كلمة سماحة العلامة السيد علي الأمين،
عضو مجلس حكماء المسلمين في
مؤتمر بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية
بدعوة من رابطة العالم الإسلامي
مكة المكرمة ، الثامن من شهر رمضان المبارك ١٤٤٥
-كلمة وإدارة جلسة تحت عنوان :التنوع المذهبي وأدب الخلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله الصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
يأتي هذا المؤتمر تعزيزاً وترسيخاً لوحدة الأمة الإسلامية ببناء الجسور بين المذاهب الإسلامية في مواجهة مساعي ثقافة التعصّب والفرقة بين أبنائها. وهذه الخطوة الهامة التي تقوم بها رابطة العالم الإسلامي برعاية سامية من خادم الحرمين الشريفين الملك
سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، هي في سلسلة الخطوات المتتابعة والكثيرة التي تقوم بها المملكة العربية السعودية في العمل الدؤوب لجمع الأمة الإسلامية على كلمة سواء.
ولا شك بأن جهات كثيرة عملت وتعمل على استغلال تعدد المذاهب لتزرع الفتن والشقاق بين أتباع المذاهب الإسلامية، وهذا المؤتمر سيكون له الأثر الكبير في نشر الوعي الذي يساعد المسلمين على رفض تلك الدعوات الباطلة من خلال ما سيظهره من الأسس التي تجمعنا في دين الإسلام.
فإن ما تدل عليه آيات من القرآن الكريم وأحاديث السنّة النبويّة الشريفة وكلمات الفقهاء أن المسلمين على اختلاف مذاهبهم هم أمة واحدة لا تفرّق بينهم أسماء طوائفهم وعناوين مذاهبهم ولا اختلاف ألوانهم ولغاتهم، وقد سمّاهم خليل الله إبراهيم عليه السلام ب(المسلمين) كما جاء في القرآن الكريم قول الله(ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل)وقول الله(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).
فالمسلمون سنّة وشيعة وعلى اختلاف مذاهبهم حنابلة ومالكية وشافعيّة وحنفية وجعفرية وزيدية وإسماعيلية وإباضيّة وغيرها من المذاهب الفقهيّة والصّوفيّة ومسالك أهل العرفان والتوحيد هم أمّة واحدة يجمعهم التوحيد في صلواتهم التي يتلون فيها قول الله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) فهم ليسوا من المشركين، وفي مساجدهم وبيوتهم قرآناً واحداً يقرؤون، وهم لقبر رسول الله عليه الصلاة والسلام يزورون وفي مسجده يصلّون ولله وحده يعبدون، وإلى بيت الله يحجّون، وفيه يجتمعون، وشهر الصيام يؤدّون، وللزكاة هم فاعلون، وهم جميعاً بالآخرة يوقنون، وهم على اختلاف مذاهبهم فيما بينهم يتزاوجون ويتوارثون ومن ذبائح بعضهم البعض يأكلون.
إن تظهير قوى الاعتدال في المجتمعات الاسلامية يضعف قوى التطرف ويبطل شبهاتها. فإن هذه الأمة لا يزال الخير موجوداً فيها إلى يوم القيامة ولا يصلح أمر هذه الأمة اليوم إلا بما صلح عليه أولها، فقد اعتصموا بحبل الله جميعاً ولم يتفرقوا وأصبحوا بنعمة الله إخواناً واستجابوا لنداء الله والرسول عندما دعاهم لما يحييهم وعملوا بقوله تعالى(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)فانتهوا عن الخلاف والنزاع فقويت ريحهم وارتفعت رايتهم وجعلوا لأمتهم المكانة اللائقة بين الأمم وغدوا بحق خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.
إن تعدد الآراء والإجتهادات في فهم النصوص الدينية يعتبر من الأمور الطبيعية ولذلك ظهر في كل الشرائع السماوية وظهر أيضاً في القوانين الوضعية باختلاف تفسيراتها وتأويلاتها بين الحقوقيين والمحامين. وقد تعددت المدارس ومناهج البحث وطرق الإستنباط بين العلماء وأطلق عليها فيما بعد إسم المذاهب وهي في الحقيقة مذاهب تعبر عن آراء أصحابها المشهورين من العلماء في معرفة أحكام الشريعة الإسلامية وكانوا جميعاً من أئمة الإسلام في الفقه ولم تكن لهم نسبة لغير الإسلام كما كانت عليه حال الصحابة حيث لم يكن في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام سنّة ولا شيعة بالمعنى المذهبي، كما قال الله تعالى(ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل).فالمسلمون جميعاً على اختلاف مذاهبهم هم أمّة واحدة بما هم مؤمنون برسالة الإسلام ، وتصنيفهم إلى سنّة وشيعة وغير ذلك بالمعنى المذهبي المتأخر بما هم أتباع المدارس الفقهية التي أطلق عليها إسم المذاهب نسبة لأصحابها من الأئمة والفقهاء.
فالخليفة أبو بكر لم يكن مالكياً وعمر بن الخطاب لم يكن شافعياً والإمام علي لم يكن شيعياً جعفرياً، وهكذا سائر الصحابة رضي الله عنهم، حتى أئمة المذاهب أنفسهم لم يكونوا منتسبين إلى مذاهبهم التي ولدت أسماؤها بعدهم ، فالإمام مالك والإمام جعفر الصادق والإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة وغيرهم لم يحملوا صفة مذهبية غير صفة المسلمين وأئمة الدين وعلماء الشريعة . وقد حوّلها التعصب للآراء والسياسة إلى مذاهب متصارعة في بعض مراحل التاريخ بعد أن كانت مدارس متنافسة على العلم والمعرفة تحت راية الإسلام الذي يجمعها كلها .وبقيت المشكلة الحقيقية ليس في تعدد الآراء والمناهج وإنما في التعصب لتلك الآراء والإجتهادات برفض غيرها وزعم دعاة كل مذهب أن مذهبهم يمتلك الحقيقة الشرعية وحده مع أن الإسلام يتسع لكل تلك الآراء والإجتهادات المنطلقة من الكتاب والسنة وإن اختلف العلماء في فهم النصوص ووسائل إثباتها فالجميع يبحث عن سبل الوصول إلى أحكام الشريعة الإسلامية التي يؤمن بها الجميع .وفي كتابنا( السنة والشيعة أمة واحدة) إسلام واحد واجتهادات متعددة. ما ينفع في المقام إن شاء الله.
