مجلة الشراع: السيد علي الامين يغنينا في حلقة عن:“مسيحيون في الضاحية الشيعية”
بقلم الشيخ حسن حماده
العلامة الأمين… رائد على درب الإصلاح والعيش المشترك
مقابلة تمت في 22/4/2024 – مجلة الشراع
من سار على الدرب وصل… مثل قد ينطبق على أي مجتمع في العالم إلا في لبنان –مع الأسف- فمن سار في درب الصلاح والإصلاح أُقصي وحوصر وحورب… كأن هناك من لا يريد لخط الإصلاح أن يكتمل ,ولآثاره السامية أن تُبصِر النُّور… وأي إصلاح أولى من الوفاق بين أبناء الوطن الواحد بكافة مكوّناته ,درءاً للفتن وحقناً للدماء…
نتكلّم اليوم عن رائد من رواد درب الإصلاح، عن عالم، فقيه، مفكر، متنوّر… حمل ثقل الرسالة من ريعان شبابه، جامعاً بين الدين والفكر والثقافة والشعر… لم يقف عند حدود المناصب، ولم يبال بالمصائب والنوائب… فكل همه أن يحمي لبنان الوطن، كل الوطن… وهو الذي يؤكد دائماً : لبنان ثم لبنان ثم لبنان حتى انقطاع الحياة.
هو آية الله العلامة السيد علي الأمين (عضو مجلس حكماء المسلمين) ، عاش التنوّع الجميل بين مكونات الوطن منذ نعومة أظافره فنشأ على حب الله والوطن متنقّلاً بين ساحل المتن الجنوبي وصور والنجف الأشرف ثم صور، دراسته الحوزوية وإيمانه الديني لم يكونا يوماً عائقاً -أمام هويته الوطنيه، فهو دائماً يدعو لأن يكون الانتماء الوطني هو الانتماء الأساس ، من دون التخلي عن الانتماء الديني.
عن نشأته أجاب العلامة الامين: نشأت وترعرعت في ساحل المتن الجنوبي، تحديداً في منطقتَي المريجة وبرج البراجنة ،اللتين كانتا تتميزان بعيش مشترك بين مختلف المكونات الدينية. أذكر في أواخر الخمسينات وبداية الستّينات، في سِنِّ المرحلة الدراسية الأولى كانت -تجمعنا في تلك المنطقة ملاعب الصبا ومقاعد الدراسة. لم نكن نشعر أن هناك تمايزاً بين طائفة وأخرى، وكان التزاور موجوداً بيننا وبين أبناء الطوائف الأخرى . فالمنطقة كانت غنيّة بتعدّد مكوّناتها من مختلف الطوائف والمذاهب المسيحية، والإسلامية. الذين كانت تجمعهم السّهرات والضّهرات. كنّا نسهر سويّة ،يأتون إلينا ونذهب إليهم، هذه من الصور التي بقيت في الذّاكرة… لم نسمع من أهلنا يوماً ما ينفّرنا من الآخر، وكان التعاون والتواصل والتضامن يكشف عن عمق المودّة المتبادلة بين جميع المكونات. أذكر عندما كنت طفلاً صغيراً، كنت أذهب إلى بيت الجيران (المسيحيين) لأشاهد التلفاز… وفي المدرسة صباحاً كنّا ندخل إلى الصفوف على وقع النشيد الوطني اللبناني، كان معنا محمد وعلي وجورج وإلياس وغيرهم من الأسماء، لم نكن نشعر بأن هناك مشكلة مع الأسماء… هذا اسمه جورج، وهذا اسمه ايلي، وذاك اسمه الياس… ولم نكن نشعر بأي تمايز، بل على العكس تماماً كنا نشعر بحالة من الودّ والمحبة فالوطن هو الذي يجمعنا.
أما عن مرحلة الدراسة الأولى في ساحل المتن الجنوبي فقال العلامة الأمين: درست الإعدادية في مدرسة برج البراجنة الرسمية، انتقلت بعدها إلى مدرسة خاصة في المريجة، وقد كان الاختلاط فيها أكثر. لم نكن نشعر أن هناك اشكالية في أن يكون المدرّس مسيحيا أو مسلماً،كان الأستاذ يدرّس المسلمين والمسيحيين، فنحن لبنانيون، يجمعنا الوطن… يجمعنا لبنان، وان تعدّدت طوائفنا وانتماءاتنا. ما زلت أتذكّر بعضاً من اساتذتي في تلك المرحلة منهم: الأستاذ ميشال زيادة، الاستاذ إيلي نجم، والاستاذ واصف الخطيب (من الإقليم)، والاستاذ محسن علامة (من الضاحية)… كانوا مجموعة من الأساتذة المميّزين من مختلف المكونات، لم نكن نشعر بأن هناك تمايزاً أو تباعداً، لا بيننا وبين الطلّاب، ولا بين أسرنا وأسر الآخرين، لأن التواصل كان موجوداً، وكنّا عندما ننتهي من الدراسة نذهب إلى ملاعب الرمل في المريجة، حيث نجتمع من مختلف الطوائف. هذه بعض الصور التي عشناها في الصغر.
