الثلاثاء , ديسمبر 10 2024
الشيخ عبد الله بن بيه

الكلمة التأطيرية لمعالي الشيخ عبد الله بن بيه: المواطنة الشاملة من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك

الكلمة التأطيرية لمعالي الشيخ عبد الله بن بيه:

المواطنة الشاملة من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين:

 أصحاب المعالي، أصحاب السعادة،

أصحاب السماحة، أصحاب الغبطة والنيافة،

أصحاب الفضيلة،

أيها الحضور الكريم، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

يطيب لي أن أرحّب بكم، كما عودتمونا وعوّدناكم، في عاصمة الإنسانية، وفضاء التسامح، في أبوظبيّ، منطلق دروب السلام وملتقى محبي الخير والوئام.

يلتئم ملتقانا الثامن، والبشرية تَرقُب بأمل نهاية هذه الجائحة، تستبشر بما منّ الله به من تباشير العافية، وتتوجسُّ خيفة من أن تكرّ مرة أخرى، لما ظهر من بوادر في بعض مناطق العالم.

يلتئم ونحنُ نجدّد الرّجاء ونردّد الدعوة والدعاء أن تكون هذه الأزمة مناسبة لانطلاقة جديدة، وفرصة لميلاد إنسان جديد، برؤية جديدة للعالم، على أساس قيم الفضيلة، يعيد بناء ذاته وعلاقاته بجنسه وبالأمم الأخرى من المخلوقات بجنبه.

يأتي هذا الملتقى ليجدّد العهد ويؤكد الصلة، وليستأنف ما درجنا عليه من الحوار الوجداني، حوار التعارف واكتشاف الآخر وتنمية المشتركات، من خلال اللقاء والتشارك، واقتسام الأوقات والذكريات، فضلا عن المحاضرات والورشات.

نجتمع هذه المرّة لنستثير الفكر معا ونمعن النظر سويا في مفهوم أساسي من مفاهيم السلم، مفهوم له أغواره الفلسفية العميقة وآفاقه الواقعية الراهنة، مفهوم المواطنة الشاملة.

إن اهتمامنا في منتدى تعزيز السلم بالمواطنة ليس وليد الساعة بل يعود إلى سنوات عندما شرعنا في مشروع من عدة حلقات تفكيرية ارتكزت على تأصيل مبدأ المواطنة الحاضنة للتنوع بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم.

ووعيا بأنّ الواقع الجديد قد ارتقى بالمواطنة إلى مرتبة كلي الزمان، انخرطنا مع تحالف من المنظمات الدولية الكبرى بتنسيق من وكالة “ويلتون بارك” التابعة لوزارة الخارجية والكومونولث البريطانية، و”مؤسسة أديان” اللبنانية، في مسار من اللقاءات التفكيرية التي أتاحت الفرصة لنقاشات مفيدة وثريّة، أسهمت في تعميق الحفر في المفهوم، وتشخيص سبل وتحديات تحقيقه في العالم.

وقد أكّدت أعمال هذه الورشات الحاجة إلى مزيد من البحث المنهجي بغرض التوصل إلى صيغة نموذجية تقدم مفاهيم جديدة للمواطنة الشاملة، مستمدة من النصوص الدينية ومراعية للسياق الحضاري المعاصر المتمثل في الدساتير الوطنية والمواثيق الدّولية.

وتتويجا لهذا المسار، يتوخّى ملتقانا هذه السنة إصدار “إعلان أبو ظبي للمواطنة الشاملة”، إعلانا مؤسسا على وثائق التسامح الكبرى، مثل إعلان مراكش لحقوق الأقليات، وإعلانات أبوظبي للسلم، ووثيقة الأخوة الإنسانية، ووثيقة مكة المكرمة، ووثيقة حلف الفضول الجديد.

 

المواطنة بين القديم والحديث:

أيها الحضور الكريم،

إن المواطنة لم تكن على مرّ الأعصار واختلاف الأقطار، على وزان واحد، في حقيقتها أو مقوّماتها، بل الأصوب أن نتحدث عن مواطَنات، تتّسع وتَضيقُ، بحسب السّياقات.

فأصل المواطنة في الاشتقاق العربي مفاعلة من الوطن، تدل على التشارك بين اثنين فأكثر في وطن، وهو مصدر لم يسمع فعله بهذا فلا يقال واطنه ويواطنه إلا بمعنى الموافقة. ومقابلها اللاتيني مشتقٌّ من المدينة، CITY، بوصفها المُنْتَظَم السياسيّ للوجود الإنساني في المجتمع. ومن ثَمّ فهي نسبة إضافية أو صلاحية قانونية في علاقة الشّخص بوطنه وبالآخرين المشتركين معه فيه.