إننا ندعو إلى انشاء مركز للحوار بين المذاهب الاسلامية لتحويل الحوار من حالات فردية متناثرة الى مؤسسة جامعة وفاعلة تشكل ردّاً عملياً واضحاً على كلِّ دعوات التباعد بين المذاهب ولتفعيل دور هذا المركز نقترح على القائمين عليه أن ينبثق عنه مركز للدراسات الفقهية الجامعة مضافاً الى انشاء معهد ديني لطلاب العلوم الدينية من مختلف المذاهب الاسلامية يتخرّجون منه دعاة للحوار والتقارب في العالم الإسلامي وبذلك نضمن استمرارية مركز الحوار الجديد في أداء دوره الجامع على مستوى الأمة كلها.
وليس المطلوب من الحوار أن يصبح المسلمون على مذهب واحد وإنما المطلوب أن يفهم المسلمون أن تعدد المذاهب لا يخرجهم عن الدين الواحد الذي يتسع لكلِّ الإجتهادات المشروعة المنطلقة من الكتاب والسنة وان اختلف العلماء في فهم النصوص ووسائل اثباتها لان النصوص الدينية في معظمها ليست من باب الأرقام التي لا تختلف نتائجها بل هي نصوصٌ تختلف درجات الوضوح فيها وقد يختلف العلماء وأهل الإختصاص في دلالاتها أحياناً وفي ثبوتها أحياناً أخرى وقد يتعارض بعضها مع البعض الآخر ولذلك تتعدد آراء الفقهاء ومذاهب المجتهدين ولكن ما يجب قوله أن المذاهب ليست أدياناً متقابلة وإنما هي نتيجةُ آراءٍ بذل أصحابها مشكورين جهدهم من اجل الوصول إليها فإن أصابوا فهم عليها مأجورون وإن أخطأوا فهم فيها معذورون. وتنضوي تلك الآراء رغم اختلافها تحت دين واحد وهو الإسلام الذي يجمعها فهي اجتهادات تبقى في إطار الإسلام وتحت لوائه والمهم أن نُبعد عن المذاهب صفات التعصب والإنغلاق ودعوى امتلاك كلَّ واحدٍ منها للحقيقة الشرعية.
-وحدة الأمة من مقاصد الشريعة
وقد تعرض بعض الفقهاء كالشاطبي وغيره إلى ذكر مقاصد الشريعة وتبعهم على ذلك جملة من أهل الفكر والقلم.
وأصل البحث فيها منطلق من الإعتقاد بأن وراء الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات مصالح تعود على العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولا شك في وجود مقاصد وأغراض من الأحكام الشرعية الجزئية والكلية لامتناع العبث في ساحة التشريع كامتناعه في ساحة التكوين بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى. ولكن البحث عندهم في هذا الباب كان عن المقاصد الكلية التي ترجع إليها تلك التشريعات بمقاصدها الجزئية. وقد أنهاها الشاطبي وغيره إلى خمسة مقاصد كلية هي : حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال، وحفظ العقل.
وهذا التعداد ناشئ من تتبع أحكام الشريعة ومحاولة فهم الأسباب الداعية إليها، فوجدوا أنها ترجع بمجموعها إلى هذه المقاصد الخمسة. ونحن قد ذكرنا في بعض المقالات أن الحصر بهذه الخمسة لا دليل عليه سوى استقراء موارد اهتمام الشريعة، وهذا لا يمنع من إضافة أمور أخرى إليها كالحرية والعدالة وحقوق الإنسان من منظور إسلامي إذا ساعد عليها الدليل الإستقرائي بمعيار الإهتمام المتقدم . وقد اقترحنا أن تكون وحدة الأمة من مقاصد الشريعة الأساسية باعتبار شدّة اهتمام الشريعة بها كما يستفاد من نصوص عديدة ، وهذا مما يجعلنا نعيد النظر في كثير من الأحكام التكفيرية التي تقسم المسلمين شيعاً وأحزاباً .وقد غدا الفقه المقاصدي منهجاً عند كثيرين في المباحث الفقهية ، وهو يساعد على تجاوز منهج التّعبّد بحرفية النصوص للوصول إلى الجوهر والمضمون .
ولعلّ هذا الذي ذكرناه هو ما يقصده بعضهم من التعبير عند طرح رواية صحيحة سنداً بحسب الظاهر بأنها مخالفة لروح الشريعة تارة ، وبأن العمل بها مستلزم لنقض غرض الشارع تارة اخرى ، فإن روح الشريعة وغرض الشارع هي عبارة عن المقاصد والغايات والأهداف التي يراد تحقيقها والوصول إليها وهو لا يكون بتشريعات مخالفة لها، فإن العاقل لا يعاكس أهدافه ولا يتخلّى عنها! فكيف بشريعة خالق العقل والعقلاء؟!.
وأخيراً نجدد الشكر لصاحب الرعاية السامية الملك سلمان بن عبد العزيز ولرابطة العالم الإسلامي وأمينها العام سماحة الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.