العلامة السيد علي الأمين : لبنان يجمعنا والدولة مرجعنا
أمم للتوثيق والأبحاث – فان رقم 4 – بوابة بيروت – Beirut gate
نشرت جريدة “أمم” مقابلة حصرية مع سماحة العلامة السيد علي الأمين، تناولت الأوضاع السياسية والطائفية في لبنان، إضافة إلى الحرب الأخيرة وآثارها. وأكد السيد الأمين خلال حديثه على ضرورة العودة إلى مرجعية الدولة اللبنانية واعتماد مشروع وطني جامع.
الوضع السياسي قبل الحرب الأخيرة
في معرض حديثه عن الأوضاع السياسية التي سبقت الحرب الأخيرة، أوضح العلامة الأمين أن لبنان كان يعاني من شلل في مؤسساته الدستورية، حيث فرغت رئاسة الجمهورية وتعطلت الحكومة، مما أدى إلى تدهور اقتصادي كبير. وأضاف أن هذا الوضع كان شاملاً لكل الطوائف وليس خاصاً بالطائفة الشيعية. وأشار إلى أن “الثنائي الشيعي”، الذي يهيمن على الطائفة بقوة السلاح، ساهم في تدهور الوضع الداخلي، حيث غابت التعددية السياسية والفكرية داخل الطائفة، ما أدى إلى هيمنة المؤسسات الدينية عليها وفقاً لتوجهات سياسية تخدم مصالح الثنائي وارتباطاته الخارجية.
تقييم الحرب الأخيرة وآثارها
حول الحرب الأخيرة التي دخل لبنان فصل وقف إطلاق النار فيها، أكد العلامة الأمين رفضه للدخول فيها منذ البداية، واعتبر أن تكليف لبنان بالحرب يفتقر إلى شروط القدرة والاستطاعة. وأشار إلى أن الحرب جلبت ويلات للبنان، من خسائر في الأرواح والتهجير وتدمير الممتلكات، خاصة في الجنوب. ودعا الطائفة الشيعية إلى التعلم من هذه التجارب وعدم تكرارها، مشيراً إلى أهمية الاعتراض والمطالبة بالإصلاح من داخل الطائفة.
مستقبل الطائفة الشيعية وعلاقتها بباقي الطوائف
في حديثه عن مستقبل الطائفة الشيعية، شدد العلامة الأمين على أن الحل يكمن في الالتزام بلبنان كوطن نهائي والدولة كمرجعية وحيدة. وأكد أن مشروع الدولة الواحدة هو أساس الوحدة الوطنية التي لا تنبع من رؤى أيديولوجية ضيقة، بل من عقد اجتماعي جامع بين كل الطوائف. واستشهد بمواقف الإمام موسى الصدر التي أكدت على ضرورة دمج الجنوب في كيان الدولة اللبنانية.
ودعا العلامة الأمين قيادات الطائفة الشيعية الحالية إلى التخلي عن الوصاية السياسية والتوجه نحو دعم مشروع الدولة، كما طالب أبناء الطائفة بالمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الأزمات التي يمر بها لبنان.
ولاية الفقيه: جدل فقهي وليس عقائدياً
وعن مفهوم ولاية الفقيه، أوضح العلامة الأمين أنها ليست من أصول العقيدة الإسلامية الشيعية، بل هي مسألة فقهية خلافية. وبيّن أن العديد من العلماء الشيعة رفضوا هذه النظرية، مشيراً إلى أن ولاية الفقيه في الأساس كانت تُبحث في نطاق الولاية على القاصرين والأحوال الشخصية، وليس على الدول والأنظمة. وأضاف أن إعطاء ولاية الفقيه بعداً سياسياً جاء لاحقاً لدعم سلطات دينية معينة.
