنّة، وهو يتحدّث عنها وكأنها صناعة خاصّة بالشيعة مع أنّ إظهار الإنسان لشيء يبطن خلافه ليس خصوصيّة شيعيّة، وإنّما هي حالة موجودة في سلوكيّات الأفراد من مختلف الطّوائف والأديان والقوميّات وقد توجد في البيت الواحد والأسرة الواحدة بين الزّوج وزوجه وبين الوالد وولده والأخ وأخيه والصّديق وصديقه وبين ربّ العمل والعامل، وهي بهذا المعنى موجودة بين الأحزاب والدول ورجالات السياسة وتسمّى في عصرنا بالتّقيّة السياسية، وهكذا في حقول عديدة من حياتنا الشخصية والعامّة، ولكن القاعدة العامّة المتّبعة بين البشر في علاقاتهم تبنى على ظواهر الأقوال والأعمال كما أسلفت، ولا تبتني على النوايا غير المعلومة. وقد جاء في أحاديث السنة النبوية: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال لأسامة (هلّا شققت قلبه!.) عندما قتل رجلاً في غزوة بعد قول الرجل (لا إله إلا الله) وزعم أسامة بأن الرجل قالها تقيةً!.

التّقيّة والموافقة

إن المشكلة تظهر في عدم إدراك بعضهم لمعنى التقية الواردة في تلك الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام مثل (ألتَّقيَّة ديني ودين آبائي) و(من لا تقيَّة له لا دين الله). فإن معنى الدين هنا ليس العقيدة والشريعة، وإنما هو بمعنى الطريقة المعهودة التي اعتمدها أئمة أهل البيت في تقديم المصلحة العامة وإيثارها، كما ورد عن الإمام علي (لأسلِّمَنَّ ما سلمت أمور المسلمين) وما كانت طريقتهم إلا النصح لله ورسوله وللمسلمين، فالدين النصيحة كما جاء في بعض الأحاديث. وقد يراد من التقيّة الإتيان بالعمل موافقاً للآخر الذي تختلف معه اجتهاداً أو تقليداً، كما في الصلاة والحج وغيرهما من الأعمال الشرعية، ويتحقق موضوعها عند تعدد الآراء واختلاف الإجتهادات تقديماً لعوامل الإتفاق على عوامل الإختلاف، وهي بذلك تسبغ الشرعية على الرأي المخالف من خلال ترتيب الآثار عليه باعتباره رأياً مشروعاً ناشئاً من النظر والإجتهاد في الكتاب والسنة، وهذا يعني أن من كان اجتهاده على خلاف رأيك أو رأي العالم الذي ترجع إليه لا تكون الموافقة له في مقام العمل محكومة بالبطلان، ولذلك كان الإمام جعفر الصّادق يأمر شيعته بالذّهاب إلى المساجد وإقامة الصّلاة جماعة مع المسلمين المختلفين معهم في شكل العبادة وليس في جوهرها ومضمونها، وكان يقول لهم (إن المصلّي خلفهم كالمصلّي خلف رسول الله في الصفّ الأوّل…) ولم يكن ذلك الأمر مختصّاً في حالة طارئة تقتضي الموافقة، بل كان في كل الأحوال، لأنّه كان يحثّهم على الذّهاب والمشاركة بشكل دائم ولم يطلب منهم إعادة العمل بعد ارتفاع ظرف الموافقة. وهكذا كان العمل في سائر العبادات كالحجّ والصّوم ومختلف المناسبات الجامعة للمسلمين.. وهذا يعني أنّ تلك الإجتهادات هي اختلافات مشروعة في الشّكل وليست في الغاية والمضمون ولذلك كان العمل بها صحيحاً لا تجب إعادته. وأماالمسائل الأخرى الكثيرة التي ليست محلاًّ للإختلافات الإجتهادية كالمسائل السياسية والعلاقات الإجتماعية على تنوعها بما في ذلك الروابط العائلية فهي من المشتركات الحياتية بين جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وقد ورد عن الأئمة من التعاليم ما يدل على ضرورة ترسيخ التعاون وقيام أحسن العلاقات بين المسلمين انطلاقاً من قيم الإسلام الأخلاقية ولوازم الأخوة الدينية والإنسانية التي تقضي بالحفاظ على العيش المشترك بين مكونات المجتمع على اختلاف الآراء وهي ليست من موارد التقية، وقد جاء في تلك التعاليم عن الإمام جعفر الصادق عندما سئل (كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟فقال: تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم). وفي بعض الروايات الأخرى يقول الإمام الصادق: (… وأوصيكم بتقوى الله – عزّ وجلّ – والورع في دينكم والإجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذاجاء محمد (ص) أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله (ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم…) (… عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس… (… وأحبّوا للناس ما تحبّون لأنفسكم. أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جارُه حقّٓه ولا يعرف حقَّ جاره!.)(علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك، وأن يكون في حديثك فضلٌ عن علمك، وأن تتّقي الله في حديث غيرك). والروايات بهذه المعاني مشهورة وكثيرة، وهي غير مشمولة للتقيّة بمعنى الموافقة على الإجتهاد المخالف لها، لأن الإجتهاد المخالف لها مرفوض لمخالفته لصريح الكتاب والسنة كما يشير إليه قول الإمام الصادق في الرواية المتقدمة (.. فبهذا جاء محمد – ص – ) وهذا يعني أن ما ثبت عن الرسول – ص – هو القاعدة التي يجب اعتمادها ولا تصح مخالفتها ولا تكون مسرحاً لتعدد الآراء والإجتهادات.

