التربية والتعليم بين الواقع والمرتجى
العلامة السيد علي الأمين
تجربة التعليم الديني و التربية بين الواقع و المرتجى
اكتسب التعليم و التربية منذ قرون عديدة أهمية بالغة في مختلف المجتمعات و الدول و الشعوب ولذلك انشأوا لتلك الغاية المدارس و المعاهد و الجامعات وأعدوا المناهج للتعليم و البرامج للتربية باعتبارها تتولّى صناعة الانسان الذي يشكل ثروة الأوطان وعماد بقائها واستمرارها من خلال العلم الدافع لها باتجاه التّطوّر و الازدهار فبالعلم تتبدّد ظلمات الجهل و تنكشف غياهب التخلّف وتنقشع غيوم التعصّب و يدخل الانسان في عالم الأنوار ويلحق بركب الحضارة و التقدّم وقديماً قال الشاعر :
العلم يرفع بيتاً لا عماد لهُ / والجهل يهدم بيت العزّ والشرفِ
– التعليم رسالة معرفة وتربية
وعبر تاريخ الرسالات السماوية لم تنفصل رسالة العلم عن التربية وقد كان من مظاهر اهتمام السماء بالتعليم و التربية بعثة الأنبياء و الرسل الذين حملوا لواء العلم و التربية و نشروا المعارف و الاخلاق وكانوا الطليعة التي حملت بحق صفة المعلّم و المربّي و القدوة واستحقت ذلك بجدارة وممّا يشهد لهذا الاهتمام السماوي بالتعليم و التربية واقترانهما ما جاء في الانجيل المقدّس من أقوال السيد المسيح لتلاميذه:
( أنتم تدعونني (المعلّم و الربّ ) وأصبتم فيما تقولون فهكذا أنا فإذا كنت أنا الرب و المعلّم قد غسلت أقدامكم فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا انتم أيضاً ما صنعت إليكم) و في القرآن الكريم :
( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ( و إنّك لعلى خلق عظيم ) ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )
و الكتب السماوية مليئة بالدعوة الى اكتساب العلم و المعرفة وفي بعض النصوص الدينية أن العلم فريضة من الفرائض التي إن أداها الانسان فكأنما قام لأداء الواجب في محراب العبادة. ولذلك كان التعليم في عداد الرسالات التي يجب القيام بها اقتداءاً بالرسل و الأنبياء قضاءاً لحقّ إنساني فرضه الله على خلقه وقد جاء في بعض النصوص الدينية :
( ما اخذ الله على الجهلاء أن يتعلموا حتى أخذ الله على العلماء أن يعلّموا ) و في الانجيل ( فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا وعلّم الناس أن يفعلوا مثله عدّ الصغير في ملكوت السموات وأما الذي يعمل بها و يعلّمها فذاك يعدّ كبيراً في ملكوت السموات ) و في الحديث النبوي ( من تعلّم لله و علّم لله و عمل به دعي في ملكوت السموات عظيماً ) .
