الأحد , نوفمبر 10 2024

الحضارات في خدمة الإنسانية

الحضارات في خدمة الإنسانية

العلّامة السيد علي الأمين*

المصدر : جريدة اللواء اللبنانية – 12- 6- 2014 – العدد

منابع الحضارة والأصل الواحد

لقد تعدّدت منابع الحضارة البشرية بتعدّد الشعوب والأمم والجماعات واختلاف تجاربها على مرّ العصور وجهودها المبذولة في إعمار الحياة وتقدّم الإنسان، ولا شكّ بأن الجوانب المضيئة في هذه الحضارة من العلوم والثقافات والصناعات وسائر الإنجازات هي التي تقدّمت بالإنسان وجعلته يتغلّب على مصاعب الحياة، وهي التي أخرجته أيضاً من الحال البدائية التي كان يعيشها في عصور الظلام وأوصلته إلى عصر العولمة والتنوير.
وهذه الحضارة التي بناها الإنسان بتراكم التجارب واكتساب المعارف في مختلف الأعصار والأزمنة هي حضارة عابرة للدول والأمم والشعوب، فهي من الإنسان كانت وإلى الإنسان تعود، وبالإمكان أن نجعل منها مدرسة للبشرية جمعاء تستفيد منها في إبعاد شبح الحروب والنزاعات التي تهدد مستقبلها ومصيرها، وتستفيد منها في توثيق عرى التواصل بين الدول والشعوب والجماعات على الرغم من تعدّدها في الثقافات والديانات ومختلف الإنتماءات القومية والجغرافية والخيارات السياسية، لأن هذه التعدّديّة منبثقة عن حقيقة واحدة جامعة لها، وهي الإنسانية التي ننتمي إليها جميعاً، وقد أشارت إلى هذه الحقيقة المشتركة الشرائع السماوية كما ورد في الإنجيل (أن الخالق جعل الإنسان منذ البدء ذكراً وأنثى) [متى/19]. وفي القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات/13]، ولا شك بأن التعدّدية التي انبثقت عن هذا الأصل الواحد يلازمها التغاير والإختلاف في الآراء والأفكار والمعتقدات بين الشعوب والأفراد والجماعات، ولا يكاد يخلو وطن من الأوطان، ولا شعب من الشعوب، ولا أمَّة من الأمم من خصوصيَّة التعدُّد في الثقافات والديانات والتقاليد والعادات، ولكن هذا لا يعني بالضرورة حصول الخلافات والنزاعات، لوجود الكثير من المشتركات التي تؤسس لبناء أفضل العلاقات من خلال ثقافة الحوار التي تؤدي إلى التفاهم الذي يجنّب المجتمعات في العالم آفة الحروب والنزاعات والصراعات.

الإنسانية مصدر المساواة 

إن القول بأن هناك تعدُّداً في الأفراد والجماعات هو اعتراف بالواقع الموجود، وهذا يعني وجود المختلف عنّا إدراكاً وخارجاً، ولكنه لا يعني بالضرورة أن يكون هو المختلف معنا وإن اختلفت الآراء والأفكار والمعتقدات، فالواحد منّا يساويه غيره ويعادله في الإنسانية الموجودة فينا بالتساوي، وهي التي تشكل مصدراً للمساواة في الحقوق. فعندما نقول: نعيش مع غيرنا أو غيرنا يعيش معنا، فهذا يعني أننا نعيش معاً، أو أننا موجودون معاً على هذا الكوكب كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، وهذا يعني وجود شريك لنا في العيش وفي الوجود، وعندئذٍ تخاطبنا التعاليم الدينية الداعية للمساواة الإنسانية كما جاء في الحديث: (أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره لغيرك ما تكره لنفسك) وكما ورد في الإنجيل (كل ما تريدون أن يعاملكم الناس به، فعاملوهم أنتم به أيضاً: هذه خلاصة تعليم الشريعة والأنبياء) [متى/7].
ولذلك يمكن القول أن هذه التعاليم وأمثالها هي جزء من حضارة الإنسان الثقافية التي ساهمت فيها الديانات السماوية، وهي تعتبر عقداً اجتماعياً بين بني البشر عامّة، ينظم العلاقة مع الأخر، الفرد مع الفرد، والجماعة مع الجماعة، والشعب مع الشعب، والأمّة مع غيرها من الأمم بعيداً عن خصائص الدين والمعتقد واللغة والثقافة واللون.