وتقابل المواطنة من جهة مضمونها الحقوقي لدى اليونان وفي العرف السياسي المعاصر مفهوم “الرعيّة”، ولذلك فهي في أصلها تحمل بعدا فصليا يميز بين المستأهل لحقوقها وغير المستأهل، وقد احتفظت في الواقع الجديد بهذا البعد التمييزي في مقابل الوافد النّاشد للضيافة الإبراهيمية.

ولقد كانت المواطنة في المفهوم التاريخي تقوم على العرق أو الدّين أو الذاكرة المشتركة أو على عنصر نقاء النسب، الذي يؤدي إلى تقسيم المواطنين إلى درجات كمـا كان عند الرومـان أو العرب في عصر الجاهلية.

هذا التصوّر القديم للمواطنة هو الغالب على المجتمعات البشرية تاريخيا، ولكنّه لم يكن الوحيد، إذ قد شهدت بعض البيئات ذات الطبيعة التعددية، تطوّر صيغة مختلفة للمواطنة، تنحو منحى تعاقديا، لا يرتكز على الانتماء المشترك للعرق، ولا على الذاكرة التاريخية الموحدة، أو الدين الواحد، وإنما على عقد مواضعة واتفاق طوعي يؤطّر الوجود المشترك في شكل دستور وقوانين ونظم تحدّد واجبات وحقوق أفراد الجماعة.

وقد فَشا هذا التصوّر الدستوري التعاقدي للمواطنة في العصور الحديثة في سياق ما شهدته البشرية من التمازج والتواصل وغلبة سمة التنوع في كلّ أقطار المعمورة؛ فصارت المواطنة بمثابة جمعية تعاونية ينتمي لها بصفة طوعية أفرادها، على نحو تعاقدي، فالذي ينضم اليوم إليها له نفس الحقوق التي كانت لأقدم عضو، فلا فرق بين الأول والأخير والأصيل والدخيل.

وبالجملة فإن المواطنة رباط أو رابطة اختيارية معقودة في أفق وطني يحكمه الدستور. والمواطنة تتسامى على الفئوية والقبلية، لكنها لا تلغيها بالضرورة، وإنما المطلوب أن تتواءم معها وتتعايش معها تعايشاً سعيداً.

المواطنة الشاملة في أفق المواطنة العالمية:

إن المواطنة مفهوم موسوم بالتوسّع بتوسّع دوائر المعيارية المتضمنة فيه، وبارتفاع سقف الطموحات في الحقوق والواجبات، ولكلّ وضع تاريخي دوائر من المقبولية والمطلبية تتسع أو تضيق.

فبعد أن كانت المواطنة مفهوما سياسيا قائما على الحقوق الأساسية، في إطار دولة القانون أو دولة الحريات، ثم اكتست لاحقا طابعا اقتصاديا واجتماعيا في ظل دولة الرَّفاه، ثم نشأت مواطنة من نوع جديد ترتكز على البعد الثقافي المطالب بالاعتراف بالحقوق الثقافية.

وقد صار أهل عصر العولمة يتحدثون عن المواطنة العالمية أو الكونية، لما حصل لديهم من الوَعْي العميق بدرجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة، وما استجدّ لديهم من أسباب التمازج الحضاري والعيش المتصل، وما شهدوه من واقع التنوع الثقافي والعرقي والديني المتحقّق في كل أقطار العالم.

والمواطنة الكونية هي الشعور الواعي بحقيقة الانتماء للبشرية كعائلة كبرى وللأرض كوطن أشمل، فهي في أساسها الواقعي أمر يفرض نفسه على الجميع، وإنما المطلوب التحقّق بها من خلال تحصيل الوعي وما ينبثق عنه من تجسيد روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون.

إن التّضامن هو الالتزام بما فيه خير الآخرين، فهو مرتبة عليا تسمو على مجرّد الاعتراف إلى التعارف، وبه يتم تجاوز ضيق الذّوات إلى فُسحة المشترك، وينتقل من الهويات الحرجة إلى الوحدة الواسعة، وحدة مجتمع الإنسانية الكبرى.

