وصل العلامة المجتهد السيد علي الأمين إلى لبنان عائدا من إمارة أبو ظبي بعد أن القى محاضرة بعنوان «أضواء على ولاية الفقيه.. من الماضي الفقهي إلى الحاضر السياسي» بحضور الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولى عهد أبوظبى نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في قصر سموه بمنطقة البطين في أبوظبي كما حضر المحاضرة سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية، الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان وزير الداخلية وسمو الشيخ حامد بن زايد آل نهيان رئيس ديوان ولي عهد ابوظبي وسمو الشيخ ذياب بن زايد آل نهيان رئيس هيئة مياه وكهرباء ابوظبي، وسمو الشيخ الدكتور سلطان بن خليفة آل نهيان والعميد الركن الدكتور الشيخ سعيد بن محمد آل نهيان نائب المفتش العام في وزارة الداخلية ومعالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التعليم العالي والبحث العلمي ومعالي الشيخ حمدان مبارك آل نهيان وزير الاشغال العامة وعدد من الشيوخ والوزراء ورجال الأعمال وسيدات المجتمع والمدعوين من ضيوف صاحب السمو رئيس الدولة العلماء والعاملين في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف ، وقدم لها الدكتور محمد بسام الزين عضو مجلس إدارة دار زايد للثقافة الإسلامية.
أضواء على ولاية الفقيه
من الماضي الفقهي الى الحاضر السياسي
استعرض الفقهاء في أبحاثهم الفقهية في أبواب المعاملات مسائل عديدة تتعلق بالعقود والايقاعات التي تجري بين الأشخاص بشكل ثنائي كالزواج والطلاق وعمليات التبادل التجاري كالبيع والشراء وغيرهما مما يحتاج الى أكثر من طرف لإجرائها وايقاعها.
وقد تعرض الفقهاء بالمناسبة الى مجموعة من الشروط التي لا بد منها في نفوذ التصرفات وترتيب الآثار المطلوبة منها والتزام أطراف العلاقة بها.
وأطلق الفقهاء على هذه المسائل اسم (أحكام المعاملات) ويطلق على قسم منها كمسائل الزواج والطلاق والإرث والوصايا ونحوها اسم المسائل الباحثة عن الأحوال الشخصية.
ولدى النظر في هذه الأمور المعتبرة في التأثير والنفوذ، جرى تصنيفها الى شروط تعود الى العقد والصيغة اللفظية الكاشفة عن القصد والإرادة، والى شروط تعود الى الشيء الذي يجري عليه التعاقد والاتفاق، والى شروط تعود الى أصحاب العقد وأطراف الاتفاق تندرج تحت عنوان أهلية الطرفين أو الأطراف لإجراء العقود والايقاعات وإبرامها. وقالوا بأن أهلية إبرام العقود وإجرائها تحصل بأمور عديدة منها البلوغ والعقل والرشد وهي أمور تكتمل بها شخصية الفرد الحقوقية وتبيح له التصرف بشكل مستقل عن غيره إذا وجدت فيه، ويصير بها مؤهلاً لترتيب الآثار على أقواله وأفعاله والتزاماته وتعهداته، ويكون الفرد في هذه الحال ولياً على نفسه ويمكن أن تسمى هذه الولاية على نفسه (ولاية استقلال).
وقد لاحظ الفقهاء وجود حالات لا تتوفر فيها الشروط المذكورة كلاً أو بعضاً، فيكون الفاقد لها فاقداً لأهلية التصرف النافذ وليس صالحاً لإبرام العقود والتعهدات عن نفسه، فهو بحاجة الى غيره ليقوم مقامه في هذه الموارد وهذا يسمى بـ”الولي”، وتسمى الصفة الممنوحة له والذي يقوم به بـ”الولاية”. ويقصدون بها قدرة الغير كالولي على الصغير أو اليتيم على إنشاء العقود والتصرفات عن المولى عليه وهي أشبه شيء بالوصاية وقد تسمى بالولاية الجبرية كولاية الأب والجد على الصغير.
