جسور: هل ما ذكرتموه في مسألة الزواج المختلط بين أتباع الديانات السماوية هو من الإجتهاد ؟ وما هو الإجتهاد ؟
العلامة السيد علي الأمين: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية هو الفهم الحي للشريعة من خلال مصادرها المقررة وهذا الفهم الحي المعتمد على مصادر التشريع هو الذي يواكب الحياة ومتطلباتها ولذلك نرى أن الإجتهاد عندما يتعرض الى معرفة حكم مسألة من المسائل الحاضرة والمستجدة هو لا يشرع حكما جديدا أنما يحاول الإجتهاد الإجابة على هذا السؤال الذي تفرضه المسألة المستحدثة ، ويعتمد في عملية الإستنباط على القواعد التي تشكل ركائز إستنباط الحكم الشرعي من النصوص الدينية . ونتيجة الإجتهاد هذه ليست أمرا ثابتا ونهائياً. وقد يقال كيف تتم عملية استنباط الحكم لمسألة حديثة من نصوصٍ قديمة؟. والجواب أن جملة من النصوص الدينية على قدمها فيها من المرونة ما يجعلها صالحة للإجابة على السؤال المطروح وإن كان متأخرا عن عصر النص الديني بقرون عديدة نتيجة احتوائها على الشمولية والعموم . فإذا واجهت الفقيه مشكلة من المشاكل ولم يجد نصا مختصا بهذه المسألة يرجع الى تلك العمومات الموجودة في نصوص الشريعة.
ونتيجة لإختلاف النصوص أحياناً أو لاختلاف الأفهام في درجة وضوحها وحجيتها أحياناً أخرى أو لفقدانها في خصوص الموضوعات المستحدثة تختلف الإجتهادات باختلاف المباني المعتمدة عند الفقهاء في هذه الحالات فلا تأخذ بعض الإحكام المستنبطة صفة الثبات والدوام لعدم وجود نص صريح وواضح فقد يلجأ فقيه الى الإجماع في مسألة وقد يناقش فقيه آخر بحجية هذا الإجماع أو بدلالته أو بأصل وجوده . وقد يقول قائل كيف لا يكون التحريم في مسألة ما أمراً نهائيا ولا يكون التحليل في مسألة ما حكماً نهائيا مع أن القاعدة العامة المعمول بها هي :حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم القيامة ؟. وفي الحقيقة أن التحريم الذي نصل إليه عبر الإجتهاد تارة يكون معتمدا على نص صريح وواضح ومتفق عليه بين الجميع فحينئذ يكتسب التحريم وغيره من الأحكام صفة الثبات والدوام وهو ما يختص عادة بما يسمى بالضرورات الدينية .وقد يكون التحريم الذي وصل إليه الفقيه بالإجتهاد ليس معتمدا على نص لفقدان النص وعدم وجوده أو لعدم وضوحه فلا يكون التحريم الذي وصلنا إليه في هذه الحال تحريما نهائيا لأنه ليس تحريما من النبي محمد حتى يأخذصفة الدوام فقد يعتمد الفقيه عند عدم وجود النص التشريعي الواضح على إجماع أو على قاعدة اخرى وفي كلتا الحالتين قد يناقش فقيه آخر بالإجماع ككون المسألة مستحدثة ومتأخرة عن عصر الإجماع مثلا أو يناقش في أصل إنعقاد الإجماع أو في أصل حجيته أو في عموم تلك القاعدة التي اعتمد عليها عند فقدان النص الديني ومن هنا فإن حركة الإجتهاد التي قد تحدد حجية الإجماع أو القاعدة بدائرة محددة قد تطعن بصغرى القياس المنطقي، هذا حرام محمد وكل حرام لمحمد فهو دائم التحريم . فإن كبرى القياس المستفاد منها دوام التحريم وإن كانت ثابتة على المستوى التشريعي ولكن الجدل والنقاش ليس فيها بل في صغرى القياس التي تثبت التحريم شرعا إلى الفعل وفي نسبة صدور التحريم إلى محمد(ص). وهذا يؤدي الى الشك في صدور التحريم شرعا ولذلك لا يأخذ هذا الحكم المستنبط صفة الدوام والثبات لأنهما صفتان للتحريم الصادر على سبيل القطع والجزم وهذ التحريم لم يكن كذلك ..
