الجمعة , مارس 29 2024
لبنان دولة الطائفة أم دولة الإنسان - السيد علي الأمين

لبنان دولة الطائفة أم دولة الإنسان

لبنان دولة الطائفة أم دولة الإنسان؟

العلاّمة المجتهد السيد علي الأمين

إن عنوان ندوتنا هذه (لبنان دولة الطائفة أم دولة الإنسان) قد يبدو منه في النظرة الأولى أن هناك تنافياً واختلافاً بين الطائفة والإنسان لأن طبع العطف والترديد الموجودين في العنوان أن يكون هناك تغاير بين الطرفين مع أن الطائفة هي إنسان أيضاً وحينئذ قد يقال بأن العنوان لا يخلو من دلالة على التكرار أو من دلالة على التغاير بين المتفقين ولكن بنظرة ثانية الى العنوان يتضح لنا أن المقصود ليس نفي الإنسانية عن الطائفة وإنما المقصود إن الطائفة تعني حصة خاصة من الإنسان وهو الذي انتمى الى دين معين أو مذهب خاص والمقصود من كلمة الإنسان الواردة في العنوان الذي نجرده عن الوصف الديني أو المذهبي الخاص عند وضع القوانين وسن التشريعات وإنشاء المؤسسات وعلى هذا فإن المقصود بكلمة الإنسان المواطن بلا قيد والمقصود بكلمة الطائفة المواطن مع القيد وبهذا البيان ينتفي التكرار ويبقى التغاير بين الطرفين في العنوان بالعموم والخصوص.

وبعد هذه المداخلة الموجزة نعود الى صلب الموضوع لنبحث عن أجوبة لبعض الأسئلة التي يثيرها عنوان الندوة وهذه الأسئلة هي على التوالي:

ما هي نظرتنا الى لبنان؟

وما هي نظرتنا الى الدولة المرجوة؟

وكيف نصل اليها؟

أما عن نظرتنا الى لبنان الوطن فنلخصها بالآتي:

إن لبنان ليس مجرد جغرافيا معينة ذات مساحة محددة لأنه ليس باستطاعتنا أن نأخذ قطعة من الأرض في استراليا أو في غيرها من دول العالم ولهاالمواصفات نفسها من حيث المساحة والجغرفيا ونسميها لبنان وهذا يكشف لنا عن أن لبنان الوطن هو معنى لا ينطبق على سواه وهذه حقيقة تؤكدها بديهية علم المنطق التي تقول بأن الخاص والجزئي يستحيل أن ينطبق على غيره، فلبنان هو وطن ذو خصوصيات تميزه من غيره وتكمن هذه الخصوصيات إضافة الى حدوده الدولية المعترف بها في تاريخه وإنسانه والمعادلة التالية هي التي تعطي الصورة الواضحة عن لبنان الوطن وهي: الجغرافيا + التاريخ + الإنسان =لبنان. فالإنسان الذي كتب صفحات التاريخ على تلك الجغرافيا المحددة ولا يزال يحافظ عليها هذه الخصائص بمجموعها هي التي تحدد لبنان وتجعله واحداً يمتاز عما عداه.

ومن الواضح أن الإنسان عندما يولد تنشأ له علاقة بالأرض التي ولد عليها وعلاقة بمحيطه العائلي الأوسع الذي يشمل وطنه وقومه وهذه العلاقة مع الأرض والشعب سابقة على علاقة الإنسان بالدين وقد جاء الدين بعد ذلك لتعزيز ارتباط الإنسان بوطنه وعائلته الكبيرة التي يشاركه افرادها الخصائص نفسها التي جعلته يرتبط بالأرض يرتبط بقومه وعائلته وقد اعتبر الدين الوطن من المقدسات التي يجب الدفاع عنها والمحافظة عليها والمتهاون بوطنه متهاون بدينه حتماً ولذلك ورد في بعض النصوص الدينية (إن حب الأوطان من الإيمان) و(إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل فانظر حنينه الى وطنه).

وعلى هذا الأساس يجب أن تكون علاقة الإنسان بوطنه فلا يجوز أن تكون العلاقات مع الشعوب الأخرى على حساب الوطن ولا يجوز أن تكون روابط الأديان على حساب الأوطان لأن روابط الدين تنتج عنها علاقات متبادله مع الحفاظ على خصوصية الوطن والشعب كما في قوله تعالى (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) فإن التعارف لا يعني الذوبان والإلغاء بل يعني التواصل والعلاقات التي تقوم بين طرفين أو أطراف مع بقاء الخصوصيات التي تجعل منهم أطرافاً متعددة وعند ذلك يكونون شعوباً وقبائل لأن كلمة (شعوب) و(قبائل) تعني التعدد ولا يوجد تعدد بدون المحافظة على الخصوصيات. وفي رأينا أن بعض النصوص السابقة مما تؤكد على ارتباط الإنسان بوطنه وشعبه وليس هذا الارتباط من العصبية المذمومة كما ورد في بعض التعاليم الدينية (ليست العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن العصبية أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين) والذي أردت أن أصل اليه من هذا العرض أن لبنان الوطن الذي شكل الإنسان جزءاً أساسياً من معناه لم يؤخذ في إنسانه قيد ديني أو مذهبي لأن ارتباط الإنسان بالوطن أمر سابق على الدين والدين لم يأت لألغاء هذا الارتباط بل جاء لتمتين الروابط وتعزيزها.