وفي هذا الإطار تم البحث الفقهي عن ولاية الفقيه وعن ولاية عدول المؤمنين إذا فقد الأبوان.
ومن الواضح أن الولاية بهذا المعنى، ليس لها علاقة بعالم السياسة. فهي ولاية بمعنى تدبير الأحوال الشخصية للفرد الفاقد الأهلية وليست من الولاية السياسية بوجه من الوجوه وهي ليست شاملة لمن كان ولياً على نفسه ولاية استقلال. ولذلك جاء في كلمات الفقهاء أن الفقيه هو ولي الغائب والصغير الذي لا ولي له وغير ذلك من الكلمات التي تدل صراحة على أن الولاية التي بحثوا عنها، ليست ولاية على عموم الناس وفي مختلف الحالات، وإنما هي ولاية على تقدير ثبوتها، هي ولاية على الذين ليس لهم وليّ يتولى أمورهم عند فقدان شروط الأهلية المعتبرة في نفوذ تصرفاتهم ومعاملاتهم.
ومما يشهد أن هذه الولاية المبحوث عنها لم تكن بمعنى الولاية السياسية للفقيه، أن الكثير من الفقهاء الذين بحثوا عنها وأثبتوها، كانوا من الرافضين للمشاريع السياسية وفيهم القائلون بعدم جواز الخروج على الحاكم السياسي لاختصاص ذلك بالنبي (ص) والإمام المعصوم.
وقد بقي البحث عن ولاية الفقيه في هذا الإطار الفقهي المرتبط بالأحوال الشخصية للأفراد القريبة من معنى الوصاية كما ذكرنا سابقاً والتي يتصدى لها القضاة الشرعيون في محاكمهم المختصة وهي معزولة عن قضايا ومسائل الفقه السياسي بالكلية.
وقد كان علماء الأمة منتشرين في طول البلاد وعرضها في عهد النبي (ص) وعهد الخلفاء الراشدين وفي عصور الدولة الأموية والعباسية، وكانت الأمة ترجع اليهم في معرفة أحكام الشريعة باعتبار أنهم من أهل الاختصاص، وكانت ترجع الى الخلفاء والحكام على أساس أن لهم الولاية السياسية باعتبار قيامهم بنظم الأمر وإدارة الشؤون الدنيوية للعباد والبلاد، ولم يكن هناك بحوث حول ثبوت الولاية السياسية للفقهاء والعلماء. هذه هي سيرة المسلمين في مختلف الأعصار وشتى الأمصار، فإنهم كانوا يؤمنون عملياً بثبوت الولاية السياسية للحاكم السياسي سواء كان عالماً أو لم يكن ولم يؤمنوا بأن العالم يستحق ثبوت الولاية السياسية لمجرد كونه عالماً ولو لم يكن حاكماً وهكذا كان الأمر بالنسبة الى علماء الأمة الذين كانوا مراجع لها في معرفة الشؤون الدينية.