كلُّ ذلك لا يتأتَّى إلا من خلال الارتقاء بالتضامن وإعادة ربطه بمضامينه القيمية، قيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان، وهي قيم تسمو فوق الحقوق، بل هي التي تسند الحقوق وتضمن لها الفاعلية والنجاعة، وهي الأرضية المشتركة المتينة التي تقوم عليها.

بروح ركاب السفينة ننشد عالما تكون فيه ثمرات العقول مبذولة لفائدة الجميع فلا يستأثر بها القوي أو يحتكرها الغني، عالما تتنافس فيه الأمم في الخير، وتستبق فيه الدول في تقديم الضيافة الإبراهيمية، ضيافة تستند إلى الكرامة الإنسانية، التي تجعلك ترى الغريب قريبا، تراه أخا وصديقا، تقابله بحسن الظن، تؤويه إلى بيتك وتبذل له البر والإحسان، من غير سابق معرفة بينكما.

المواطنة الرقمية:

في سياق المجتمعات المعاصرة حيث صارت التقنيات الرقمية الحديثة جزءا لا يتجزأ من هوياتنا، لما أتاحته من سبل الولوج إلى المعلومة، وما أعادت صياغته من أنماط العيش وصور العلائق في المجتمعات البشرية، اتسعت دائرة المواطنة لتشمل هذا البعد الرقمي، بوصفه حقوقا أو وسائل لنيل الحقوق.

فالوصول الميسّر إلى المعلومة والتواصل المباشر بين البشر، كل ذلك أصبح في كثير من البيئات عنصرا معززا للشعور بالانتماء إلى الوطن، والمشاركة الإيجابية والمسئولة في الحياة، ومكافحة كل أشكال التمييز والإقصاء وحماية كرامة الإنسان.

بيد أن نفس التقنيات التي يمكن أن تعزّز الانتماء الوطني يمكن أن تسلب الإنسان ذاته، وتنتزعه من شؤونه وشجونه المحلية، لترمي به في أتون الهموم المصطنعة والوجود المستعار، هنالك تتضخّم دوائر اهتمامه بعيدا عن دوائر حياته ومجالات تأثيره، وهنالك يضطرب انتماؤه الوطني وتختله مرجعيّته الفكرية.

فبقدْر ما فتحت التقنيات من الفرص للمواطنة الرَّقْميّة بقدر ما أثارت من التحدّيات في وجهها، ومن ثَمَّ اقتضت الحالُ أن تعنى الدَّول والمنظمات الدولية بسنّ القوانين الناظمة لهذه لمواطنة الجديدة، لتعظيم منافعها ودرأ مفاسدها، فأصدرت الإمارات في هذا السياق ميثاقا لقيم وسلوكيات المواطنة الرقمية الإيجابية.

 

مقومات المواطنة: حقوق مكفولة وواجبات محدّدة

إن أهم مقوم من مقومات المواطنة مبدأ الواجبات المتبادلة والحقوق المتساوية، مما يقتضي الإيجابية في العلاقة، والبُعد عن الاختلاف، والشعور بالشراكة في المصالح. فدولة المواطنة هي الحامية للكليات الخمس، كلي الدين، وكلي الحياة، وكلي الملكية وكلي العائلة وكلي الكرامة، من جهتي الوجود والعدم، والضامنة لها لجميع المواطنين، لا ميز بينهم بالطبقة أو العرق أو الدين.

في دولة المواطنة، حيث يصير الاختلاف ائتلافا والتنوع تعاونا وتشكل العلاقة مع الآخر فرصة لاستكشاف فضاءات الالتقاء وتوسيع قنوات التواصل، لا مجال لأي تشغيب على الآخرين بلمس رموزهم والتنقيص من معتقداتهم، يمارس الجميع شعائرهم، في جو من الحرية المهذّبة، التي بها يقع الانسجام ويتحقق الوئام الذي يقتضيه العيش المشترك وبها تكتمل كرامة الإنسان.

وفي هذا السياق ينبغي التنويه بسياسة دولة الإمارات العربية المتحدة في ترسيخ مبادئ المواطنة وقيم التسامح والأخوة الإنسانية، وهي سياسة حكيمة تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي كما تتسم بوضوح الرؤية والهدف في تحقيق الموازنات الضرورية، ويتجلى ذلك في سنها القانون الاتحادي رقم 2 سنة 2015، والذي يتعلق بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان ويعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف وزعزعة السكينة والسلم الاجتماعي.