وعن مرحلة الشباب يقول سماحته: انتقلت إلى ثانويه ابن سينا (في محلة بشارة الخوري) حيث كان الاختلاط كبيراً، كنّا أيضًا من مختلف المكوّنات الطائفية، لم نكن نشعر أن هناك تباعداً أو تباغضًا بيننا فكلنا أبناء وطن واحد وإن تعدّدت طوائفنا و شعب واحد وإن اختلفت مذاهبنا.
وللتعايش الجميل في الجنوب عند سماحته ذكريات وذكريات يحدثنا عنها، فيقول: في الجنوب… في عمر الشباب، كنا نذهب إلى القرى الأخرى، على سبيل المثال، يوجد في منطقتنا بلدة اسمها ديردغيّا كنا نقصدها وكان لنا فيها أصحاب، وبلدة النفّاخية أيضًا، كنّا نذهب لزيارتها برفقة أصدقاء، وإلى قرى بنت جبيل رميش عين إبل وإبل ودبل… كان التواصل موجوداً مع الجميع، لم نكن نشعر أن الطائفة تُبعدنا عن الطوائف الأخرى، هكذا كان الكبار من آبائنا وأجدادنا، حتى من القيادات التي كانت موجودة آنذاك، لم نكن نشعر بأنها تُبعدنا عن الآخرين المختلفين في المعتقد الديني أو في الفكر السياسي، وما شابه ذلك.
السيد الأمين هاجر إلى العراق في أواخر ستّينات القرن الماضي ولمّا عاد وجد كل شيء قد تغيّر. عن ذلك يقول: عدت إلى لبنان في الثمانينات، وجدت الحياة مختلفة كليًا، وجدت المناطق التي عشت فيها سابقاً مختلفة، اصطدمت بفرزٍ ديموغرافي مخيف، للأسف خلت بعض المناطق من الطوائف الأخرى، تفاجأت بالحياة تغيّرت عما عشناه في المرحلة السابقة، ابناء المنطقة تهجروا، تركوا بيوتهم، استوطنها أناس آخرون… انتهى ذاك التنوع الجميل لم يبق من أشقائنا من الطوائف الأخرى إلّا النزر القليل بل النادر ان لم يكن لا يوجد… كل ذلك نتيجة الصراعات التي استغلّت الطوائف خدمة لمشاريع سياسيه، اقحموا الطائفية في صراعاتهم كي يجمعوا المزيد من الأنصار بحجة الدّفاع عن طوائفهم وعن معتقداتهم. نعم لقد وجدت الأمور مختلفة ومتغيرة ومخيفة.
وهنا كان لا بد للعلامة الأمين أن يقوم بدور ما يحافظ من خلاله على هذا التعايش وهو ما يخبّرنا عنه يقول: عدت إلى منطقة صور، سكنت فيها وحاولت بمقدار الجهد ان نبقي العلاقات المشتركة بالتعاون مع عدد من المطارنة منهم المطران يوحنا حداد والمطران مارون صادر(رحمه الله) وغيرهم… وكانت العلاقات جداً جيدة ، عملنا بصدق وجهد كبير لكي نرسخ العيش المشترك في نفوس اللبنانيين عموماً وأبناء صور والجنوب خصوصاً. وأذكر أنني في زمن الحرب قبل 2006، في حروب 1996 و 1998، لجأنا إلى الكنيسة، لأن أوضاع الحرب كانت قاسية وشديدة آنذاك، نعم عملت على أن يبقى التواصل موجوداً، حتى انني أذكر أن أبنائي عندما سكنت في صور أدخلتهم إلى المدرسة الانجيلية، ليتعلّموا أولاً وحفاظاً على النمط القديم الذي عشناه ومن أجل التعايش مع مختلف المكونات.