وقد قفزت مسألة ولاية الفقيه من علم الفقه الى عالم السياسة بعد وصول الإمام الخميني الى السلطة في إيران أواخر سبعينات القرن الماضي ورُفعت وقتذاك كشعار لإعطائه مزيداً من الصلاحيات الاستثنائية بوصفه الديني ومن أجل تبرير الوصول الى السلطة واستلامها باعتبار أن ما واكب استلامها من تصرفات أدت الى التصرف المؤدي الى إزهاق النفوس والأموال، يحتاج بحسب الذهنية الفقهية عند الشيعة الى إذن من النبي (ص) والإمام المعصوم، فكان لا بد من إعطائه الصفة الدينية التي تجعله في مقام المأذون بهذه التصرفات من الإمام المعصوم يستمد منه الولاية والإذن في مجريات الأحداث. وبذلك أصبحت ولاية الفقيه أمراً واقعاً لها دولة ونظام سياسي، مع أن البحث الفقهي عنها كما عرفنا كان بعيداً عن السياسة، هذا مضافاً الى أنها بالمعنى السياسي ما زالت على المستوى النظري محلاً للبحث بين كبار العلماء ومعظمهم من المنكرين والرافضين ثبوت ما كان للإمام المعصوم للمجتهد الفقيه كما عبّر عن ذلك العلاّمة المجتهد الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه فقه الإمام الصادق: (ونحن نعتقد أن المعصوم وحده هو الذي يجب اتباعه في جميع أقواله وأفعاله سواء أكانت من الموضوعات أم من غيرها. أما النائب والوكيل فلا، بداهة إن النائب غير المنوب عنه والوكيل غير الأصيل وليس من الضرورة أن يكون النائب في شيء نائباً في كل شيء، وأيضاً نعتقد أن من قال وادعى أن للمجتهد العادل كل ما للمعصوم هو واحد من اثنين لا ثالث لهما، إما ذاهل مغفل، وإما يجر النار الى قرصه ويزعم لنفسه ما خص الله به صفوة الصفوة من خلقه وهم النبي وأهل بيته (ع) وأعوذ بالله من هذه الدعوة وصاحبها). وكما ذكر أحد كبار العلماء المؤسسين الشيخ الأنصاري في كتاب المكاسب المعروف: (والانصاف) بعد ملاحظة سياقها أو صدرها وذيلها يقتضي الجزم بأنها ـ الروايات ـ في مقام بيان وظيفة العلماء والفقهاء من حيث الأحكام الشرعية، لا كونهم كالنبي (ص) والأئمة (ع) في كونهم أولى بالناس في أموالهم).
والمقصود من الروايات هي التي استدلوا بها على ثبوت الولاية العامة للفقهاء كرواية (العلماء ورثة الأنبياء) و(العلماء أمناء الله على حلاله وحرامه…) و(مجاري الأمور بيد العلماء الأمناء على حلاله وحرامه…) و(أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به) فإن هذه الروايات وأمثالها ناظرة الى مكانة العلماء العلمية والدينية وليست ناظرة الى مكانتهم في الولاية السياسية والسلطة على أنفس الناس وأموالهم.
وعلى كل حال، فإن ثبوت ولاية العلماء هي فرع ثبوتها للأنبياء مع أن دور الأنبياء الأولي كان دور الهداية والإرشاد والتعليم كما جاء في آيات عديدة منها قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) ومنها: (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..) ومنها (لست عليهم بمسيطر) و(لست عليكم بوكيل) ومنها (وما أنت عليهم بجبّار) ومنها (فإن أعرضوا فما أرسلناك حفيظاً) والحديث المشهور (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة مما يستفاد منها أن مشروع الأنبياء الأولي هو مشروع تبليغ وإنذار وهداية وإرشاد والدعوة الى مكارم الأخلاق، وأن السلطة السياسية كانت من الأمور الثانوية في حركتهم وأهدافهم حتى من الذين حملوا لقب الإمامة كأبي الأنبياء ابراهيم الذي كان إماماً بقوله تعالى (إني جاعلك للناس إماماً) فإنه لم يكن صاحب سلطة سياسية، فكيف تكون ولاية الفقيه تعبيراً عن مشروع سياسي أولي؟ فهل يثبت للفقيه ما لم يثبت للرسل والأنبياء؟ ولماذا لم يقم الأنبياء بهذا الدور السياسي في مختلف الدهور والأعصار ولم يمسكوا بالسلطة السياسية إلا نادراً على كثرتهم التي بلغت كما في بعض الروايات مئة وعشرين ألف نبي؟!
وإذا ثبتت الولاية للأنبياء وكانت شاملة للولاية السياسية بوصفهم حكاماً، فهي ليست ولاية إكراه وإجبار لقوله تعالى (لا إكراه في الدين) وقوله تعالى (أنلزمكموها وأنتم كارهون). وفي بعض النصوص المأثورة كما روي عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض): (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) وكما روي عن الإمام (ع): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً).