في مقابل الحقوق التي تمنحها دولة المواطنة لمواطنيها، توجد واجبات، بها تنال تلك الحقوق إلزامها، فلا وجود لحقوق بلا واجبات ولا لواجبات غير معينة الجهة، إذ كلّ حقّ هو واجب على آخر، وكل واجب هو حق لآخر.

حق الوطن على أبنائه أن يدافعوا عنه ضد كل معتدٍ ويحافظوا على أمنه واستقراره، وحقه عليهم أن يحترموا قوانينه ودستوره الذي به قوام نظامه الاجتماعي ووجوده الجماعي، وحقه عليهم توقير حكامه، والخضوع للسيادة التي تمثلها الجهات العليا للدّولة.

وللإمام الماوردي نصٌّ بديع في مقوّمات الدولة، لم يفقد شيئا من راهنيّته، في دولة المواطنة، حيث يذكر منها  الأمن العام، والخصب الدائم، والأمل فسيح،

الأمل الفسيح يمكن أن يترجم بأنه وضع استراتيجيات طويلة المدى تضمن للمواطنين تحقيق آمالهم في رغد العيش، وهو كذلك الرؤية الإيجابية التي تتطلع للمستقبل وتغرس الثقة وروح الاكتشاف وتبث الطمأنينة والسكينة في النفوس.

الدين حافز على المواطنة:

إنّ الإسلامَ كسائر ديانات العائلة الإبراهيمية، لا ينافي ما وصلت إليه التجربة الإنسانية في مفهومها الحديث للمواطنة. وإن زاد عليها بالروح الأخلاقية التي يصوغها بها، والتي قد تعوز الصيغ المعاصرة أحيانا كثيرة. ومن ثمّ فلا بدَّ أن نتجاوز النظرة الإقصائية للإسهام الديني في بناء نموذج إبداعي للمواطنة يتسق مع طبيعة البيئات التي يراد تنزيلها عليها.

وهي مراجعات شرع فيها بعض كبار فلاسفة العصر، على ضوء متغيرات البنية الاجتماعية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وما أصبح يعرف بعودة الدين، مما حدا بهم إلى وضع تصورات جديدة لمواطنة مفتوحة على الثقافة الدينية. وقد أفضى ببعضهم كالفيلسوف الأمريكي جون رَولْزْ  John Rawlsوغيره، النظر ُفي شروط العيش المشترك في المجتمعات المعاصرة إلى الدَّعْوة إلى إفساح المجال العام للإسهام الديني ليقدّم كلُّ دين من تراثه الخاصّ ونصوصه المقدسة ما يراه من مقترحات أخلاقية.

تلك هي المنهجية التي انتحيناها في إعلانات أبو ظبي للسلم وغيره من وثائق التسامح، حيث نترجم لغة الدين إلى لغة الفضاء العمومي، لغة الحياة المدنية والقانون، ونستعير من نصوص التاريخ لإنزالها على العصر الحاضر، مع الاحتفاظ لكل عصر بلغته وببيئته الزمانية والمكانية، نستنطق النصوص ونجمع متفرقاتها ونغوص إلى الحكم والمقاصد ونُأَوِّل طبقا لضوابط الاستنباط ومسالك التأويل، ونقارن بينها وبين ما وصلت إليه البشرية من آراء ومبادئ تخدم المصالح الإنسانية وتؤمّن الكليات الخمس، ذلك هو منهجنا في البحث.

بهذا المنهج التأويلي تمكنا من تحقيق المصالحة الضرورية بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، ورفع التعارض بينهما، حيث يرى البعض أن قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة، ويفترض تعارضا ذاتيا بين الولاء للدين والولاء للوطن، وخاصة في المجتمعات الهشة ذات الطوائف المتعدّدة حين تضعُف سلطة الدولة فتطغى سلطة الهوية الدينية، وتفيء كلُّ طائفة إلى حاضنتها الدينية التي تضمن لها نوعا من الحماية النفسية وحتّى الوجودية.

لقد كان الاهتمام في كل جهودنا التأصيلية متوجّها إلى قلب المعادلة ليكون الانتماء الديني حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الدّينيّ عليها.