مشروع وطني جديد للطائفة الشيعية
وفي ختام حديثه، أكد العلامة الأمين إمكانية بلورة رؤية سياسية جديدة للطائفة الشيعية في لبنان تقوم على الثوابت الوطنية، بعيداً عن الانتماءات الطائفية والحزبية الضيقة. وشدد على ضرورة استقلالية الطائفة عن أي وصاية حزبية، داعياً الأحزاب السياسية إلى تبني مشاريع وطنية تشمل حاجات جميع المواطنين.
واختتم العلامة الأمين حديثه قائلاً: “الطائفة الشيعية أكبر من أي حزب أو زعيم، وما تحتاجه اليوم هو العودة إلى مشروع الدولة الواحدة التي تحمي الجميع وتحافظ على وحدة لبنان.”
التفاصيل:
العلامة السيد علي الأمين، أستاذ في علم الفقه والأصول،تخرج على يديه الكثير من أهل العلم والفضلاء ،هو عالم لبناني عضو مجلس حكماء المسلمين شغل منصب مفتي صور وجبل عامل سابقاً، واشتهر بمواقفه الجريئة المعارضة لولاية الفقيه. تعرض للإبعاد من مدينة صور بقوة السلاح غير الشرعي لمعارضته اجتياح بيروت خلال أحداث 7 أيار 2008، لكنه واصل النضال بفكره ومواقفه من أجل مستقبل أفضل للطائفة الشيعية وقيام دولة المؤسسات والقانون في لبنان، يُعرف بإيمانه العميق بالحوار والعدالة الاجتماعية، وبجرأته في مواجهة التحديات لتعزيز العيش المشترك والوحدة الوطنية والقيم الإنسانية والدينية.
ولأجل الاطلاع على موقفه مما يجري الآن على الساحتين الشيعية واللبنانية،كان لنشرة أمم للتوثيق والأبحاث ” فان رقم 4″ هذا اللقاء معه:
– كيف تصفون الواقع الذي كان سائداً قبل الحرب الإخيرة إن على المستوى السياسي اللبناني بشكل عام وإن على مستوى الطائفة الشعية بشكل خاص ومؤسساتها الدينية؟
– الوضع في لبنان قبل الحرب الأخيرة لم يكن جيداً على مستويات عديدة،وقد وصل إلى وضع لا يحسد عليه في السنوات الأخيرة،فعلى المستوى السياسي وقع الشلل في مؤسساته الدستورية،فراغ في رئاسة الجمهورية بسبب عدم قيام المجلس النيابي بواجبه في انتخاب الرئيس لها، وشلل حكومي بسبب استقالة الحكومة وقيامها بتصريف الأعمال ، واقتصاد متدهور.وهذا الوضع الذي وصلت إليه البلاد والمستمر حتى اليوم لم يكن خاصاً بالطائفة الشيعية،بل هو شامل لكل الطوائف في لبنان ومناطقه.وقد حصل هذا في عهد ما يسمى (الثنائي الشيعي) باعتباره القيادة السياسية المهيمنة بقوة السلاح على الطائفة الشيعية بل على كل لبنان.وكانت الطائفة الشيعية في لبنان أسوء حالاً من غيرها على مستوى إدارتها الداخلية، حيث غابت التعددية السياسية والثقافية فيها بسبب القمع وفرض الرأي السياسي الواحد عليها والتوجه الفكري والديني اللذين يخدمان سياسة الثنائي وارتباطاته الخارجية. ولذلك لا يمكن الحديث عن دور ناجح للمؤسسات الدينية للطائفة سياسياً ودينياً واجتماعياً في ظل التبعية والإنقياد لتلك الهيمنة المطبقة عليها وعلى كل مؤسسات الدولة التي جعلت من المسؤوليات والمناصب الدينية وغيرها فيها تابعة لهوى القيادة السياسية للطائفة الشيعية ، فكانت تلك المؤسسات الدينية كغيرها من المؤسسات الأخرى التي خضعت لتوجهات القيادة السياسية للطائفة.