وإذا كانت ثابتة لهم بوصفهم رسلاً وأنبياء وأئمة، فإن عصمتهم من الذنوب، ونزاهتهم من العيوب، وابتعادهم عن الظلم، وإقامتهم للعدل، هي من أسباب ثبوت تلك الولاية، وعلى تقدير القول بثبوتها فلا تنتقل هذه الولاية لفاقدي العصمة من سواهم كالعلماء بل تنتفي هذه الولاية بانتفاء سببها وزوال موضوعها والسبب هو العصمة والموضوع لها هو النبي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ولا أقلّ من احتمال السببية والموضوعية وعند مجيء الاحتمال يبطل الاستدلال كما يقول العلماء. وقد يقول قائل بأن الأئمة هم الذين منحوا هذه الولاية للفقهاء من خلال بعض الروايات الواردة عنهم كما في مقبولة عمر بن حنظلة: (انظروا إلى رجل منكم عرف حلالنا وحرامنا ونظر في أحكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته حاكماً..).
.. ولكن يقال بأن هذه الرواية وأمثالها واردة في الخصومات القضائية وليست في مقام إعطاء الحاكمية السياسية التي لم تكن موجودة في أيدي الأئمة عليهم السلام، فكيف يمنحون تلك الولاية السياسية غير الموجودة بين أيديهم لغيرهم من العلماء؟! وفي أي أرض وعلى أي شعب يمارس العلماء دور الحاكمية السياسية في ذلك الزمان؟! ولماذا لم يقم الأئمة أنفسهم بذلك الدور السياسي؟! وهل تخلى الأئمة عن هذه الحاكمية السياسية للعلماء في تلك الفترة لعدم قدرتهم عليها؟! وهل كان الرواة لأحاديثهم من العلماء أكثر قدرة من الأئمة على القيام بتلك المهمة؟
ولهذه التساؤلات المشروعة نقول: بأن هذه المقبولة، وغيرها من الروايات المشتملة على جعل الحاكمية للعلماء، ليست ناظرة إلى الحاكمية السياسية للمجتهد الفقيه في ذلك الزمان، وبهذا الاعتبار لا تكون صالحة لتوليد دلالة جديدة على الحاكمية السياسية في الأزمنة الأخرى الآتية، لأن النظرة الواحدة المستفادة من الروايات، لا تقبل التجزئة. فإذا لم تكن صالحة للنظر لتلك الجهة في زمان الصدور فكيف تكون صالحة للدلالة على معنى آخر في زمن الوصول؟!
والذي نراه أن تحميل النصوص الدينية والروايات، المعنى السياسي للولاية والحاكمية يقع في خانة تبرير الوصول إلى السلطة السياسية والإمساك بها بإعطائها بعد الايديولوجية الدينية كما هو معروف وملاحظ من خلال تجارب الحكم والسلطة لأصحاب الأنظمة السياسية وأحزابهم التي تعتمد الايديولوجيات الدينية أو الفلسفية، فإنهم يبحثون دائماً عن نظريات لدعم السلطة وتبريرها كما حصل في الاتحاد السوفياتي سابقاً والأحزاب الشيوعية حيث كان يتم استخدام نظريات فلسفية كنظرية المادية التاريخية ونظرية المادية الديالكتيكية لدعم السلطة والنظام باعتبار أنها حتمية تاريخية خاضعة للقوانين الفلسفية التي لا تقبل الجدل والنقاش. وقد جرى نفس هذا الأمر بالنسبة إلى ولاية الفقيه حيث حوّلها البعض إلى نظرية دينية لدعم الحكم والسلطة لإسباغ الشرعية الإلهية على النظام وفي كلتا الحالتين يحاول أصحاب ايديولوجيات الفلسفة المادية والدينية أن يوحوا للناس بأن السلطة ليست شأناً بشرياً مرتبطاً بآرائهم وأفكارهم واختياراتهم وتجاربهم وليست نابعة من حاجتهم إليها، وإنما هي شأن ينزل عليهم من الأعلى وليس عليهم إلا الرضا والتسليم بهذا الواقع.