ولذلك يقع الخطر و يحصل الضرر عندما تتحول تلك الرسالة من خلال الإهمال وانعدام الضوابط و القوانين إلى وسيلة من وسائل العيش وإلى أداة من أداوات التّعبئة الخاصة بجماعة أو حزب أو طائفة لأن ذلك يخرجها عن كونها رسالة معرفةٍ وعلمٍ هادفة لصناعة الانسان وبناء الأوطان لا تعرف الحدود الضّيّقة لأنها رسالة واسعة الأرجاء، فسيحة الأنحاء للإنسانية جمعاء، وبذلك تتحول رسالة التعليم إلى أداة من أدوات الفرز و التقسيم الديني و الفكري و السياسي وتؤدي عكس الأهداف المرجوّة منها في تعزيز الروابط الانسانية و الوطنية ومن هنا أرى من اللازم إيلاء مسألة التربية الوطنية و التعليم في لبنان الاهتمام الكبير لأنها تشكل أساساً في بناء الوحدة الوطنية فيجب إعادة النظر في التشريعات و القوانين التي يسمح من خلالها بإنشاء المدارس و الجامعات و اعتماد المناهج و الكتب المدرسيّة و المؤلّفات لأنّ ما نشاهده من عدم الانتظام في هذا الحقل الحيوي و الخطير ينذر بشرٍّ مستطير فكيف يمكننا أن نصون وطناً واحداً و أن نحفظ وحدة لشعب لا يقرأ في كتاب واحد و لا يعتمد المنهج الواحد وقد وصل الأمر في الاختلاف بين مدرسة وأخرى إلى الاختلاف في أيام التعطيل في البيت الواحد فضلاً عن الكتاب الواحد و المنهج الواحد بل وصل الأمر في الصفّ الواحد إلى تقسيم الطلاب على أساس ديني و مذهبيّ في ساعات التعليم الديني حيث يخرج الطالب المسلم في ساعة تعليم الدين المسيحي و يخرج الطالب المسيحي في ساعة تعليم الدين الاسلامي فضلاً عن الكتب الدينية المذهبية حتى صحّ القول بأننا نقسمهم صغاراً و نطلب الاتحاد منهم كباراً!!
-المدرسة مركز للتعليم الجامع
إن ما نراه اليوم يذكرنا بفترة ماضية أهملت فيها الدولة مسألة التعليم وأعطت اجيالاً من الشباب بكاملها للأحزاب في أواخر الستينات و بداية السبعينات وتحولت المدارس إلى مراكز تعبئة أيديولوجية معاكسة لقيام الدولة و تطلعات الوطن القائم على العيش المشترك ولم يكن لوزارة التربية و التعليم من علاقة بالمدارس و المعلمين سوى صرف المستحقات من الرواتب و المخصصات التي كانت تصرف في الخطّ المعاكس لقيامة الوطن ونهوض الدولة. و اليوم أشعر بأنّ الأمر قد انتقل في المدارس من كونها كانت مراكز للأيديولوجيات السياسية إلى الأيديولوجيات الدينية وفي ذلك خروج عن دور مؤسسات التعليم و التربية الوطنية فلا يمكن أن يكون لكلّ طائفة إعلامها و تعليمها و كتابها ومنهاجها وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في ذلك سواء في المدارس الرسمية أو المدارس الخاصّة وحصر مهمة المدارس كلّها في إطار التربية الوطنية و التعليم فلا يصح في الدولة الواحدة أن يكون لكل حزب أو لكلّ طائفة مدارسها الخاصّة بها لأنّ ذلك ممّا يشكّل عائقاً ومانعاً من الإنصهار الوطني ولو على المستوى النفسي للطلاب و المواطنين خصوصاً ما نراه اليوم من تربية حزبيّة وطائفيّة في المدارس التي يربّى فيها الصغار على أفكار خاصّة ومشاريع سياسيّة تبتدئ بتحميلهم الأعلام و الرايات التي يغيب معها علم الوطن وفي أحسن الحالات يختلط بغيره من الأعلام الحزبية و الدولية الأخرى ولذلك أرى أن يتمّ العمل على إلغاء التعليم الديني من المدارس بالشكل الذي هو قائم فعلاً عليه واستبدال ذلك بكتاب يتحدّث عن الفضائل الدينيّة و القيم الأخلاقيّة التي تتفق عليها كلّ المذاهب و الأديان وأما الخصائص الدينية و المذهبيّة فإنّ تعليمها هو مهمة الكنائس و المساجد و المؤسسات الدينية. وبذلك نؤسس لأجيال موحّدة الآراء و الأفكار حول أنماط العيش و السلوك و النظرة إلى قضايا العلم و المعرفة بعيداً عن الأيديولوجبات المتصارعة.
-١٩٩٢-مدينة تول- النبطية-