استراتيجيات ورؤية القيادات الدينية
في مناهضة خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي
العلاّمة السيد علي الأمين
إن خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي هما ضدّان لا يجتمعان، فلا يمكننا الوصول إلى تعزيز التعايش السلمي بين الأمم والشعوب إلا بمواجهة خطاب الكراهية بوصفه مصدراً من المصادر التي تصنع الإرهاب الذي يسعى لتدمير العلاقات السلمية في المجتمعات البشرية.
وقد بات من المعروف أن خطاب الكراهية – الذي يعني كل عبارة تؤيد التحريض على العدوانية والعنف بين الناس والتمييز بينهم وكل ما يتعارض مع إحترام حقوق الآخرين وقيم التفاهم والحوار والعيش بسلام وعدالة – هو مصدر من مصادر ثقافة التّطرّف والإرهاب، وهو مما يجب علينا العمل على مواجهته بنشر ثقافة تدعو إلى الأخوّة الإنسانية والتلاقي، تنشر الإعتدال وتعزز السلم بين البشر.
ومع انتشار وسائل التواصل والفضاء الإعلامي المفتوح، صار من الممكن لأي فكرة أو حركة أو جمعية أو حزب أو مؤسسة أو لفرد الحصول السريع على الدعم والتأييد لما يطرح من أفكار من خلال الكلمات والتصريحات والتعليقات والصور والفيديوهات والصوتيات والمقابلات، فتنتشر الفكرة كالنار في الهشيم، فإذا كانت الفكرة تحمل عناوين التفرقة الدينية والعرقية والمذهبية والطائفية والمناطقية التي تزرع الكراهية بين الطوائف والشعوب فإنها تعمل على إيجاد البيئة والأتباع بتلك الوسائل لنشر الحقد وثقافة نبذ الآخر وتشويه كل دعوة للسلام والمحبة في المجتمع، وبذلك تتحول الكراهية إلى منظومة واسعة الإنتشار تطل من الشاشات والصحف ومواقع التواصل ومن بيوت الله أيضاً منطلقةً من الذين لا يؤمنون بحق الآخر في الوجود ليتم الحوار معه.
وتأتي الدعوة الى زرع الكراهية أحيانا من خلال مناخ يسود فيه الفقر والظلم في المجتمع، لتضفي تلك الجماعات المتطرّفة على دعوتها شعارات المطالبة بالعدالة الإجتماعية ورفع القهر والظلم والحرمان.
وتحت هذا الغطاء يرى البعض من الأتباع لدعوات زرع الكراهية حصول المبرر للخوض في الدماء وإطاحة مفاهيم الشراكة والإنقضاض على الأخوة الإنسانية والتمرد على قوانين السماء والأرض.
وبتعبير آخر تسعى هذه الجهات لإستغلال الدين للوصول إلى ما تريد، وهي في الطريق إليه تطيح بكل القيم وتستسيغ كل الجرائم بحق الإنسان تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة.
وقد ورد في بعض النصوص الدينية الإشارة إلى خطر القول الذي ينشر الكراهية بين الناس: (يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول: أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا، فيقال له:
خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها العرض الحرام، وعزّتي وجلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من جوارحك).
وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله أوصني فقال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني قال: احفظ لسانك، قال: يا رسول الله أوصني، قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم).
وقد اختصر بعض الحكماء وصايا الأنبياء في تسعة، وقال: (إحفظ خمسة، واذكر اثنين، وانسَ اثنين. إحفظ قلبك في الصلاة، واحفظ لسانك بين الناس، واحفظ عينك عند جارك، واحفظ فمك على مائدة الطعام، واحفظ فرجك من العِرض الحرام، واذكر الله واذكر الموت، وانسَ إحسانك لغيرك، وانسَ إساءة غيرك إليك).
لقد صار من الضروري لصيانة المجتمع البشري أن تسنّ القوانين الدولية التي تحميه وتصونه من شرور خطاب الكراهية وآفات هذا الداء الفتّاك الذي يتهدده بالإرهاب باعتباره مصدراً من مصادره الأساسية، فإن من سبل الحماية له العقوبة الرادعة.
وبموازاة ذلك القانون لا بد في مواجهته من قيام وسائل التواصل والإنترنت والإعلام من الإلتزام بمنع نشر خطاب الكراهية وكل ما يساعد على تعليم أبنائنا لوسائل العنف.
ومع كل هذا لا بدّ من العمل الثقافي الذي يكشف زيف خطاب الكراهية وأصحابه، ويربي أجيالنا على المشتركات الإنسانية والقيم السماوية الجامعة بين الأمم والشعوب البعيدة كل البعد عن الإنتماءات العرقية والدينية وغيرها من عوامل الفرقة والتمييز بين البشر.
والمشتركات الإنسانية في الخَلْقِ والحقِّ تستفاد من الشرائع السماوية التي تقول لنا بأنكم من عائلة بشرية واحدة، وقد ورد في الإنجيل: (أن الخالق جعل الإنسان منذ البدء ذكراً وأنثى) وفي القرآن: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
فالإنسان في نظر الأديان تتساوى أفراده في الإنسانية التي نتحدّر منها جميعنا ونرجع فيها إلى أصل واحد، وهي التي تشكل مصدراً للمساواة في الحقوق.