وقد توسلنا لذلك  باستثمار صحيفة المدينة المنورة، إذ تقدّم أساسا متينا للمواطنة التعاقدية في المجتمعات المتنوعة، وباعتبارها خيارا يرشّحه الزمن والقيم للتعامل مع كلي العصر لتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عناصر الإقصاء والطرد، فهي اتفاق أتى من غير حرب ولا قتال ولا عنف ولا إكراه، اتفاق تداعت إليه أطرافه طواعية للالتفاف حول المبادئ التي تضمنها ضمن دائرة التفاعل الإيجابي بين مكوّنات مجتمع المدينة، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، والقبول بما يفرضه التنوع من اختلاف العقائد والمصالح وأنماط الحياة، مع وجود مرجعية حاكمة يفيء إليها الجميع حال التنازع والاختلاف.

كما اعتمدنا في تحقيق هذه المصالحة على إبراز الإحالة المتبادلة بين الديني والدنيوي في الإسلام، أي بين المصالح الإنسانية والقيم الدينية، فلقد فوّض الدين مساحة واسعة من شؤون الناس إلى ميزان العقل والمصلحة، ومن هذا القبيل قضايا تدبير الشأن العام ومفهوم الدولة وصورتها بصيغ لا تنافي مقتضيات الشرع وتتفق مع معطيات العصر.

ومن ثمّ أصلنا في ملتقانا الثالث لشرعية الدولة الوطنية، الحاضنة للمواطنة، وأن الدولة الوطنية في عالمنا الإسلامي باختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون جلب المصالح ودرإ المفاسد.

التربية ودورها في المواطنة:

إن المواطنة لا تنبني على مجرد المساواة في الحقوق والواجبات، ولا من خلال مفهومها القانوني البحت بل لا قرارَ لها ولا استقرار إلا بتأسيسها على أساس متين من القيم. فبهذه القيم التي ترسيها التربية في النفوس، ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة، وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك، لتكون المواطنة بذلك بوتقة تنصهر فيها كل الانتمـاءات، وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر في الجمـاعة يجد المواطن نفسه والجمـاعة مكانتها.

إن الحقوق التي تمنحها المواطنة للجميع، لتكون راسخة، يلزم أن تقدم في إطار عقد اجتماعي يقوم على تحقيق مجموعة من الموازنات ليس فقط من الناحية القانونية بل من الناحية الروحية والنفسية كذلك.

ولعل الإسهام الديني في تعزيز المواطنة يتجلّى كذلك في بعده التربوي، إذ الدين في كثير من البيئات هو الذي يوعز للإنسان بالفعل ويضع له منظومة التصورات الذهنية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياته الفردية والجماعية. فالمواطنة أكثر من كونها معرفة تتعلّم أو مبادئ تُلَقّن هي سلوك وممارسة تكتسب، من خلال التربية، التي تعنى بتهذيب السلوكيّات وتقويم التصرفات وتحسين الأخلاقيات. فبالتربية يكتسب الإنسان طرق العيش في الجماعة، وتتجذّر في شخصيته قيم المواطنة.

فلكي تكون دعائم المواطنة متينة، وليست هشة تتزعزع عند كلّ حادث، يجب أن تكون خلقا ثابتا في المجتمع، قائما على التراضي والإقناع، بحيث تنبع حقوق الجميع من المجتمع المتحلّي بروح التسامح والاحترام.

 

 

 

كيف السبيل إلى تحقيق المواطنة الحاضنة للتنوع؟

لقد دَخلت الإنسانية في القرن الأخير في سياق العولمة التي غدا فيها حضور الآخر حضورا إجباريا وإن تبدّى في الظاهر اختياريا، مما أنتج واقعا جديدا معقد البنية والتركيب، تتجاذبه قوّتان، اندفاع جامح نحو إلغاء الخصوصيات الدينية والعرقية وتنميط العالم وفق النموذج الحضاري المتغلب، ومن جهة أخرى التشبُّث المستميت بالهويات الخاصة وما يصحبها في بعض الأحيان من خطابات الانغلاق التي تجذر التناقض في شخصية الفرد وعدم الانسجام مع النفس ومع المحيط، بشراً وبيئة وقيماً وحضارة.

لقد انتهى العهد الامبراطوري ودخلت المجتمعات البشرية ضمن إطار ما صار يعرف بالدولة القطرية أو الدولة الوطنية، كما لم تعد الولاءات في الوقت الراهن دينية حصرا، بل أصبحت ولاءات مركبة ومعقدة تتحكم فيها عوامل متداخلة لا تنفصل عن بعضها، ثم ظهرت النزعة الفردية بحيث لم تعد الجماعة مؤطرة لفعل الفرد في بعض البيئات، و عقدت المواثيق الدولية ونشأ القانون الدولي مؤطرا للعلاقة بالآخر، وصارت التنوع الثقافي والعرقي والديني واقعا في كل قطر، وبرزت ثقافة الحريات عاملا مؤثرا وفاعلا في الواقع، وشيد نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية.

