مام نزاعات خطرة بالمنطقة تنادي بثورة السنّة، يتساءل المرء: متى يحين وقت اقتناع حزب الله بالقيام باختراقٍ داخليّ، لكسر السدّ المذهبي الذي يحول دون أيّ تلاقٍ، فهو حجر الرحى الذي لا تستقيم معادلة الاستقرار بدونه… وفي ذكرى عاشوراء العظيمة التي تجمع المسلمين، حملت "البيان" أسئلةً عن ما يجمع بين السنّة والشيعة لبنانيّاً، ما هو مستقبل الشيعة في ظلّ شعور الحقد المتنامي لدى الطوائف الأخرى، وماذا على المسلمين أن يستخلصوا من فاجعة كربلاء العظيمة…؟
أسئلة وجهتها "البيان" إلى العالم المجتهد الفقيه السيّد علي الأمين، وعادت بهذه المقابلة، وفيما يلي نصّها:
سنبدأ من محاولات تهديدكم الأخيرة، هل تعتقدون أنّها أعمال فرديّة أم تقف خلفها جهات حزبيّة معيّنة، تريد اغتيال مساعيكم الدائمة للتقريب بين المذاهب؟ ومن هي هذه الجهات الحزبيّة إن صحّ الأمر؟
التهديد والوعيد موجودان منذ سنوات بعد إبعادنا بقوّة السلاح غير الشرعيّ من الجنوب بأحداث 7 أيّار 2008 وقبلها لمخالفتنا بالرأي للواجهة السياسيّة المسيطرة على الطائفة الشيعيّة. وهذا التهديد الذي نُشر أخيراً ببعض وسائل التواصل الإجتماعيّ، وإن كان عملاً فرديّاً كما يبدو، ولكنّه من خلال صمت تلك القيادات، التي لم تسمح لنا بالعودة حتّى اليوم، يعكس وجهة نظرها الراضية عن هذه الثقافة العدائيّة، لأن ضبط الساحة التي يسيطرون عليها هو مسؤوليّة تلك الأحزاب وقياداتها. وكيف تسكت المؤسّسة الدينيّة والأحزاب المسيطرة على تلك المناطق عن هذه الإساءات للرموز الدينيّة، والتي تزرع بذور الفتنة والشقاق بين أبناء الأمّة الواحدة والوطن الواحد؟.
تقولون دائماً إنّ المضرّة تأتي من جور النظام، ألا ترون أنّ نظامنا ولأسبابٍ متعدّدة ظلم مذاهب على حساب مذاهب أخرى؟
هذه المقولة قلناها بالماضي لبيان أنّ الهويّة الدينيّة للحاكم ليس لها علاقة بإقامة العدل، فمن الممكن أن يكون الحاكم مسيحيّاً ويكون عادلاً، وكذلك هي الحال بالنسبة للنظام السياسيّ، فليس بالضرورة أن يكون دينيّاً حتّى يكون عادلاً بحكمه، فمن الممكن أن يكون مدنيّاً ويحقّق العدالة لمواطنيه.
ومشكلتنا بلبنان على صعيد النظام ليست قائمة بالدستور والقانون، بل بعدم الإنتظام من قبل المشاركين فيه لأنّهم جعلوا منه نظام محاصصة بين الطوائف والمذاهب واختزلوا طوائفهم ومذاهبهم بأشخاصهم وأحزابهم، وابتعدوا عن منطق المواطنيّة والكفاءة المنصوص عليهما قانوناً. واستقوى بعضهم على البعض الآخر بعوامل خارجة عن القانون، فأصبح هذا البعض يريد الحصّة الأكبر على صعيد الطائفة والوطن، فظهر بذلك وكأنّ هناك غلبة لمذهبٍ على آخر وطائفةٍ على أخرى مع أنّ الحقيقة ليست كذلك، فالغلبة هي للزعيم وحزبه وليس لطائفته المظلومة كسائر الطوائف الأخرى.