وبالمنظور الديني أن الله خلقنا من الأرض التي نعيش معاً عليها، وقد ورد في العهد القديم: (خَلَقَ الرَّبُّ الإِنْسَانَ مِنَ الأَرْضِ) وأشار إلى ذلك أيضاً القرآن الكريم: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)، وهذا يعني أن الأرض مشتركة بيننا، وأننا شركاء في العيش عليها، وفي هذه الحال تخاطبنا التعاليم الدينية بالتعامل مع بعضنا البعض بالمحبّة والإحترام، كما جاء في الحديث : (أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره لغيرك ما تكره لنفسك) وكما ورد في الإنجيل: (كل ما تريدون أن يعاملكم الناس به، فعاملوهم أنتم به أيضاً: هذه خلاصة تعاليم الشريعة والأنبياء).
فحينما نريد أن يعاملنا الناس بالحسنى، فيجب أن نعاملهم بمثلها، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والدين هو المعاملة كما جاء في مضمون بعض النصوص الدينية.
ومع وحدة الأصل والمنشأ للإنسان لا يكون التفاضل بين أفراده على أساس العرق واللون والإنتماء الديني وغيره من الإنتماءات، فهي من الأمور اللاحقة للإنسانية، ولذا جاء في النصوص الدينية: (كلكم لآدم وآدم من تراب) و(الناس سواسية كأسنان المشط) و(الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) و(لا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) .
وليس في الشريعة الإسلامية وغيرها ما يمنع من قيام اتحاد إنساني على هذه الأسس والمبادئ التي تساوي بين الناس على اختلافهم في الجنس والعرق والدين والمذهب، قال الله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وفي سبيل نشر وترسيخ هذه المشتركات الإنسانية والدينية ندعو في مؤتمركم هذا إلى قيام اتحاد إنساني عالمي يقوم على تلك الأسس والمبادئ الجامعة بين بني الإنسان.
ومن الوسائل المهمّة والفعّالة ثقافيّاً، القيام بخطوات عملية تنزل قانون تجريم خطاب الكراهية بأسبابه ودوافعه وغاياته، إلى مجال التعليم والتربية وإدخاله في مناهج التعليم المدرسي والمعاهد الدينية ووسائل التواصل والإعلام.
وسعياً لتحقيق هذه الغاية الشريفة نطلب من مركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الديانات والثقافات أن يقوم بدعوة منظمة الأمم المتحدة، بإصدار كتاب بكل اللغات من خلال مجموعة من العلماء والمفكرين تنشر فيه التعاليم التي ترسّخ الأخوة الإنسانيّة بين كل شعوب العالم ويتم تعليمه لأجيالنا بشكل إلزامي في كل المدارس والجامعات لتحويل تلك المشتركات الإنسانية إلى ثقافة عالميّة.
ونقترح أيضاً على مركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الديانات والثقافات، لدوره الريادي في الحوار بين الشعوب أن يعمل، بالتعاون مع الدولة النمساوية والأمم المتحدة ودولة الفاتيكان، على إنشاء معهد دولي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات يتخرج منه الدعاة إلى الحوار والتعايش السلمي بين الشعوب.
وبما قدمناه تتحقق المساهمة بنشر ثقافة الإعتدال التي تجفف منابع الإرهاب والكراهية بين البشر، ونكون قد قدمنا عملياً الدواء لإزالة هذا الوباء الخطير والشرّ المستطير، وأبعدنا عن مجتمعاتنا وشعوبنا محاولات جماعات التطرف والإرهاب التي تقوم بها لتوظيف الدين وغيره في الأغراض التي تزرع الكراهية والفرقة بين الأمم والشعوب.
وفيما يلي خلاصة لما قدمناه من المقترحات في مناهضة خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي:
١-سن القوانين التي تعتبر خطاب الكراهية جرماً يعاقب على فعله القانون، ويشمل ذلك وسائل التواصل والإعلام التي تنشره وتروج له.
٢-الدعوة إلى إنشاء كتاب تعليمي بكل اللغات عن المشتركات الإنسانية والدينية يتم تدريسه إلزامياً في كل المدارس والمعاهد
٣-الدعوة إلى قيام اتحاد إنساني عالمي يضم أصوات الإعتدال من القادة والمفكرين ورجال الدين.
٤-الدعوة إلى قيام معهد للحوار العالمي بين أتباع الديانات والثقافات.
وفي الختام لا يسعنا إلا تقديم الشكر للقائمين على مركز الملك عبد الله لجهودهم في نشر ثقافة الحوار والتعايش السلمي بين البشر ونخص بالذكر سعادة الدكتور فيصل بن معمر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة سماحة العلاّمة السيد علي الأمين في المؤتمر الدولي لمركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في فيينا، النمسا في تاريخ 30-31 تشرين الأول / أكتوبر 2019، وذلك تحت عنوان “دور الدين والإعلام والسياسات في مناهضة خطاب الكراهية وتعزيز التعايش السلمي