أسباب الصراعات

ونحن نرفض تفسير الحروب والصراعات على أنها نتيجة حتمية لتصادم الحضارات واختلاف الأديان لأن الأديان في جوهرها واحدة وهي التي ساهمت إلى حد كبير في ترشيد الإنسان والوصول به إلى مجموعة القيم الإنسانية التي تلغي الفوارق بين الأمم والشعوب والنظرة الموحَّدة إلى الإنسان وحقوقه على إختلاف الأعراق والألوان، وقد كانت الرسالات السماوية جزءاً لا يتجزأ من تكوين الحضارة البشرية، وهي في أصل وجودها هادفة لإطفاء نار الخلافات التي حدثت في حياة المجتمع البشري وهدايته إلى سواء السبيل، تلك الخلافات التي تتولد من الملوِّثات الأرضيّة التي تصيب فطرة الإنسان السليمة بالجشع والطمع وحبِّ السيطرة والإستئثار بالمقدرات والثروات، وبانقياد الإنسان إلى هذه الصفات تحصل النزاعات والصراعات بين الأفراد كما حصل بين قابيل وهابيل وبين الشعوب والمجتمعات، وقد احتاج الإنسان إلى المرشد والموجّه الذي يعيده إلى مقتضيات الفطرة السليمة الرافضة للظلم والعدوان، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في حديثه عن بعثة الأنبياء {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}. وهذه حقيقة يؤكدها الواقع الذي عاشه من كان قبلنا والذي نعيشه نحن اليوم، فقد وقعت الحروب الكثيرة في التاريخ القديم والحديث بين أنظمة ودول من الحضارة الواحدة ومن الدين الواحد كما حصل في القرن العشرين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وغيرهما من الحروب الأهلية التي حصلت بالأمس القريب والبعيد والتي تحصل اليوم في كثير من المناطق داخل المجتمع الواحد والأمّة الواحدة في مختلف أنحاء العالم، وهذا يكشف لنا عن بطلان النظرية القائلة بتصادم الحضارات والأديان والثقافات. ولذلك يجب البحث دائماً عن القواسم المشتركة في هذه الحضارة التي يجتمع تحت لوائها كل أصحاب الديانات والثقافات المتعددة، وسنجد في كتب السماء وكتب أهل الأرض ما يجتمع الناس حوله من قيم ومبادئ تحفظ الجميع ، وفي اعتقادي أن الخطر المحدق بالبشرية اليوم ليس له من علاج إلا باطلاق الحوار الديني والثقافي بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة والتي تشكل في تعددها واختلافها مصدراً من مصادر الغنى في المعرفة البشرية وتطور أنظمتها السياسية والإجتماعية، ولا نراها سبباً لحدوث الإختلافات والنزاعات بين المجتمعات البشرية كما يزعم بعضهم، ومن خلال تعميق هذا الحوار المتعدد الجوانب يمكن أن نصل إلى رؤية مشتركة بها يبتعد العالم عن ويلات الحروب ومآسيها ويمكن أن تساهم هذه الرؤية المشتركة في المزيد من تقدم العالم وازدهاره وعيش شعوبه وأممه ودوله في أمان واحترام وسلام.

المعيار الأخلاقي

والمعيار في التفوّق الحضاري هو في السلوك الإنساني المستقيم وفي رقي الأحكام والقوانين والأنظمة التي تتوصل إليها الأمم وتمارسها في حياتها وعلاقات أفراد كل أمة مع أنفسهم ومع غيرهم من الأمم الأخرى، وليس ميزان الرقي بين الأمم والشعوب في قدرة بعضها على تدمير البعض الآخر. وقد رأينا آثار القوة العسكرية ونظرية تفوّق العنصر عندما تعتمدان سبباً للتفاضل الحضاري وما نتج عن ذلك من صراع مدمِّر كما حصل فيما أشرنا إليه من الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية وغيرهما من الحروب والنزاعات التي أهلكت الحرث والنسل وملأت الدنيا بالمآسي والويلات، وقد كشفت تلك النظريات وما نجم عنها عن المدى الهائل لإنهيار القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية، فإذا صح أن نسمّي ذلك تفوّقاً فهو تفوّق في الروح العدوانية التي لا مثيل لها حتى في شريعة الغاب.