-ما هو تقييم السيّد بالنسبة إلى الحرب التي دخلنا فصل وقف اطلاق النار فيها؟ كيف تنظرون إلى مسألة الدخول فيها؟ ما هي نتائجها وانعكاستها على شيعة لبنان؟
-لقد عبرنا عن رأينا في الدخول بهذه الحرب بعد اندلاعها في سنة ٢٠٢٣،وقلنا بأن هذه الحرب لن تنفع غزّة وتجلب الضرر إلى لبنان وتجعله في دائرة الخطر،وقلنا بأن لبنان هو جزء من العالم العربي،ولا يمكنه أن يدخل وحده في حرب غير متكافئة،ولا يجب عليه الدخول فيها،لأن التكليف بها فاقد لشرطه،وهي القدرة والإستطاعة.وعلى كل حال فإن لبنان الدولة لم يكن له رأي في هذه الحرب ولا فيما سبقها من حروب.
وهذا الرأي لنا في رفض جر لبنان إلى الحرب كان قد انتشر في عدة من وسائل الإعلام،ولكن كما يقال في المثل العربي المشهور:لو كان يطاع لقصير رأي!…
وأما سؤالكم عن النتائج لهذا الدخول في الحرب فقد كشفت عنه الوقائع والأحداث أثناء الحرب وبعد الإتفاق الجاري على وقف إطلاق النار،فإن لبنان إذا كان قبل هذه الحرب في وضع لا يحسد عليه فإنه بعد وقف إطلاق النار في هذه الحرب أصبح في وضع يرثى له بما أصابه من المآسي والويلات بسبب الخسائر في الأرواح والتهجير للسكان والتدمير للممتلكات،مشاهد لم تشهد الطائفة الشيعية مثيلاً لها من قبل.ونأمل أن تأخذ الطائفة مما جرى دروساً تعينها على النهوض والتغيير وعلى عدم الوقوع مجدداً في أتون الحروب وويلاتها.
-ماذا عن واقع الشيعة اللبنانيين اليوم؟ وماذا عن مستقبل الطائفة الشيعية في لبنان، وما الخلاص من الازمات المتتالية التي تقع فيها؟ وما الرأي بالنسبة إلى علاقتها الحالية بالنسبة إلى المكونات الطائفية الأخرى في لبنان؟ وكيف تنظرون إلى ماذا يجب أن تكون عليه؟هل الإلتزام بلبنان كوطن نهائي والدولة اللبنانية كحاضن لمختلف المكونات، والشيعة ضمنهم، هي خيار يمكن أن يتماهى دينيًا وفقهيًا مع الأصول الدينية الشيعية، وهل هناك مسند فقهي شيعي يتماهى مع الفكرة الوطنية؟
-لقد عبرنا عن هذه التساؤلات في الرسالة الأخيرة التي أرسلناها للشيعة اللبنانيين قبل صدور الإتفاق على وقف إطلاق النار في الحرب المفروضة على لبنان،وهي تحت عنوان:ما هو المطلوب من اللبنانيين الشيعة؟.وقلنا فيها:
تتوجه الأنظار إلى اللبنانيين الشيعة في هذه الفترة العصيبة التي تمر على لبنان كما توجهت إليهم في فترة حرب تموز ٢٠٠٦،وقد أثيرت في حينها مجموعة من الأسئلة حول الدور والإنتماء والمستقبل والمصير داخل الوطن والمحيط،ومن تلك الأسئلة التي يعاد طرحها اليوم سؤال: ما هو المطلوب من الشيعة حالياً ؟. -والجواب على هذا السؤال اليوم هو ما قلناه في تلك الفترة : وهو لزوم توجيه هذا السؤال أولاً إلى الواجهة السياسية في الطائفة الشيعية التي امتلكت القرار السياسي والعسكري في الجنوب منذ عقود،لأن عموم أبناء الطائفة الشيعية في لبنان لم يكن لهم رأي في الحروب التي وقعت على أرضهم وفي وطنهم . وهم كانوا قد عبّروا عن آرائهم وتطلعاتهم منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي في محطات عديدة عندما اقتطع الجنوب اللبناني من الدولة اللبنانية وصار تحت سلطة الاحزاب والتنظيمات المسلحة، ورغم الضغوط التي كانت تمارس على أهل الجنوب في تلك الفترة كانت أصواتهم ترتفع مطالبة بمشروع الدولة وبسط سلطتها الكاملة على الجنوب اللبناني أسوةً بغيره من المناطق اللبنانية. وهم ـ أبناء الطائفة الشيعيةـ لم يختاروا قيادتهم السياسية والدينية إلّا لاعتقادهم أن هذه القيادات تعمل على تحقيق مشروع الدولة الواحدة التي تنتظم فيها جميع الطوائف اللبنانية بما في ذلك الطائفة الشيعية التي آمنت بالعيش المشترك مع سائر الطوائف والذي تنبثق منه مؤسسة الدولة الواحدة التي ترعى الجميع وتكون هي المسؤولة وحدها عن الوطن والمواطن في مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من الحقول والميادين التي تتولى شؤونها الدول في شعوبها واوطانها.