كل هذا المتغيرات تشكل كلي عصرٍ جديد، يثير عددا من الأسئلة العملية المرتبطة بمستوى التّنزيل وطرق التفعيل، فكيف نحقّق المواطنة في حياتنا وما هو المرجع القيمي الذي نريد أن نقدمه أساسا للمواطنة، هل كلُّ عقد توافقي هو في حدّ ذاته مرجعية قيمية كافية، أم لا بدّ من منظومة نموذجية؟

في هذه التفاصيل تكمن مواطن الاختلاف وتباين وجهات النظر، حتى كاد يكون عدد أنماط المواطنة بعدد الدول.

إن المقاربة التي نرى نجاعتها ونروم تجسيدها في الإعلان المعروض بين أيديكم، مقاربة دقيقة تقوم على البحث الواصب عن الملائمة والموائمة بين مقتضيات الواقع الجديد، واقع قيم العولمة وعولمة القيم، واقع التمازج الحضاري والعيش المتصل، وبين مقتضيات الخصوصية ومتطلبات المحلية.

مقاربتنا تحقّق التوازن بين محدّدات ثلاث:

  • السياق العالمي والمعيارية الكونية
  • السياق المحلي
  • استراتجية السلم بوصفها الإطار الذي ينبغي أن يقع فيه كل تحقيق للمواطنة.

 

  • المواطنة وعصر التمازج الحضاري

إن الاعتراف بأثر كلي الزمان الجديد في مفهوم المواطنة أمر حتمي والتنكر له يؤدي لا محالة إلا الفشل ولربما إلى الفتن، فتحقيق المواطنة المعاصرة يفترض القدرة على التواصل مع العصر إذ يقدم جملة من المفاهيم والقيم بعناوين تتمثل في الحريات وحقوق الانسان والمرأة والطفل ويتميز بالتمازج بين الحضارات والتزاوج بين الثقافات في حركة دؤوبة وتطورات مذهلة من الذرّة الى المجرّة.

لقد تجلّت لأهل العصر، عصر القرية الواحدة، حقيقة الإنسانية، في اتحاد مصائرها وتواشج مساراتها، بأبهى صُورها، فما يحدث في طَرَف من المعمورة تصيب آثارُه من هو في طرفها الآخر، وما يقوم به بعضنا يتأثر به جميعنا، فنحن في نسق واحد مترابط، لا انفصال فيه ولا انفصام.

الوَعْي العميق بكلي الزمان الجديد يرجّح المقاربات التشاركية، ويفرض القطع مع المنظور الصدامي الذي يُركِّز على الخصوصيات ويلغي دوائر المشترك بين بني البشر. وهو الوعي المؤسس للمنتظم الدولي المعاصر، بمؤسساته المختلفة ومعاهداته المتنوعة التي تتغيا جميعها إحلال السلام وتعزيزه ووقف الصراعات ودعم روح الوئام والإخاء بين البلدان والشعوب والثقافات.

وقد عرفت سيادة الدولة الوطنية جراء هذا الواقع الجديد تغيرات كثيرة وعميقة شملت المكان والسكان والصلاحيات والتشريعات، حيث غدت المرجعية الوطنية مقرونة بمرجعية أخرى تدَّعي الكونية، وغدت الدساتير الوطنية مربوطة بالمواثيق الدولية، في شبكة علائق تنافسية أو تعاضدية بحسب الأحوال.

لقد أظهرت الأزمة الراهنة ضرورة التعاون الدولي، وعجزَ المقاربات الفردية وقصورها، وظهرت الحاجة إلى تفعيل مؤسَّسَات التعاون بين الدول في تبادل المعلومات، وتقاسم ثمرات البحوث ونتائج العقول، والتآسي في المعيشة، والتآزر في المصيبة.

بيد أنها أظهرت وبشكل موازٍ لا يقلُّ أهمية أن الدَّولة الوطنية هي الملاذ الطبيعي والضروريُّ لدى الأزمات، فهي وحدها القادرة على وضع الأطر المناسبة للتصدّي لهذه التحدّيات، ولذلك أرَز الناس إلى بلدانهم واحتموا بأوطانهم، واضطلعت الدول بمسؤلياتها في وضع التدابير العمومية لحماية شعوبها من الوباء ومكافحة ما نتج عنه من الآثار والأعباء.