هل هناك ما يبرّر بعض الميول لدى الشباب السنّيّ للالتحاق بالجماعات المتشدّدة، نتيجة شعورهم بالدونيّة مقابل وهج السلاح الشيعيّ؟
منطق الإستقواء من فريق بالسلطة على آخر دليل ضعف الدولة عن قيامها بدور نظم الأمر، والعدل بالرعية شرطٌ أساس لعدم ظهور مشاعر الغبن، وهذا الإستقواء مع ضعف الدولة ولّد عوامل الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، وتزداد هذه العوامل قوّة كلما ازدادت الدولة ضعفاً، وخصوصاً مع غياب وسائل التربية الوطنيّة الجامعة بظلّ الأحداث الجارية بالمنطقة التي تأخذ طابع المذهبيّة، والتي تغذّيها الوسائل الإعلاميّة والعابرة للحدود. ما يجعل من عقول شبابنا ونفوسهم ساحةً مفتوحة لثقافات مستوردة قد يتأثّر بعضهم بها مع اختلاطٍ بين شعارات الدين والدنيا، فيسعى هذا البعض للتغلّب على مشاعر الضعف لديه بالإنتماء للتشدّد الموجود بالمنطقة، اعتقاداً منه بأنّ ذلك يخرجه من دائرة الإستضعاف، وينبغي أن تعيد الدولة له الشعور بالإطمئنان إليها بعيداً من العنف.
بالمقابل أليس من حقّ الشيعة أن يتمسّكوا بسلاح حزب الله ويناصروه لأنّه حامي مناطقهم، في مقابل دولةٍ تساوم الإرهابيين وتهرّبهم؟
الدولة التي يتهمونها بمساومة الإرهاب موجودة على الأرض، وهم موجودون فيها ومن أركانها، والتقصير هم المسؤولون عنه.
والشيعة كسائر الطوائف اللبنانيّة لا يريدون غير الدولة حامياً لكلّ لبنان، وليس من حقّ الشيعة أو غيرهم البحث عن الأمان خارج الدولة، وسلاح حزب الله ليس لحماية الطوائف وإنّما لمشاريعهم الحزبيّة وارتباطاتهم الخارجيّة، وينبغي انخراط سلاح حزب الله وغيره بمشروع الدولة الواحدة التي تكون مرجعية وحيدة بالأمن والدفاع على كلّ الأراضي اللبنانيّة. فأيّ سلاح يبقى خارج سلطة الدولة سيستدرج سلاحاً آخر، وهذا يؤدّي للحروب الداخليّة وتفكيك الدولة.
كيف نظرتم لنتائج العمليّة العسكريّة بطرابلس والتي تحمّل أهوالها الفقراء من أهل التبّانة والأسواق دون سواهم؟
تألّمنا ككلّ اللبنانيّين لأحداث طرابلس الأخيرة وما حصل لأهلها الكرام، فطرابلس وأهلها جزءٌ عزيزٌ من لبنان، ونسأل الله أن تكون الحوادث الأخيرة خاتمة الأحزان، والناس من الفقراء وغيرهم ليسوا مسؤولين عن الظواهر المسلحة والخارجة على القانون ولا يتحمّلون أوزارها، والمطلوب من الدولة بمعالجتها لهذه الظواهر توخّي الحذر عن إلحاق الضرر بهم، وأن يكون العلاج شاملاً من خلال بسط سلطة الدولة والقانون بكلّ المناطق اللبنانيّة بلا استثناء، وبذلك تشكّل الأساس القويّ لعدم ولادة هذه الظواهر بطرابلس وغيرها.
تشدّدون أنّ الخلاص للبنان هو ببناء الدولة العادلة القوّيّة، كيف ذاك ونوّاب الأمّة سيمدّدون لأنفسهم للمرّة الثانية؟
الدولة العادلة مطلب الجميع، ونحتاج للوصول إليها إلى الأدوات الصالحة لتحقيق العدالة، وهذا يتوقف على حسن اختيار الشعب لقيادة البلاد، وأن لا يعيد أبناؤه التجربة مع الذين لم يحقّقوا لهم أهدافهم. والرافضون للإنتخابات شعروا بأنّ الشعب لن يختار الكثير من الطبقة الحاكمة، فقطعوا الطريق عليه لاختيار ممثّلين جدد، وتوافقوا على التمديد تحت شعارات الضرورة والخوف من الفراغ، وهم الذين أدخلوا البلاد بالفراغ بتخلّيهم عمداً للمرّة الثانية عن ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية بالموعد الدستوريّ، وهو ضرورة الضرورات الدستوريّة والوطنيّة، كرأس البلاد ورمز السلطات كلّها! وهم يستمرّون بتعطيل الدستور دون حساب من سلطات قضائيّة كما هو موجود بكلّ دول العالم، والأمل بالشعب اللبنانيّ بمواصلة السعي لتحقيق قيام دولة العدالة والمؤسسات والقانون.