إن دولة المؤسسات والقانون ليست انعكاساً لرؤية أيديولوجية خاصة بطائفة أو حزب أو جماعة خصوصاً في المجتمعات المختلطة والمتعددة كما هو الحال في لبنان البلد المتعدد الطوائف الذي تنبثق فيه فكرة الدولة وتنشأ من خلال عقد اجتماعي بين جميع الفئات تتكرس ميثاقاً وطنياً يتجاوز الأطر الضيقة والنظرات الأحادية. وقد التزمت بهذا العقد الاجتماعي كل الطوائف اللبنانية على اختلاف مذاهبها وأديانها بما في ذلك الطائفة الشيعية منذ قيامة لبنان، ولا يزال هذا الأمر أساساً يحظى بإجماع اللبنانيين من كل الطوائف، وهو اليوم أكثر رسوخاً وثباتاً في نفوسهم وقناعاتهم،وهم اليوم أكثر تمسكاً به كثابت من ثوابت لبنان الوطن النهائي الذي لا يتبدل مهما تغيّرت الظروف وتبدلت الاحوال. وهذا الذي ذكرناه من مشروع الدولة المسؤولة وحدها عن الشعب والوطن كان جزءاً لا يتجزأ من مشروع الإمام موسى الصدر الذي أعطته الطائفة الشيعية التأييد على أساسه لما فيه من تأكيد للوحدة الوطنية التي تتعاظم قوتها وتزدهر امكاناتها من خلال مشروع الدولة الواحدة، ولذلك قال في زمن انتشار السلاح بأيدي الأحزاب والتنظيمات الخارجة عن الدولة في مجلة الحوادث-30ـ7ـ 1978(لا حلَّ للبنان إلّا في إقامة الشرعية ولا شرعية إلّا بتذويب الدويلات أيّاً كانت صيغتها وشكلها وفعلها) وقد كان مشروعه في غاية الوضوح في شأن الإنتماء الوطني والعربي للشيعة اللبنانيين والإندماج الكلي في مشروع الدولة الواحدة. والمطلوب من الذين يقودون الطائفة الشيعية اليوم أن يعلنوا حالاً عن اعتمادهم الدولة اللبنانية مرجعيةً وحيدة والتخلي عن كل ما يتنافى مع سيادتها ويمنع من قيامها بكامل مسؤولياتها على كل أراضيها.
ويتوجه هذا السؤال ثانياً إلى أبناء الطائفة الشيعية،فإنه على رغم الجراح النازفة والنزوح من الديار والتهجير والدمار يجب عليهم مطالبة الذين يقودونهم بتوجيه الأسئلة إليهم عن أسباب الإنهيار الذي أوصلوهم وأوصلوا لبنان الوطن إليه في عهدهم وأمام أعينهم.فبدون المطالبة والإعتراض منكم سوف تتكرر المآسي، وبدون النقد لن يتحقق إصلاح.