وقد لا تكون المسألة مستحدثة حتى لا يؤخذ بالإجماع فيها ولكن بما أن الإجماع دليل صامت كما يقول علماء أصول الفقه وليس دليلا ناطقا لنأخذ بعموم اللفظ أو خصوصه فيؤخذ في هذه الصورة بالقدر الذي يكشف عنه الإجماع يقينا وأما ما زاد على ذلك فلا يكون الإجماع حجة فيه . وعليه ولتوضيح ذلك على سبيل المثال المسألة التي طرحت في المحاضرة وهي مسألة الزواج المختلط(زواج المسلمين من أهل الكتاب) في هذه المسألة إذا عدنا الى القرآن الكريم نراه لم يتعرض بصراحة ووضوح الى المنع من هذا الزواج المختلط وإنما تعرض الى المنع من التزويج بالمشركات والمشركين وحينئذ تصبح مسألة الزواج المختلط خارج دائرة النص الديني وتخضع لحركة الإجتهاد وقد أجمع العلماء على جواز زواج المسلم بالمرأة الكتابية وهذا يكشف عن أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين وأن مدلول المشرك لا ينطبق على مدلول أهل الكتاب ومع ذلك فإن هناك إجماعا من الفقهاء على منع تزويج المرأة المسلمة بالرجل من اهل الكتاب وهذا الإجماع من العلماء المسلمين على التحريم يخضع لحركة الإجتهاد ولا يكون مؤداه نهائيا والإجتهاد لا يعطي صفة القداسة للنتائج التي يتوصل إليها المجتهد لأنه يعبر عن فهم خاص بالفقيه والفتاوى هي نتائج حركة الإجتهاد وليست نصوصا دينية بالمعنى التشريعي ، والمقدس عندنا هو النص الديني على تقدير ثبوته وأما فهم النص الديني فليس من المقدسات التي لا يجوز تجاوزها، ومعظم الفتاوى هي تعبير عن الفهم الذي وصل اليه المجتهد من النظر في النصوص الدينية والقواعد التي أسسها لعملية الإستنباط، والمعروف عندنا أن فهم عالمٍ في مسألة ليس حجة على بطلان فهم عالمٍ آخر لإمكان أن يكون فهمه لم تكتمل عناصر الحجة والدليل فيه .
—–
(أ)-وقد يستند بعض الفقهاء في منع الزواج المختلط إلى قاعدة نفي السبيل عن المؤمنين باعتبار أن الزواج يجعل الولاية على المرأة المسلمة من زوجها الكافر وهو مناف للقاعدة المذكورة المستفادة من قوله تعالى:
(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)النساء-141- ولكن الآية لا تدل على المقصود بوجهٍ من الوجوه لأنها واردة في مقام أن الحجة في الآخرة هي للمؤمنين بالله على الكافرين فهم إن استطاعوا أن يظهروا الحجة الكاذبة في الدنيا على مواقفهم ولم يكن بالإمكان تكذيبهم في الظاهر، فإن هذه الحجج لن تكون على المؤمنين يوم القيامة ، والظاهر أن الفقهاء قد أخذوا بجزء الآية الأخير وتركوا الأجزاء الأخرى ولذلك وقعوا في النتائج التي لا دليل عليها والآية بأكملها هي:
(الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا). وقد جاء في تفسير الدر المنثور للشيخ السّيوطي : أخرج بن جرير عن علي (ع): (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) قال: في الآخرة.
وفي عيون أخبار الرضا بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الإمام الرضا(ع):(في قول الله جل جلاله ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)قال: فإنه يقول : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجّة، ولقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا أنبياءهم بغير حق ومع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا).
وعلى كل حال فإن كلمة السبيل الواردة في الآية هي بمعنى الحجّة والدليل ، وليست بمعنى الولاية المنبثقة عن العلاقة الزوجية الإختيارية والتي تعني القيمومة والحفظ والرعاية ولا يقصد بها السلطة والحكم .
العلامة السيد علي الأمين
مجلة جسور الأسترالية-سدني-١٩٩٥-