ولذلك كتب قصيدة استلهمتها من وحي تلك المرحله التي عشناها:
معاً عشنا بارض الشرق دهراً *** نصارى اخوه للمسلمينا
ونحن على خطى الاجداد نمضي*** بإيمان وعزم لن يلينا
ونبقى الأوفياء لما ورثنا *** بسلمٍ واعتدالٍ مؤمنينا
نصون بذاك عهد العيش أهلًا *** ولن نرضى بغير الحب دينا
ومن ذكريات العيش المشترك في مدينة صور وجنوب لبنان ما قمت به في سنة -١٩٩٤-عندما حاول بعض رجال الدين من الشيعة ومعه مجموعة من المشايخ القيام ببناء مسجد في قرية قانا على آثار اكتشفت فيها للسيد المسيح عليه السلام،وقد ذهبت إلى الموقع مع مجموعة من المؤمنين ومنعناهم من بناء مسجد على تلك الآثار التي يجب المحافظة عليها،وقلت في وسائل الإعلام في ذلك الوقت(للمحافظة على الآثار التاريخية في قانا الجليل وعدم جواز المساس بهذه الآثار التي تشكل رمزا للالتقاء بين المسيحية والاسلام وإن عبادة الله سبحانه وتعالى لا تكون ببناء مسجد يفرق بين عباد الله فإن المسجد والجامع هو الذي يجمع القلوب على محبة الله والوطن والإنسان .وقد شكلت قانا الجليل على امتداد التاريخ رمزا للعيش المشترك والمحبة والتسامح في المنطقة. وإننا ندعو أهلنا في قانا وجوارها الى التمسك بهذا الرمز التاريخي والى الوقوف صفا واحدا في وجه التعصب البعيد عن هذه الأرض واهلها وإننا ندعو الدولة مجددا الى بسط سلطتها واثبات حضورها في منطقة عمل قوات الطوارئ الدولية وتكليف الجيش اللبناني الإمساك بملف الأمن فيها لأنه لولا هذا الفراغ الأمني لما كان هناك مجال لمثل هذه الدعوات الباطلة. وإن أرضاً وطأها السيد المسيح عليه السلام باقدامه لهي أرض مقدسة يُتبرك بها وتجب المحافظة عليها وهي بحد ذاتها مسجد لله وشاهد على المعجزة من دون حاجة لبناء مسجد عليها وما أحوجنا في هذا الوقت العصيب الذي يمر على وطننا لبنان إلى تغليب العوامل التي ترسخ العيش المشترك وتدعم الوحدة الوطنية بين أبناء شعبنا وإننا نؤكد أن الدعوة التي أطلقت لإقامة مسجد على تلك الآثار المقدسة لا تمثل رأي أهلنا ولا تمثل تطلعاتهم في منطقة جبل عامل الذين عُرفوا بأنهم أهل قيم المحبة والمبادئ وأهل العيش المشترك مع مختلف الطوائف اللبنانية).
ومن باب المسؤولية الوطنية والدينية الملقاة على عاتقه أوصى سماحته الشباب قائلاً: وصيتي إلى الشباب جميعاً، أن ينظروا إلى هذا الوطن الذي يشكل أمانة بين أيديهم، أن يحافظوا عليه بتواصلهم وبتعايشهم معاً وبالابتعاد عن النزاعات الطائفية والمذهبية والسياسية، التي تؤدّي إلى الاختلافات والارتباطات المضرّة بالوطن. وأن نأخذ من مسيرة الآباء والأجداد الذين كانوا نموذجاً للعيش في هذا الوطن بمحبة وسلام، وأن يؤمنوا بأن هذا الوطن وهذا الشعب الذي يشكّل عائلة واحدة وإن تنوّعت انتماءات أبنائه الدينية والطائفية، أن يؤمنوا بذلك، وبأنه لابدّ لهذا الوطن ولهذا الشعب من مرجعيّة يرجعون إليها وهي الدولة، الدولة التي تحفظ الجميع في هذا الوطن من دون تمايز إلّا من خلال الكفاءات في المواقع والمناصب، وأن يكونوا يداً واحدةً من أجل بناء هذا الوطن، وأن تكون انتماءاتهم لهذا الوطن وليس للأحزاب التي تأخذهم بعيداً عن هذا الوطن أو التي تجرّهم إلى صراعات داخلية. فهم يبقون أمل هذا الوطن ومستقبله الواعد، لأنه لا يمكن أن يستمرّ هذا الوطن من دون تضامن أبنائه وفي طليعتهم الشباب.