الحضارة والأديان

ولا يمكننا أن ننكر تأثير الأديان عموماً في الحضارة الإنسانية عبر التاريخ القديم والحديث، ولا توجد حضارة مغلقة خصوصاً في هذا العصر بعد التواصل القائم فعلاً بين الشعوب والذي لم يخل منه عصر من العصور السابقة بشكل وآخر، فالحضارة هي نتاج الفكر الإنساني الذي تتدخل عوامل عديدة في تكوينه، والفكر الإنساني ليس حكراً على أمة دون أخرى وليس سمة لازمة لجنس دون آخر، أو لعرق دون غيره، أو لمنطقة دون أخرى، ولذلك نرى حصول مشتركات ثقافية بين الكثير من الشعوب تكوّنت من خلال التواصل ومن العقل الإنساني المشترك العابر للحدود المصطنعة، ولعلّه من النادر أن تجد ثقافة بكل تفصيلاتها خاصة بشعب، أو حضارة بكلّ تشعّباتها خاصة بأمة أو بدين بحيث تكون صناعة حصرية لها لم تساهم فيها بقية الأمم والشعوب فيها ولو على مستوى الأفراد، فما وصلت إليه الأمم السابقة عبر تجاربها الطويلة في الحياة يشكل جزءاً لا يتجزأ من تكوين الحضارة في الأمم والأجيال اللاحقة وهكذا..
فالحضارة هي كالنهر الجاري الذي تغذيه روافد كل الشعوب والأمم التي عاشت على ضفافه، وهي التي ساهمت جميعاً في إثرائه وسعته وإغنائه، وهذه الحضارة هي بمثابة السُّلَّم الذي تساهم البشرية جميعاً في صنع درجاته صعوداً، ولم يكن بالإمكان الوصول إلى بناء درجاته العليا دون الإعتماد على الدرجات السابقة، وينتسب هذا السلّم في عملية بنائه الى الجميع في شتى الأعصار ومختلف الأمصار.
وقد أحسن العالم الكبير (ول ديورنت) في كتابه المهم (قصة الحضارة) المجيء بلفظ الحضارة بنحو المفرد وليس بلفظ الجمع، فهو إشارة منه إلى وحدة الحضارة الإنسانية وليس إلى تعدّدها كي يقال باختلافها وتصادمها،فهي عنده بمثابة الكتاب الواحد الذي كتب ويكتب صفحاته الإنسان، وعلى تقدير القول بتعدّد الحضارة في أفرادها فلا نؤمن بوجود عداوات بينها تؤدي إلى حتميّة الصراع والتّصادم بين أصحابها،لأن الإنسان هو الذي أوجد الأمور المتفقة والأمور المختلفة في كتاب الحضارة ونهرها العظيم، وليس أسيراً لها، فهو الكائن الحرّ الذي يمتلك الإرادة والإختيار والذي يمكنه أن يسبق الملائكة في بناء المجتمع البشري على أسس من العدالة وصون الحقوق الإنسانية وتغليب عوامل الخير على نوازع الشر، وهذا هو ما بدّد وأزال مخاوف الملائكة من استخلاف الإنسان في الأرض عندما قالت لله سبحانه في حوارها معه وتساؤلها عن الحكمة في استخلاف الإنسان {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} كما جاء في قصة جعل الإنسان خليفة لله في الأرض لإعمارها كما وردت في القرآن الكريم.
ومن خلال هذه الحقيقة نرى أن البشرية كلها يمكن أن تعيش بإرادتها بسلام خارج دائرة الصراع، وما يساهم بذلك مساهمة فعّالة هو العودة إلى قيم السماء التي حملتها الرسالات السماوية، ويتم ذلك من خلال حوار جاد بين أهل الإختصاص من أتباع الديانات والمذاهب والثقافات يقوم على أساس القبول بالآخر واحترام خصوصيته وعدم السعي إلى إلغائه والسيطرة عليه.

مواجهة ثقافة التطرّف – مسؤولية الدول وولاة الأمر والعلماء

وهنا تبرز مسؤولية الدول وولاة الأمر خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط التي بلغ فيها الشحن الطائفي مستوى خطيراً يهدد نسيج الوحدة الوطنية والتعددية الثقافية في شعوبنا ومجتمعاتنا والذي بات يشكل أيضاً المناخ الملائم لانتشار ثقافة العداء والكراهية للآخر المختلف، وهو ما يهدد أيضاً العلاقات مع شعوب ودول العالم الأخرى. والمطلوب لمواجهة هذه الحالة الطائفية الطارئة التي تهدد الاستقرار في بلداننا وعلاقاتنا مع الشعوب الأخرى أن يتحرك – بالدرجة الأولى – ولاة الأمر والحكام في دولنا العربية والإسلامية -لأنهم يمتلكون الإمكانات لمواجهة ثقافة التطرّف بالعمل على ترسيخ قواعد المواطنية التي تقوم على العدل والمساواة بين المواطنين، وبالعمل على دعم:
أ – أصحاب خطاب الاعتدال الديني.
ب – إنشاء المعاهد للدراسات الدينية المشتركة.
ج – تنظيم السلك الديني وتحديث مناهج التعليم في المعاهد والمدارس الدينية.
د – تأليف الكتاب الديني الواحد لطلاب المدارس الأكاديمية يتحدث فيه عن المشتركات الدينية والفضائل الإنسانية، وأما خصوصيات المذاهب والأديان فهي مسؤولية المساجد والكنائس والمعاهد والمعابد الخاصّة بكل دين ومذهب.
هـ – اعتماد الوسائل الإعلامية والقنوات التلفزيونية التي تنشر فكر الوسطية والاعتدال في مجتمعاتنا المحلّية وعلى المستوى العالمي.
و – كما أن المطلوب من علماء الدين التمسّك بخط الوسطية والاعتدال الذي دعت إليه الشرائع السماوية، والإبتعاد عن الانخراط في الحالات الحزبية التي تدفع بطبعها أصحابها للتعصّب لآراء أحزابهم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء كانوا الدعاة للإلفةوالإنسجام، وما كانوا دعاة للفرقة والإنقسام، ولا يسعنا في نهاية هذه الكلمة إلا تقديم الشكر لمملكة البحرين ملكاً وحكومة وشعباً على دعوتهم الكريمة لهذا المؤتمر الدولي لحوار الحضارات والثقافات داعين لهم بالتوفيق والنجاح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


* كلمة العلّامة السيد علي الأمين في إفتتاحية مؤتمر حوار الحضارات والثقافات: الحضارات في خدمة الإنسانية، الذي انعقد في مملكة البحرين ما بين 5 و7 آيار 2014.