 

  • نسبية التنزيل:

إن الوعي بالطبيعة المعولمة للعالم المعاصر، لا ينبغي أن يؤدّي إلى تجاهل الفروق المجتمعية والتباينات التاريخية والثقافية، والخصوصيات المحلية. فلا يمكن أن نؤسس لمواطنة متينة متجذرة في نسيجها المجتمعي إلا بالحرص على ربط مفاهيمها بثقافتها الموروثة، فلا يغترب الناس عن موروثهم وتلتبس عليهم المفاهيم.

ينبه الفيلسوف الكندي شارل تايلور Charles Taylor أن معيارية حقوق الإنسان تقوم على سياسة الكرامة، بينما تقوم معيارية المواطنة الحاضنة للتنوع على سياسة الاعتراف، فالأولى تتمسك بجوهر الإنسانية الموجود في كل واحد منا، بينما الثانية تؤكد على الهويات المميزة لبعضنا عن بعض داخل تلك الإنسانية اسْتجابةً لحاجة الإنسان إلى الاعتراف بهويته.

إنّ الحقوق المقوّمة للمواطنة لابد عند تنزيلها من مراعاة سياقاتها المكانية والزمانية ومآلاتها، بحيث يحرص على تحقيق الموازنة بين الحقوق الجمعية والحقوق الفردية وبحيث يحافظ على النظام العام.

إن الكونية لا ينبغي أن تكون شعارا ترفعه خصوصية ما – توفرت لها شرائط عمرانية وظروف حضارية مواتية – فقدمت نفسها بوصفها المعيارية الكونية التي ينبغي أن تخضع لها سائر الخصوصيات، وإنما الكونية الحقة هي ملتقى الخصوصيات جميعها، هي المشترك الإنساني الذي تتمثل فيه كلُّ ثقافة ذاتها، فتنخرط فيه من تلقاء نفسها.

وعورة الجمع المطلوب بين كونية المبادئ ونسبية التنزيل تتجلى في الازدواجية التي طبعت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة والذي يعتبر أسمى وثيقة دولية، إذ هو نفسه غير حاسم في هذا الصدد، ففي الفصول الأولى من الإعلان، تتوالى الحقوق مفصلة مطلقة، ثم يأتي الفصل 29 بمثابة الفصل المقيّد لإطلاق كل ما سبقه، حيث يعيد التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الفرد والجماعة، وبين الحريات والنظام العام. ونص هذا الفصل : ”

  • على كلِّ فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموّا حرا كاملا.
  • يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقرّرها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. “

يحيل الإعلان في هذه المادة إلى مفهوم النظام العام، وهو في اصطلاح القانونيين هو ” أمر يتعلق بتحقيق مصلحة عامة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تتعلَّق بنظام المجتمع الأعلى” وهو مبدأ يختلف من نظام إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى باعتباره راجعا إلى النظام الأعلى للمجتمع ولهذا عبّر عنه بعض القانونيين بأنه مبدأ غامض وأن هذا الغموض متعمّد ليتيح للسلطات المعنية تقدير الحاجة إلى التدخل مثلا، فهو غموض يؤسس للمرونة التي يقصد المقنن إليها لتحقيق المصلحة المتوخّاة.

إن هذه القيود تعيد للمرجعية المحلية شيئا من الحاكمية، وتفرض علينا عند الحديث عن تصور كلي للمواطنة الكثير من النسبية، والتأني في توظيف المفاهيم والمفردات، والوعي بما يفرضه اختلاف المشارب الحضارية من ضرورة الحوار المستمر حتى نتوصّل إلى أرضية مفهومية متينة، بعيدا عن منهج الفرض من الخارج أو من الأعلى بسلطان القوة، الذي تثبت التجربة التاريخية أنه دائما ما تأتي نتائجه عكسية.

فلنتفق على أنّه حيثما وجدت قوانين تحمي هذه الأسس الكبرى، فثمة المواطنة، مهما كانت نسبيتها لدى التفسير أو التطبيق، بحسب الظروف الحضارية والسياقات التاريخية. فتلك تباينات طبيعية لا تعود على أصل المواطنة بالنقض والإبطال.