ليست المنفعة تأتي من إسلامية النّظام كما لا تأتي المضرة من مسيحية النظام إنما تتولد المنفعة من عدالة النظام ومن جوره تأتي المضرة، وهكذا الحال بالنسبة الى الحاكم فلا يأتي العدل منه إذا كان مسلماً ولا يأتي الجَوْر منه إذا كان مسيحياً فإن مسألة الحكم والحاكم ترتبط بالعمل والسلوك والنظام السياسي الذي يحكمهما.

النظرة الى الدولة

وبما أن الدولة هي انبثاق عن الوطن أرضاً وشعباً فيجب أن تكون الدولة بحجم الوطن في تشريعاتها ونظامها السياسي ومؤسساتها، ولما لم يكن لبنان مذهباً وإنما هو جغرافيا محددة وتاريخ وإنسان فلا يصح أن تكون الدولة لطائفة أو لجماعة بل يجب أن يكون محورها الإنسان ودينها العدالة مهما كان الانتماء الديني للأفراد مختلفاً لأن الدولة من ناحية فلسفية يجب أن تكون انعكاساً لصورة الوطن فإذا كان الوطن للجميع فالدولة ينبغي أن تكون للجميع وضرورة الدولة كمؤسسة هي نابعة من حاجة الوطن والمواطن لها وليست هذه الحاجة مقصورة على فئة دون أخرى ولا يمكن لدولة تروم الدوام لنفسها والتقدم لشعبها أن تبني الوطن على حجم طائفة أو حزب لأن ذلك سيجعل منها دولة العشيرة والقبيلة وليست دولة الإنسان الذي يشكل جزءاً أساسياً من معنى الوطن وليس المطلوب من الدولة أن يكون لها دين غير دين العدالة بين أبناء الوطن وقد عبر الامام علي (ع) عن ضرورة الدولة ودينها بقوله “إنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل بإمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع بها الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر) فالدولة والحكومة أمر لا بد منه للناس ولكن هناك مواصفات لا بد من توفرها لإقامة العدل وهي:

ـ توزيع الثروة بعدالة

ـ ونظام لدفع أعداء الخارج

ـ ونظام لأمن السبل (أمن داخلي)

ـ ونظام قضائي لإنصاف الضعيف من القوي

فليست المنفعة تأتي من إسلامية النظام كما لا تأتي المضرة من مسيحية النظام إنما تتولد المنفعة من عدالة النظام ومن جوره تأتي المضرة، وهكذا الحال بالنسبة الى الحاكم فلا يأتي العدل منه إذا كان مسلماً ولا يأتي الجَوْر منه إذا كان مسيحياً فإن مسألة الحكم والحاكم ترتبط بالعمل والسلوك والنظام السياسي الذي يحكمهما وإن الدولة المرجوة في لبنان هي التي تأخذ في الاعتبار في نظامها السياسي طبيعة الشعب اللبناني الذي يمتاز بصيغة حضارية فريدة وهي صيغة العيش المشترك التي تعتبر صيغة ضرورية لاستمرار الكيان اللبناني وديمومته وقد أثبتت الأحداث التي جرت على الأرض اللبنانية طيلة خمسة عشر عاماً أن لبنان لا يكتب له البقاء وطناً لجميع أبنائه إلا من خلال صيغة العيش المشترك في كل المناطق اللبنانية.

وقد رأينا كيف بدأت العافية تعود الى لبنان وطناً موحداً عندما أزيلت الفواصل المصطنعة بين المناطق اللبنانية وسرعان ما اجتمع شمل العائلة اللبنانية. وتترسخ هذه الصيغة بالعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد لأن الإنسان كما قال السيد المسيح (ع) “لا يحيا بالخبز وحده” بل العدالة هي الأهم لحياته وبقائه، ولذلك نرى أن النظام السياسي يجب أن يحافظ على الصيغة اللبنانية التي تعني قبول بعضنا بالبعض الآخر ضمن عائلة واحدة اسمها الشعب اللبناني وضمن وطن واحد اسمه لبنان المؤمن برسالات السماء والرافض للمذهبية التي تولد التعصب وتقلل الدين.

وهنا نستحضر قول جبران “ويل لأمة تكثر فيها المذاهب ويقل فيها الدين”، كما نستحضر قول الشاعر القروي رشيد سليم الخوري رحمه الله الذي يقول في مناسبة عيد الفِطر:

“صياماً الى أن يفطر السيف بالدم = وصمتاً الى أن يصدح الحق يا فمي

أفطرٌ وأحرارُ الحِمى في مجاعة = وعيدٌ وأبطالُ الجهاد بمأتم!