قولوا لقياداتكم السياسية ليس المطلوب تذكيرنا في المناسبات بأقوال الإمام الصدر ومواقفه، المطلوب هو الإعلان اليوم عن بدء العمل الجادّ بمشروعه،فالإمام أراد من كلامه الذي نقلناه عنه عودة الجنوب إلى أحضان الدولة اللبنانية التي تشكل المرجعية الوحيدة للبلاد في مختلف الشؤون والمجالات وهي الحَكَمُ في فصل الخلافات والمصدر الوحيد في اتخاذ القرارات خصوصاً تلك المتعلقة بالسلم والحرب.
ونتمنّى على المرجعية الدينية في العراق ونناشدها أن تنظر إلى ما وصل إليه حال المواطنين الشيعة في لبنان وأن تصدر توجيهاتها إلى قياداتهم السياسية وأحزابهم باعتماد الدولة اللبنانية مسؤولةً وحدها عن الأمن والدفاع مثلما توجهت به المرجعية قبل فترة وجيزة إلى الأحزاب والتنظيمات المسلحة في العراق بضرورة الرجوع إلى الدولة العراقية. وبتنفيذ تلك التوجيهات يتحقق مشروع الإمام الصدر المتمثل بالدولة الواحدة التي ينضوي جميع اللبنانيين تحت لوائها، ويتم التأسيس لخروج لبنان من محنته وقيام دولته المسؤولة وحدها عن الشعب والوطن،وننطلق جميعاً في العمل من أجل تحقيق الأهداف لأهلنا الصابرين وشعبنا الصامد الذي يستحق الحياة الآمنة والمزدهرة. ٢٤-١١-٢٠٢٤ بيروت – لبنان
-هل ولاية الفقيه بما يجسده مشروع الثورة الإسلامية في ايران هي في أصل الدين والعقيدة أم أنها خيار ويمكن للمقلد الشيعي اتباع خيارات اخرى ضمن الطائفة دون أن يكفر أو يخرج عن الملّة؟
– مسألة ولاية الفقيه تعد من مسائل الفروع الفقهية في علم الفقه،وليست ولاية الفقيه من المسائل العقائدية عند المسلمين الشيعة، فالمسائل التي تكتسب صفة (واجبة الإعتقاد) هي المسائل المتفق عليها في أمور العقيدة سواء في أمور أصول الدين، أو في أمور فروع الدين، بينما ولاية الفقيه ليست من أصول الدين المعروفة عند الشيعة، وليست أيضاً من فروع الدين المتفق عليها عند علمائهم،فهي مسألة خلافية،والمسألة الخلافية ليس لها صفة (العقائدية)لأن المسألة العقائدية لها صفة الاتفاق وصفة الضرورة والمسلمات، فمثلاً الإمامة عند الشيعة هي من المسائل الثابتة والمتفق عليها عندهم،فلا يمكن لشيعي أن يؤمن بها ولآخر أن لا يؤمن بها ويبقى شيعياً، لأن الإمامة من العقائد عند الشيعة، أو لا يمكن لشيعي أن يقول أنا أؤمن بوجوب الصلاة ولشيعي آخر أن يقول أنا لا أؤمن بذلك، لأن وجوب الصلاة من المعتقدات والمسلمات المجمع عليها عند المسلمين ، فإذن المسألة العقائدية هي التي تكتسب صفة الثبات والمسلمات وهي من مسائل الاتفاق.
وقد تكلم العلماء والفقهاء من المذهب الشيعي في مسألة ولاية الفقيه،وقد رفضها الكثير منهم،ولذلك هي لا تعتبر من مسائل العقيدة عند الشيعة،وقد رأينا في إيران إبان ما سمي بالحركة الخضراء خروج الملايين معلنين عن عدم قبولهم برأي الولي الفقيه وفيهم علماء، فهل هؤلاء ليسوا شيعة! بلى،هم مسلمون شيعة، وهم لم يرتكبوا شيئاً خلاف العقيدة الشيعية عندما رفضوا رأي الولي الفقيه.