ومن خلال البحث المتقدم، قد تبيّن لنا أن ولاية الفقيه قد وسّعوا دائرتها وانتقلوا بها من الولاية الثابتة على الصغير إلى ثبوتها على الكبير، ومن ثبوتها على الغائب إلى الولاية على الحاضر، ومن الأحوال الشخصية إلى كل الأحوال بما فيها النفوس والأموال وتحوّلت إلى صيغة لقيادة فردية في حكم رجال الدين يكون فيها الفقيه الفرد هو الحاكم والمرجع لكل النظام ومؤسساته، مع أن الولاية في الأصل إن ثبتت بالمعنى السياسي وغيره، فهي ثابتة لعموم الفقهاء في كل البلاد والأوطان ومن مختلف القوميات والأعراق. هذا مضافاً إلى عدم الدليل على انحصار الولاية السياسية بصنف واحد من الناس وهم الفقهاء لعدم انحصار نظم الأمر بهم كما ورد في قول الإمام علي (وإنه لا بدّ للناس من أمير..) فإنّ القيام بمسؤولية الحكم بين الناس وتدبير أمورهم ليس أمراً منزّلاً من السماء وقد مارسته المجتمعات البشرية في كل تاريخها مستفيدة من التجارب الكثيرة وصولاً إلى عهد الدولة التي تحكمها الأنظمة والمؤسسات القانونية والدستورية التي يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات، وليست مسألة الحكم للناس وإدارة شؤونهم العامة في البلاد منحصرة بالفقيه العالم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فإن اختصاصه في هذا الحقل من حقول المعرفة الدينية، لن يجعله صاحب الحق الحصري في مسألة الحكم والإدارة السياسية للبلاد والعباد، وهذا ينبغي أن يكون من الواضحات كما لا يخفى.
وعلى كل حال، إذا تمّ اختيار ولاية الفقيه، مع غضّ النظر عن تلك الإشكاليات التي ذكرناها وغيرها، صيغة للحكم والنظام السياسي في بلد من البلدان، فهي تثبت له حينئذٍ بوصفه حاكماً ووالياً وليس بصفته الدينية كفقيه من الفقهاء وإلا لثبتت لكل الفقهاء غيره وذلك مدعاة للتناقض والإخلال بالنظام.
وإذا ثبتت له الولاية بما هو حاكم سياسي لبلد من البلدان، فلا تكون ولايته عابرة للحدود والأوطان والشعوب والقارات، وليس له من ولاية على غير شعبه، ولا ولاية له خارج حدود بلده، لأن الولاية السياسية على تقدير القول بها للفقيه، فهي تثبت له في أماكن بسط يده كما هو وارد في التعبير الفقهي وهذا يعني اقتصارها على الحدود الجغرافية لبلد الفقيه الذي أصبح حاكماً ووالياً فتكون ولاية خاصة بموطن اختيارها أو القبول بها كسلطة للأمر الواقع، ولا يصح الارتباط بها سياسياً من خارج حدودها لأن روابط الأديان لا يجوز أن تكون على حساب الأوطان. وقد جاء في بعض النصوص الدينية (حب الأوطان من الإيمان) و(إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل فانظر حنينه إلى وطنه).
فالروابط الدينية بين شعبين أو بين الشعوب تعني اشتداد أواصر القربى والتمسك بعرى المحبة والاخوة في ما بينها ولا يعني الارتباط بالنظام السياسي وقيادته، فلكل شعب نظامه الذي اختاره ولكل شعب قيادته الخاصة والتي لها الولاية وحدها على شعبها وليس لها من سلطة على شعب آخر لمجرد وجود الروابط الدينية والمذهبية. وامتداد ولايتها على غير شعبها يعتبر إخلالاً بالنظام الذي قامت عليه العلاقات بين الأمم والشعوب ويكون ذلك شكلاً من أشكال التدخل الممنوع في شؤون الدول والأنظمة الأخرى، وهو ما يسمّى بتصدير الثورة الذي يتنافى مع اختيارات الشعوب وإراداتها وطرق عيشها التي رضيت بها وأنظمتها السياسية التي قبلتها وأولياء أمورها في بلادها كما يشير إلى هذا المعنى قول الإمام علي (ع) لمَن جاء يطالبه بتولي الخلافة بعد مقتل الخليفة عثمان (رض): (دعوني والتمسوا غيري.. وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمَن وليّتموه أمركم..) فإنّ هذا الكلام يدلنا على إمضاء الطريقة التي يختار بها الناس وليّاً لأمورهم والالتزام به. ولم يقل لهم تتعيّن عليكم بيعتي وتجب عليكم طاعتي بوصفي إماماً أو عالماً!!.