بلادك قدّمها على كل ملة = ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم

أكرم هذا العيد تكريم شاعر = يتيه بآيات النبي المعظم

ولكنني أصبو الى عيد أمة = محررة الأعناق من رق أعجمي

الى علم من نسج عيسى وأحمد = وآمنة في ظله أخت مريم

فقد مزقت هذي المذاهب شملنا = وقد حطمتنا بين ناب ومنسم”

ولن نردد معه قوله: “سلام على كفر يوحد بيننا”. بل نقول: سلام على حب يوحد بيننا ولعل هذا هو المقصود له لأنه يقول في قصيدة أخرى:

“يا قوم هذا مسيحي يذكركم = لا ينهض الشرق الا حبنا الأخوي”

فالدولة ينبغي أن تقوم على أساس العيش المشترك وعلى العدالة في نظامها السياسي، وهذا ينتج عنه المشاركة الفعالة في مختلف المجالات ومن مختلف الفئآت. وينبغي أن يتحول الحوار بين المسيحية والإسلام من عالم الشعار الى عالم المؤسسة التي تخرج الأجيال المؤمنة بالحوار الذي يجعلنا بنياناً متماسكاً مؤمنين بضرورة المحافظة على أصول البناء الوطني وقواعده، ولذلك يجب أن يكون لدينا في لبنان الكتاب الديني الواحد الذي ندرس فيه عظمة الخالق وأهداف الأنبياء وأخلاقهم. وأما الخصائص الدينية الأخرى والمذهبية فيأخذها الطالب من البيت والكنيسة والمسجد، ولا يجوز أن نعطي أبناءنا في المدارس الدروس الدينية مختلفة حيث يخرج الطالب من قاعة الدرس في ساعة الدين الإسلامي إذا كان مسيحياً وفي ساعة الدين المسيحي يخرج الطالب إذا كان مسلماً، فإننا بذلك نفرقهم صغاراً فكيف نطلب الوحدة منهم كباراً؟! ويجب أن تقوم الدولة بتأليف الكتاب الواحد، ليس على مستوى الدين فقط بل على مستوى التاريخ أيضاً، لأننا من خلال الكتاب الواحد نحفظ الوطن الواحد ونصون خصوصيات الشعب الواحد.

الدين للرحمن جل جلاله

فتوحدوا وهو الكبير الغالب

ولإخراج الحوار من دائرة اللقاء والشعار الى طور المؤسسة يجب إضافة الى ما مر أن ننشئ المعهد الديني المشترك الذي ندرس فيه المسيحية والإسلام حيث يدرس الشيخ والخوري على مقعد واحد وفي مدرسة واحدة، بذلك نتعرف على القواسم المشتركة بينهما وما أكثرها.

وكلما تعمق الفهم المشترك ترسخ العيش المشترك الذي يشكل عماد لبنان ورسالته التي يجب تعميمها الى كل بلدان العالم، لأن صيغة العيش المشترك واللقاء بين أتباع الرسالات السماوية هي الصيغة الوحيدة التي تشكل مصدر الأمان والاطمئنان للجماعة البشرية ولن يتم هذا الأمل المنشود الا عبر اللقاء والتوافق على ضوء الأهداف للرسالات السماوية.

وقد حدثتنا روايات دينية عن النظام العالمي في عهد الإمام المهدي (ع) مؤكدة على ضرورة اللقاء بين المسيحية والإسلام من خلال وجود السيد المسيح والإمام المهدي عليهما السلام على رأس نظام العدل الإلهي في آخر الزمان. وإذا كان أمر المجتمع البشري لا يصلح آخره الا بلقاء بين المسيحية والإسلام فهذا يدلنا بالتأكيد على أن صراع المجتمع البشري اليوم وغداً لن تكون له نهاية سعيدة إلا بالتوافق واللقاء بين المسيحية والإسلام. ولبنان هو الذي يشكل المنطلق لهذه الضرورة الدينية التي أرسى قواعدها القرآن الكريم على المحبة والمودة (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون).

(وقل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة من أمري أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين).

وأخيراً لا يسعني الا أن أجدد لكم شكري جميعاً راجياً أن أكون قد وفقت في إيصال الفكرة المطروحة في العنوان وأستميحكم عذراً إن وقعت في زلل أو خلل.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا أنت مولانا.

عشتم وعاش لبنان

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

The advantage and benefit is not necessarily due to a regime described as an Islamic, and harm is not necessary produced by a regime described as Christian. Prosperity and benefit are generated by fair regimes while harm stems from injustice. Similarly the ruler: fair doesn’t necessarily spread out by him if he was a Muslim and oppression doesn’t necessarily spread out by him if he was a Christian. Rule (governance) and rulers (governors) are related to their deed, behavior and political system. [ H.E Sayyed Ali El-Amine ] 12 March 1995

جريدة  المستقبل – الجمعة 6 تشرين الأول 2006

محاضرة ألقاها المفتي العلامة السيد علي الأمين بتاريخ 12 آذار 1995 في قاعة الويستيلا الكبرى في سيدني ـ استراليا، بدعوة من رابطة الخريجين العرب الاستراليين، وارتأت “المستقبل” ان تعيد نشرها لأهميتها.