فالبحث في علم الفقه عن ولاية الفقهاء في الأصل كان بعيداً عن السلطة السياسية على الأفراد والجماعات والأنظمة والحكومات،وقد تعرّض الفقهاء للبحث عنها في كتبهم وأبحاثهم الفقهية نفياً وإثباتاً في موضوعات الأحوال الشخصية للأشخاص الفاقدين لأهلية إجراء العقود والمعاملات بسبب اختلال بعض الشروط المعتبرة عند العقلاء والشرع في نفوذ معاملاتهم وعقودهم والتزاماتهم كالبلوغ والعقل والرشد فإذا فقد الشخص شرطاً من هذه الشروط أو غيرها مما هو معتبر فقد أصبح هذا الشخص فاقداً لأهلية إجراء المعاملات والعقود ولو أوقع عقداً في هذه الحالة لم يكن نافذاً في حقه ولا تترتب عليه الآثار والإلتزامات ولا يكون مشمولاً لقاعدة نفوذ العقود المستدل عليها عند الفقهاء بقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) فهو شخص مسلوب العبارة على حدّ العبارة الواردة على ألسنة علماء الفقه والأصول. ولذلك يكون الفاقد لها كلاً أو بعضاً، قاصراً يحتاج إلى الولي الذي يتدبّر أموره ويرعى شؤونه وينظر إلى المصلحة في معاملاته وعقوده.
وهذا يعني أن الدراسة كانت لمسألة ولاية الفقيه تقع في إطار البحث الفقهي عن ولاية الأب والجدّ على الصغير وولاية عدول المؤمنين على الذي فقد وليّه،كاليتيم والغائب وغيرهما ممن يحتاج إلى من يقوم مقامه في معاملاته الشخصية واقتصرت ولاية الفقيه على هذه الموارد وأشباهها.
ولذلك أسس الفقهاء قاعدة فقهية بشأن هذه الولاية استناداً إلى النصوص الشرعية والروايات مفادها أن الفقيه هو(وليُّ مَنْ لا وليَّ له)، فتكون ولايته متأخرة ـ على تقدير ثبوتها ـ عن ولاية الأبوين ولا تكون ثابتة في الأصل ولا شاملة للشخص الذي يكون ولياً لنفسه وعلى نفسه لاكتمال عناصر شخصيته الحقوقية بتوفر الشروط المعتبرة في نفوذ معاملاته وتصرفاته.
وبهذا المعنى تكون الولاية المشار إليها ليس لها علاقة بالمعنى السياسي المتداول عن السلطة السياسية على الإطلاق.
والخلاصة أن مسألة ولاية الفقيه لم تكن في الأساس مسألة سياسية.والبحث عنها في الفقه الشيعي كان سابقاً في إطار الولاية على الإفتاء بمعنى الأهلية العلمية والدينية لإصدار الفتوى، وعلى ما تقدم ذكره مما يسمى بالوصاية, كطلاق الغائب والولاية على الصغار والقاصرين وعلى فاقدي الأهلية, لإدارة شؤونهم الإنسانية والاجتماعية،كما بيناه.وقد أخذت الطابع السياسي بداية في إيران في أوائل القرن التاسع عشر, حين نشب صراع بين بعض العلماء ومقلديهم المؤيدين لتقييد صلاحيات الشاه الحاكم،وقد أطلق عليهم إسم فريق المشروطة وبين بعض آخر من العلماء ومقلديهم الرافضين لذلك،وقد أطلق عليهم إسم فريق المُسْتَبِدَّة.وأعطيت في عصرنا من جديد ولاية الفقيه البعد السياسي في أواخر القرن العشرين مع قيام الثورة الإسلامية في إيران من أجل إعطاء الفقيه القائد صلاحيات دينية واسعة في قيادة الثورة والدولة بعد ذلك لمنع الإعتراض عليه باسم الدين. هذا موجز عن نظرية ولاية الفقيه ومن أراد التوسع فليرجع الى كتابنا المطبوع باسم (ولاية الدولة ودولة الفقيه).