هل الصراع الطائفيّ هدفه "صهينة" الإسلام تمهيداً لتهجير المسيحيين من المنطقة، وإعطاء المبرّرات لإسرائيل لإقامة دولتها العنصريّة، أم أنّكم لا تؤمنون بنظريّة المؤامرة التي تعلّق كلّ الإخفاقات على شمّاعة إسرائيل؟
الصراع بالمنطقة والذي يتّخذ بظاهره الصبغة المذهبيّة، هو بالحقيقة صراع على السلطة والنفوذ بين الأطراف المتقاتلة، والشعارات الطائفيّة هي من أدوات التعبئة والتحشيد التي يستخدمها كلّ فريق لتكثير أنصاره. ما أضعف الجميع وترك آثاراً سلبيّة تمتدّ لعشرات السنين، وتشغل الأطراف بعضها بالبعض الآخر وتمنعهم من بناء دولهم على أساسٍ من الوحدة الوطنيّة والقوّة بالشكل الذي يهدّد الكيان الإسرائيليّ، ويقدّمون للعالم الصورة المشوّهة عن أمّتهم، ويمنعون على أنفسهم التقدّم والإقتدار لأنّهم جعلوا بأسهم بينهم. ما يبعد الخطر عن إسرائيل التي لن تحسب لهم حساباً بسبب ما يقومون به من نزاعات تولّد الإنقسامات بمجتمعاتهم، وسواء كانت هناك مؤامرة أو لم تكن فقد فعلوا بأنفسهم وبلادهم ما لم يستطع أن يفعله بهم الكيان الإسرائيليّ منذ تأسيسه.
بذكرى عاشوراء العظيمة، كيف تستذكرون معنا تضحيات الإمام الحسين لكلّ المسلمين؟ وكيف يمكن أن تكون هذه الذكرى فرصةً لغسيل القلوب؟
عاشوراء بتاريخنا الإسلاميّ محطّة أليمة فاقت بفصولها المأساويّة ومضمونها الإجرامي كلّ التوقّعات، وقد ظهرت فيها الجرأة البالغة على سفك الدماء التي حرّم الله سفكها بنصّ القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، ووصلت تلك الجرأة على المحارم إلى رموز دينيّة كبرى لها مكانتها وقدسيّتها بنفوس المؤمنين جميعاً الذين آمنوا بالله ورسوله، فأصابت الإمام الحسين ابن بنت رسول الله وأهل بيته وأصحابه، والمسلمون يومئذٍ، وصلهم سماعاً وروايةً قول رسول الله عليه الصلاة والسلام (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة).
واستذكار واقعة كربلاء ينبغي أن يكون مناسبة للمسلمين جميعاً نستحضر فيها سيرة الإمام الحسين ومكانته بالدين، وأن تحدث فينا ردّة فعل على الظلم والعدوان وعلى الفرقة والإنقسام، فلا نظلم بعضنا ولا غيرنا ونقف إلى جانب المظلوم بوجه الظالم.
وقد كان شعار الإمام الحسين الإصلاح بأمّة جدّه، وأيّ إصلاحٍ أعظم من السعي لجمع كلمة الأمّة وإبعادها عن الفرقة والفتنة! والحسين مدرسة نتعلّم منها الدروس بالصبر والتضحية والفداء، ورفض القهر والطغيان، فهو المثال لكلمة الحقّ بوجه الفساد بالبلاد والاضطهاد للعباد، وشاهد صارخ على تعسّف الحكّام الطّغاة الّذين يواجهون كلمة الإصلاح بالسيوف وقطع الرؤوس، وبهذه المعاني للذكرى نعطيها ما تستحق ونجعلها مناسبة جامعة للكلمة على طريق الإلفة والوحدة.