فإذا اختار شعب ما والياً عليه، فليس لهذا الوالي من ولاية على شعب آخر لم تكن له علاقة بعملية الاختيار لأنه يصبح بعملية الاختيار هذه أو بسلطة الأمر الواقع وليّاً على شعبه فقط وليس وليّاً على كل الشعوب والمجتمعات.
وبعبارة أخرى فإنّ المواطن يجب أن يكون ولاؤه لوطنه، وقيادته السياسية هي صاحبة الولاية عليه فلا يمكن أن تثبت عليه ولاية أخرى من خارج الحدود ولا يمكن أن تكون له علاقة كفرد أو جماعة أو طائفة مع دولة أخرى إلا من خلال دولته التي ينتسب إليها ويخضع لأحكامها وقوانينها لأن ولاية الفقيه لم تعد مرجعية روحية في معرفة الشؤون الدينية على غرار مرجعية الفاتيكان في العالم المسيحي أو على غرار مرجعية الأزهر الشريف الدينية وغيره من المرجعيات الدينية في العالم الإسلامي وإنما أصبحت ولاية الفقيه نظاماً سياسياً له حدوده الخاصة به، والعلاقات تقوم بين الأنظمة والدول ومن خلالها وليس من خلال علاقة بين دولة ونظام مع حزب أو جماعة من دول أخرى.
ولذلك يعتبر الارتباك بالمشروع السياسي لولاية الفقيه القادم من خارج الحدود يتنافى مع الخصوصية الوطنية وضرورة الولاء للوطن وقوانين الدولة التي ينتسب إليها المواطن ويجب عليه الوفاء لها والالتزام بها بمقتضى العقد الوطني والاجتماعي.
وقد يحاول البعض من العلماء وغيرهم أن ينكر ولاية الفقيه اجتهاداً أو تقليداً ويقول أنا لست مع ولاية الفقيه فقهياً ولكنه من الناحية العملية هو مع المشروع السياسي لولاية الفقيه خارج حدودها!!. وفي هذا تناقض واضح لأن رفض ولاية الفقيه نظرياً يستدعي رفض مشروعها السياسي الذي يتجاوز حدودها الجغرافية.
وعلى كل حال، فإننا نرى أن ولاية الفقيه قد تم تجاوز حدودها عندما تحوّلت إلى صيغة سياسية تحصر الحكم بالفقيه، وهي صيغة مذهبية طائفية غير خاضعة لرضا العموم خصوصاً في المجتمعات التعددية حيث يجب أن تكون صيغة الحكم وطنية بعيدة عن الرؤية الفردية أو المذهبية بل يمكن القول بأنها ليست رأياً لمذهب أو طائفة لعدم تبني الطائفة لها عملياً في تاريخها وفي أوطانها وليست من أصول المذهب الشيعي في المعتقدات والفروع التي يجب الإيمان بها والعمل وفقها، والرافضون لها من علماء المذهب هم أكثر بكثير من القائلين بها.
وبما أن باب الاجتهاد مفتوح عند علماء المذهب الشيعي، فتكون ولاية الفقيه بهذا الاعتبار تعبيراً عن رأي لفرد أو مجموعة لا يُلزم الطائفة والمذهب به ومن الطبيعي أن ينسب الرأي إلى صاحب القول به ولا ينسب إلى طائفته ومذهبه.
ويبقى المجال واسعاً للنقاش على المستوى النظري والفقهي في مسألة ولاية الفقيه التي ما زالت محلاً للنقض والإبرام ومعركة للآراء بعيداً عن سلطة الأمر الواقع كما ذكرنا ذلك في كتاب (ولاية الدولة ودولة الفقيه). وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.