    

  • نحو مواطنة جامعة على بساط السلم

إن قناعتنا الراسخة أنه لا سبيل إلى تحقيق مواطنة شاملة، توائم بين إطلاقية المبدإ ونسبية التنزيل إلا من خلال استراتيجية السلم، فبدون سلام لا حقوق، لأن فقدان السلم فقدان لكل الحقوق بما فيها حق المواطنة، فالسلام هو الحق الأول والمقصد الأعلى الذي يحكم على كل جزئيات الحقوق، فلا يمكن أن نتصور مواطنة بالمعنى الذي نبحث عنه في بيئة متشنجة.

فبالسلم تسود الطمأنينة النفسية والروحية والسكينة بين أفراد المجتمع لتنعكس على العلاقات بين الأفراد والجماعات، ليكون السلم الاجتماعي حالة من الوفاق تتمظهر في التضامن والتعاون لإيصال النفع إلى الجميع ودرء الضر عن الجميع، وتتجلى في اللغة والسلوك والمعاملة، فلاعنف في اللغة  ولا اعتداء في السلوك ولا ظلم في المعاملة.

فالسلم يوجد بيئة الحبّ والسعادة والانتماء إلى الأمة والوطن والانخراط في مصالحه، وهو قبل كل شيئ مصالحة مع الذات قبل أن يكون مصالحة مع الغير.

إن هذا المبدأ الذي نرفعه في منتدى تعزيز السلم، مبدأ عام صادق في كل البيئات ، فلا يختص ببيئة دون أخرى ولا يقتصر على مجتمع دون آخر، ولكنه في عالمنا العربي والإسلامي أظهر والحاجة إليه أمس والوعي به أكثر إلحاحا.

ومنا هنا أيضا تأتي ضرورة سلوك منهج التدرّج من خلال التفريق بين مستوى الاعتراف المبدئي ومستوى التفعيل، ومن خلال التمييز بين مستويات الحقوق في المواطنة، بين مقوماتها الأصلية وبين مكملاتها ولوزامها التي تختلف من بيئة إلى بيئة، والتي يلزم التدرج في اكتسابها عن طريق استراتيجية المحافظة على السلم المجتمعي، لكي لا تعود هذه المكملات على الأصول بالإبطال، فلا يمكن أن ننزع عن عقد اجتماعي سار في بلد صفة المواطنة بدعوى تخلّف بعض اللوزام الثانوية أو التنظيمية في التصور المثالي للمواطنة، ولذلك أرى أن المواطنة الشاملة يبغي أن تفسّر بأنها المواطنة الحاضنة للتنوع.

ينصبّ الحوار حول المواطنة الشاملة على ما وراءها من إشكالية المعيارية ومقصد تحسين المواطنة، فما هو المعيار الأمثل لقياس جودة المواطنة؟ كيف يتنزّل هذا المعيار في كل بيئة بيئة، مراعيا ظروفها وتوفر شروطها التنموية والاجتماعية؟ ما هي مؤشرات هذه الجودة؟ وما هي التدابير الحكيمة للارتقاء بها؟ كيف نحسن ظروف المواطنة ونرفع من مؤشراتها بتحقيق مكملاتها ضمن إطار يحافظ على السلم الأهلية والنظام العام؟

وتلك هي المبادئ الموجهة لرؤية قيادتنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، رؤية قائمة على قيم الابتكار والجودة والتميّز، حيث يتعزّز كل يوم واقع المواطنة الإيجابية من خلال مبادرات إبداعية تدعم مؤشرات الجودة في المواطنة، وتسهم في الارتقاء بميثاق المواطنة وتعزيز الولاء والانتماء للوطن، بل تحسّن كذلك جودة المواطنة العالمية من خلال حسن الرعاية وكريم العناية التي توليها الدولة لكل المقيمين فيها على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم.

وفي الختام،

فإن هذه جملة من الأفكار حاولت من خلالها أن أُلحَّ على الهمِّ الخاص بالأمن والسلم الاجتماعي والمجتمعي الذي بدونه لن تكون المواطنة سعيدة ولا سديدة، بل قد يصبح الوطن حلبة للصراع وساحة للنزاع، ولربما ميدانا للدماء والأشلاء. إن الأخلاق الرفيعة وروح التسامح والمودّة والوئام وسعة الصدر واتساع الفكر هي التي تُحَصّن الأوطان وتجعل المواطنة مثابةً للإكرام والإحسان.


الكلمة التأطيرية للمُلتقى الثامن لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

المواطنة الشاملة: من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك لمعالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه