التشيع والدولة وولاية الفقيه والإسلام السياسي
في حوار صريح مع العلامة السيد علي الأمين (1-2)
تنفرد “العالم الجديد” بنشر النص العربي للحوار الذي أجراه الباحث العراقي مشتاق الحلو مع العلامة السید علي الأمين، عضو مجلس حكماء المسلمين (وهي منظمة دولية يرأسها شيخ الأزهر)، حول جملة من القضايا المهمة، أبرزها إشكالية الدولة والمواطنة، والموقف من “ولاية الفقيه”، والإسلام السياسي، وشكل المرجعية الدينية، والعلاقة بين المذاهب والأديان.
***
ولد الأمين في جنوب لبنان 1952، وتتلمذ على أيدي عدد من مراجع النجف، أبرزهم السيد أبوالقاسم الخوئي والسيد محمدباقر الصدر، بلغ درجة الاجتهاد في حوزة النجف، وعرف بالاعتدال والوسطية، ونشر عددا من المؤلفات في مختلف مجالات الفكر الديني، وتميز بآرائه الجريئة، ومنها دعوته للمرجعيات الدينية من مختلف الدول الاسلامية الى عقد مؤتمر وإصدار فتوى تحريم الذهاب الى سوريا للقتال فيها كنوع من الدفاع عن الدين والمقدسات، من خلال الحوار التالي:
***
ماذا يعني الوطن من منظور ديني؟ ووفق أي أسس تبنى الأوطان والدول؟
– بالعودة إلى وثيقة المدينة المنورة يمكننا استكشاف أن الوطن هو الذي يجمع مختلف المكوّنات البشرية التي تعيش على أرضه، وقد كان يعيش في المدينة المنورة يهود ومسلمون وغيرهم من ديانات وثقافات وأعراق مختلفة، وقد عبرت تلك الوثيقة عن عقد اجتماعي قام بين تلك المجموعات المتعددة ونشأ عنه نظام يدير شؤون البلاد والعباد على أسس من العدالة والمساواة، وهو ما يمكن أن يعبر عنه في زماننا بدولة المواطنة التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات.
هل أن علاقة الشيعي بأبناء المذهب خارج بلده مقدمة على علاقته بأبناء وطنه من سائر المذاهب والأديان؟
– الشيعة كغيرهم من المواطنين يجب أن يكون ولاؤهم لوطنهم وللدولة القائمة فيه، ونحن نرى أن الدولة هي مؤسسة مدنية، لا كافرة، ولا مؤمنة، لا شيعية ولا سنّية، هي مؤسسة وجدت لإدارة شؤون المواطنين ونظم أمورهم على اختلاف انتماءاتهم، وبدونها يختل النظام العام الذي يجب الحفاظ عليه عقلاً وشرعا.
والشيعة هم جزء لا يتجزأ من شعوبهم ولديهم نفس التطلعات ولكن هناك بعض التجمعات الحزبية التي نشأت أخيراً تحاول ربط الشيعة بالمشاريع السياسية خارج اوطانهم وهو خطأ كبير لا يتحمل وزره وتبعاته كل الشيعة، فلا يمكن لأي حزب أن يختزل مذهباً وطائفة عريقة وعريضة ويكون الممثل الوحيد لها، فالحزب الطائفي مهما يكن حجمه يبقى أقلية داخل طائفته. وعلى العموم فإن ابناء الطائفة الشيعية مرتبطون بأوطانهم ودولهم وشعوبهم وهذا ما يجب ان يكون عليه الامر لذلك نرفض ان يكون هناك ارتباط خارج حدود الوطن بأي مشروع سياسي.
ونرى ان روابط المذاهب والاديان موجودة بين الشعوب ولكن يجب الا تكون تلك الروابط على حساب الاوطان، فأوطاننا يجب ان نرتبط بها ونحافظ عليها. والانظمة السياسية التي آمنا مع شركائنا في الوطن بها يجب ان يكون ولاؤنا وطاعتنا لها وليس لانظمة اخرى.
ويجب ان ينتبه الشيعة الى هذه الأحزاب وتلك الجماعات وأن لا ينخرطوا بها لان لها مشاريع سياسية خارج حدود الوطن تؤدي بهم إلى الصراعات الداخلية والنزاعات مع شركائهم في الوطن وتلك من أكبر الأخطار التي تصيب الشعوب في أوطانها.
هل يجب أن يكون ولاء الشيعي لدولته أم لـ”الولي الفقيه”؟
– ذكرتُ في كتاب (ولاية الدولة ودولة الفقيه) أن الولاية في الحكم هي للدولة كمؤسسة ناظمة لأمور المجتمع، وهي تنبثق عن اختيار الناس وإراداتهم، وليست مفروضة عليهم بالنصوص الدينية، وأن الفقيه كغيره في مسألة قيادة الحكم، فإذا اختاره الناس كان حاكماً عليهم بوصفه مختاراً منهم، ولم تثبت له ولاية الحكم عليهم بوصفه فقيهاً، وفي صورة اختياره حاكماً في بلد تكون ولايته على الشعب الذي اختاره، وليست ولايته عابرة للحدود والأوطان، ولذا فإن الواجب على الشيعي وغيره الولاء لدولته الوطنية والعمل بنظام مؤسساتها وقوانينها.
كيف ترون توظيف الشعارات الدينية في السياسة لأهداف سامية؟
– توظيف الشعارات الدينية في مشاريع السلطة والسياسة يسيء إلى الدين نفسه، ويلوث مبادئ الدين السامية بأوحال السياسيين واختلافاتهم وانقساماتهم وصراعاتهم على الدنيا ومكاسبها، ومن الأهداف السامية للدين العمل لتوحيد الصفوف وأن يكون الدعاة إليه قدوة للناس في تطبيق العدل على أنفسهم قبل غيرهم، كما جاء في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
ما هو رأيكم بتأسيس أحزاب دينية؟
– من خلال التجارب التي قامت بها معظم الأحزاب الدينية رأينا خروجها عن منهج الدعوة والرسالة والجنوح نحو إدخال الدين في النزاع على السلطة والسياسة وهذا يؤدي الى الاضرار بالدين ويؤدي إلى تقسيم المجتمع على أساس ديني من خلال جعل الدين مع المؤيدين للحزب الديني في سياسته، واعتبار المخالفين له في سياسته مخالفين للدين، وتصل الأمور بالأحزاب الدينية إلى إشاعة الانقسامات المذهبية في المجتمع مما يساهم في زرع الفرقة بين أتباع المذاهب والأديان ويؤدي إلى عزل المواطنين بعضهم عن بعض على أسس دينية ومذهبية، ولذلك كان رأينا اعادة النظر في نشوء الأحزاب السياسية في مجتمعاتنا على أساس ديني أو مذهبي، لأن دور الأحزاب السياسية يجب أن يقوم على أساس البرامج الاصلاحية التي يحتاجها المجتمع من خلال تطوير الدولة والمؤسسات مع المحافظة على وحدته الوطنية وعيشه المشترك.
هل ترون عموم الشيعة اليوم يتبنّون منظورا سياسيا واحدا، أم رؤى سياسية متعددة؟
– الشيعة كسائر الطوائف الأخرى في أوطانهم تتعدد انتماءاتهم السياسية، وإن كانت ولادة بعض الأحزاب الدينية والطائفية في بعض مجتمعاتهم ارتبطت عموماً بالرؤية الإيرانية وأدى ذلك إلى طغيان الصورة الواحدة وإلى إخفاء صورة تنوع الثقافة والسياسة الوطنية الموجودة أصلاً داخل الشيعة في أوطانهم، والشيعة العرب وغير العرب توجد لديهم نماذج عديدة تحمل خطاب الاعتدال الديني والوطني وتختلف فكرياً في الرؤية الثقافية والسياسية عن الرؤية الإيرانية وعن الأحزاب والمرجعيات الدينية التابعة لها، ولكن أصحاب هذه الرؤية تحاربهم تلك الأحزاب المهيمنة والمدعومة من إيران.
ما هو رأيكم بتدخل المؤسسات الدينية في السياسة، وتصدي رجال الدين للعمل السياسي؟
– لست مع تدخل رجال الدين والمؤسسات الدينية في العمل السياسي المباشر، والتجارب المعاصرة لتدخلهم لم تنعكس إيجاباً داخل الأمة ومجتمعاتها وأوطانها. وإن الواجب أن يكون اهتمام رجال الدين والمرجعيات الدينية في قضايا عامة كقضايا الدعوة ووحدة الأمة وفي المطالبة بتحقيق الإصلاحات والعدالة في شعوبهم وأوطانهم.
هل ترون للانتماء القومي والمواقف السياسية للعلماء دورا في وصولهم لمنصب المرجعية؟ وهل توجد منافسة بين حوزتي النجف وقم؟
– لا شكّ بأن المرجعية الدينية ارتبطت أخيراً بأوضاع السلطة السياسية والحزبيّة في أماكن تواجدها، ولذلك لا تجد في المرجعية الدينية إلا التأييد للسلطة العليا في إيران أو عدم المعارضة لها، ولا تسمع بوجود أصوات معارضة داخل الحوزتين في قم والنجف. وقد كان التنافس العلمي على المرجعية الدينية للشيعة في العالم قائما بين الحوزتين في السابق، وإن شابته أحياناً انحيازات الانتماء القومي، وكان المعيار العلمي من أهم العوامل في بروز المرجع واشتهاره، ولكن بعد إقامة السلطة في إيران على مبدأ ولاية الفقيه أصبحت المرجعية الدينية واقعة تحت تأثيرها، ولا تسمح بقيام مرجعية دينية داخل إيران ولا خارجها تخالفها الرأي.
أي صيغة تقترحونها لتنظيم المؤسسة الدينية الشيعية؟
– يحتاج تنظيم المؤسسة الدينية عند الشيعة إلى الإصلاح الذي يبتدئ من المرجعية الدينية بالدعوة الى إخراجها من مرجعية الفرد الى مرجعية المؤسسة التي تعتمد على أسسٍ تنظيمية وقانونية مستفادة من الشرع ومن تجارب الأمم والشعوب وعلوم الإدارة والتنظيم في كيفية وصول المرجع الى سدة المرجعية واختياره لها من خلال تنظيم السلك الديني انتساباً وتخريجاً وتحديث برامج التعليم الديني في الحوزات العلمية، وتشكيل مجلس يضم الحائزين على شهادة الاجتهاد يختارون المرجع الأعلى، وتشكيل لجنة دينية عليا لتوحيد بيت المال وضبط الأوضاع المالية وترشيد الإنفاق على المشاريع النافعة بالتخطيط لها والخروج من عشوائية الإنفاق والإنشاء ومنطق التمييز في العطاء بين القريب والبعيد والموالي والمعارض والعمل على ضمان إنتقال المال العام الموجود بين يدي المرجع في حياته إلى المرجع الجديد حتى لا يبتدئ من درجة الصفر.
يتبع….