التّقيّة وخوف الضرر

وأما التقيّة بمعنى الخوف من الضرر فهي عامةٍ من حيث الأفعال والأشخاص والأمم والجماعات والأزمان لأنها حينئذٍ تكون حكماً عقلياً يعمل به العقلاء ويتفق مع مقاصد الشريعة، وهذا المعنى أشار إليه الفخر الرازي في كتابه (مفاتيح الغيب) عند تفسير الآية التي يستدل بها على تشريع التقيّة وهي قول الله (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) فقد نقل رواية عن عوف عن الحسن أنه قال: التقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال الرازي بعد ذلك وهذا القول أَوْلَى، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.

التّقيّة والعيش مع الآخر

وهذا التشريع للتّقيَّة في الآية المباركة لم يحدث شرخاً ولا مشكلة في علاقات المسلمين مع غير المسلمين قديماً وحديثاً، فقد قامت بين شعوب ودول الفريقين العلاقات الحسنة في مراحل عديدة وهي مستمرة إلى زماننا هذا، وعلاقات العيش المشترك في بلادنا العربية والإسلامية تشهد لذلك ناهيك عن عيش ملايين المسلمين في دول غربية عديدة يحملون جنسياتها الوطنية، وما ذلك إلا لأن العلاقات في المجتمع البشري تقوم على أساس ظواهر الأقوال والأعمال وليس على أساس البواطن والمعتقدات كما أسلفنا، وإذا كانت التقيَّة بالمعنى القرآني لم تمنع من قيام تلك العلاقات الحسنة بين المسلمين وغيرهم فبطريق أولى أن لاتمنع من ذلك بين المسلمين أنفسهم بعضهم مع البعض الآخر!. وهذا ما حصل فعلاً في حياة أئمة أهل البيت وخصوصاً الإمام جعفر الصادق الذي رويت عنه روايات كثيرة تحكي إيمانه بالتقيّة، وقد كان الإنفتاح في عهده قائماً على أئمة المذاهب الإسلامية وسائر المدارس الفقهية وكانت علاقة الأخوة الإسلامية راسخة فيما بينهم على رغم تعدد الآراء الفقهية وتباينها أحياناً ولم يحصل تشكيك في ذلك كما تشهد له علاقات الدرس والمصاهرة وغيرها. ولكن الفهم المشوّه للتقيّة من قبل بعضهم عن قصد أو غير قصد يراد به أن يجعل منها عائقاً أمام تقارب المسلمين وحاجزاً يمنع من ثقة بعضهم بالبعض الآخر مع أنها كانت موجودة بالطريقة التي اعتمدها الإمام الصادق كما بيّناها في بحثنا عنها وتفسيرنا لها بأنها كانت صيغة عملية لتقديم المشترك على الخاص وترجيح جانب الموافقة والإئتلاف على جانب الإختلاف في المسائل الفقهية مما يكشف عن اتساع الشريعة السمحاء لمختلف الآراء من الناحية العملية، والتوسع في ذلك موكول إلى علم الفقه.

المصدر : من كتاب العلاّمة السيد علي الأمين:  ( زبدة التفكير في رفض السب و التكفير )

ص: 192 – 198

الناشر : دار مدارك للنشر