-هل بالإمكان أن يتبلور مشروع وطني لشيعة لبنان يعتمد على الأصول الدينية كخيار وطني لبناني شيعي بموازاة المشاريع الموجودة حاليّاً إن كان مشروع حزب الله أو مشروع حركة المحرومين الذين أوصلا الطائفة إلى حالة الانهيار الحالية؟
-لا يوجد مانع من قيام رؤية سياسية جديدة للطائفة الشيعية في لبنان تقوم على أساس الثوابت الوطنية من العيش المشترك بين جميع الطوائف اللبنانية والولاء للبنان الوطن النهائي لجميع أبنائه والمرجعية الوحيدة لدولة المؤسسات والقانون،ولسنا مع الوصاية على الطائفة الشيعية،ولا مع الوكالة الحصرية في تمثيلها لأي حزب أو تنظيم أو زعيم،فالطائفة أكبر من كل الأحزاب والتنظيمات والزعامات،وهذا الأمر يعتمد على رأي أبناء الطائفة واختياراتهم بعد الإستفادة من التجارب التي مرّت بها الطائفة عبر عقود من الزمن أوصلتهم إلى الأوضاع الحالية.
والذي أراه أن الأحزاب يجب أن تقوم على المشاريع الوطنية التي تنطلق من حاجات المواطنين في وطنهم،وليس من خلال انتماءاتهم الطائفية والمذهبية،لأن قيام الأحزاب السياسية على أسس طائفية أو دينية يساهم في زعزعة الوحدة الوطنية،لأنه يؤدي إلى الفرز الطائفي والديني في الشعب الواحد والوطن الواحد،بل يصنع ذلك في الطائفة الواحدة،حيث إنه يصنف المواطنين بين مؤمنين منتسبين إليه وغير مؤمنين لا ينتسبون إليه،وقد قدمت تصوراً عن لبنان الذي نريد قبل سنوات عديدة،وقلت فيه:
”منذ عهود مضت ولبنان كان واحة للحرية في العالم العربي وقد شكل نموذجاً حضارياً في العيش المشترك القائم على الإنفتاح والتّسامح بين مختلف الطوائف اللبنانية وأعطى بذلك مثالاً على تجربة إنسانية ناجحة في احترام الآخر و القبول به ونبذ التّعصّب الّذي يشكّل سمةً من سمات الجهل والتخلّف و قد بقي رباط العيش المشترك يجمع اللبنانيين المتمسّكين بوطنهم لبنان بالرّغم من كلّ ما حصل على أرضه من حروب و نزاعات لا يحمل الشّعب اللبناني المسؤوليّة عنها و إنّما كانت حروب الآخرين الّذين استفادوا من ضعف الدّولة اللبنانية في تلك المرحلة ليقيموا دويلات الشّوارع و الزواريب و المناطق. و اللبنانيون اليوم كما في الأمس كانوا ولا يزالون متمسّكين بلبنان الواحد ومشروع الدّولة الواحدة التّي تشكّل مرجعيّة لكلّ اللبنانيين في مختلف الحقول و الميادين من خلال نظام سياسي يجعل منها دولة الإنسان التي تحترم مختلف العقائد و المذاهب والأديان من دون أن يكون هناك امتيازات في الحقوق لطائفة على أخرى ولا لفرد على آخر من خلال الانتماء الديّني للطّوائف و الأفراد الّذين يجب أن يكونوا متساوين أمام القانون في الحقوق و الواجبات وقد استجاب اتفاق الطائف لمعظم طموحات الشعب اللبناني في إرساء دعائم دولة المؤسسات و القانون.
ونحن نتطلّع إلى اليوم الّذي تصبح فيه الدّولة اللبنانية هي المسؤولة وحدها عن الأمن والدّفاع وعن السياسة والإقتصاد وعن سائر المهام الّتي تقوم بها الدّول في شعوبها وأوطانها وأن تكون الدّولة الّتي ينخرط فيها الجميع وينضوي تحت لوائها الجميع وأن تكون وحدها من خلال مؤسساتها صاحبة القرار ومرجعية الحلول عند حصول الإختلاف بحيث يقبل الجميع بأحكامها وتنفيذ قراراتها بدون استثناء على قاعدة أن يكون الولاء للوطن والدّولة ، وليس للطّائفة أو الحزب أو الزّعيم السياسي أو الدّيني. ولتحقيق هذه الغاية يجب إدخال مجموعة من الإصلاحات وإعادة النظر في بعض السياسات الإدارية المعتمدة لفترة طويلة من الزمن والتي جعلت ولاء المواطن لطائفته أو لزعيمها الطائفي،لأن تلك السياسات التي توافق عليها السياسيون جعلت من الزعيم مصدراً لكل الخدمات التي تُقدّمُ إلى أبناء طائفته بحيث أصبح في نظر أبناء طائفته هو المعطي والمانع وهو الدولة بنظر أصحابه وأتباعه وهو القانون والنّظام ولذلك يجب أن يبقى في السلطة على الدّوام وإن أساء إليها أو خرج عنها،وليس المعطي هو المؤسسات التابعة للدولة والمنبثقة عنها،ولذلك يجب إخراج الخدمات من أيدي الأحزاب والزعامات وجعلها محصورة بالدولة اللبنانية ومؤسساتها لا بالأشخاص والأفراد ، وبذلك يصبح ارتباط المواطن بدولته التي تضمن له حقوقه وليس بالحزب وزعيم الطائفة الذي يجعل منها سلاحاً ضدّ الدّولة ومؤسساتها عندما يشاء خدمة لأغراضه الشخصية أو وفاءاً لإرتباطاته الخارجية . ومن الإصلاحات التي نتطلع إليها في وطننا لبنان والتي تخرج شعبه عن دائرة الفرز الطائفي والتطرف الديني والمذهبي أمور متعددة،منها:
إعادة النظر في مناهج التعليم والبرامج التربوية والعمل على توحيدها في مختلف المراحل والقطاعات الخاصة والعامة وإلغاء التعليم الديني من المدارس التي يجب أن تنحصر مهمتها في التربية والتعليم والتنشئة الوطنية ،وأما التعليم الديني فهو مهمة الكنائس والمساجد ورجال السلك الديني الذي يحتاج بدوره إلى الإعداد والتنظيم بما ينسجم مع روح العصر والعيش المشترك الذي يستدعي ثقافة الإنفتاح والتسامح.
ومنها:إعادة النظر في تشكيل الأحزاب السياسية ومنع قيامها على أسس دينية وطائفية بل يجب تشكيلها وقيامها على أساس البرامج السياسية والإجتماعية التي تهم كل المواطنين ليصبح التمثيل للمواطنين تمثيلاً سياسياً إجتماعياً وثقافياً وليس تمثيلاً طائفياً ودينياً،وبذلك نؤسس لمجلس نيابي يقوم اختيار المواطنين لأعضائه على أساس من المشاريع الوطنية السياسية والبرامج الاقتصادية والإصلاحات الإجتماعية بعيداً عن العصب المذهبي والطائفي وبذلك نعزز حالة الإنصهار الوطني والتنافس الديمقراطي في عملية بناء لبنان المستقبل لبنان الإستقرار والإزدهار ليعود لبنان لؤلؤة في الشرق ونموذجاً حضارياً في أرقى وأسمى العلاقات الإنسانية في المنطقة والعالم.
تحميل PDF:إضغط