مقياس الحق والباطل
العلامة المجتهد السيد علي الأمين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على جميع عباد الله الصالحين
بعد ايمان العقل وتسليمه المطلق أن في الحياة الفكرية والعملية خطأً وصواباً , حقاً وباطلاً ,خيراً وشراً ,ظلماً وعدلاً، ينشأ سؤال يفرض نفسه علينا : وهو كيف نميز بين المخطئ والمصيب ؟وكيف نعرف صاحب الحق وصاحب الباطل؟وكيف نحدّد الظالم من العادل ؟وبتعبير آخر، هل يوجد لدينا مقياس ثابت تعرض عليه القضايا عملية وفكرية,فنعرف به غثّها من سمينها ,وسليمها من سقيمها,وفاسدها من صحيحها ؟أم أنّ الصحة والفساد والحق والباطل والخطأ والصواب تدور مدار الأشخاص ومقاماتها والمؤسسات واسمائها ,والتنظيمات وعناوينها، والدول وقدراتها ؟هل هناك قبح وحسن للأفعال والمواقف غير مستوردين من تحسين وتقبيح الأشخاص والعناوين والأسماء مهما تكن درجتهم الفكرية والإجتماعية علوّاً وانخفاضاً؟أم أن المعيار في معرفة الخطأ والصواب وما شاكلهما هو ما يقوله ويفعله الحزب ورئيسه أو العشيرة وزعيمها ,الدولة ومؤسستها ,المرجع الروحي أو المرشد السياسي ,الدولة القوية….؟ وإن شئت قلت هل هناك خطأ وصواب ,حق وباطل ,صحة وفساد,ليس لها طعم الأشخاص والأسماء وألوانها أم لا؟…
-مقياس العقل والدين
والجواب على هذا السؤال :أن لدى العقل والعقلاء والشرع والمتشرعة معياراً ومقياساً تعرض عليه الأقوال والأفعال والمواقف والأفراد والجماعات والدول والمؤسسات,حتى أصحاب النبوّات وحملة الرسالات الإلهية . ومن خلال المقياس الثابت نتمكن من معرفة أماكن الخطأ والصواب وتشخيص المرتكب لهما أو لأحدهما. ولو انعدم المقياس الذي نحدّد به الخطأ والصواب والحق والباطل وأصبح المعيار قول العناوين والأسماء وما شابهها لاستحال الوصول إلى حلّ أية قضية من القضايا التي يقع فيها الخلاف ولأدّى انعدام الميزان والمقياس إلى فساد النظام الفكري والإجتماعي ,وتكون النتيجة الشلل التام في شتى المجالات الحياتية للمجتمع البشري ,ولكان ما تدعيه البشرية الراقية من تقدم وتطور يعتبر سراباً وخيالاً ولكان سعي البشرية جاهدة نحو تحقيق القيم والمبادىء السامية كالعدل والحرية بلا جدوى ،وبالجملة لو لم يكن في حياتنا العقلية مقياس ثابت لأصاب نظام الحياة الاجتماعية الفساد الكثير والخلل الكبير ,وهذا ما يشير إليه قول الله تعالى(ولو اتّبٓع الحقّ أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن..)(المؤمنون71).
إن منطق ربط الحق والباطل والصواب والخطأ بالأشخاص والعناوين والألقاب هو منطق عصور التخلف والانحطاط الذي يتبرّأ منه العقلاء,والذي كان الميزان فيه والمقياس هو ما تقوله العشيرة والقبيلة كما عبّر عنه الشاعر في الماضي بقوله:
وما أنا إلا من غُزٓيّةٓ إن غوتْ غويتُ وإن ترشدْ غزيّةُ أرشدِ
وقال آخر:
إذا قالت حذام فصدّقوها فإن القول ما قالت حذامِ
هذا هو المنطق الذي يوصم بالجاهلية تارةً، وبمجتمع القرون الوسطى تارةً أخرى ، هو الذي كان من عوامل تخلف تلك المجتمعات وانحطاطها، وهو الذي كان من أسباب جهلها وارتكابها لأبشع الجرائم بحق الانسان,وهذا المنطق رفضته وحاربته كل المجتمعات التي تحترم القيم والمبادئ والتي تسعى إلى الرقيّ والعلوّ في علومها ومعارفها، ورفضته قبل ذلك الأديان التي أكرمت العقل والعقلاء وحاربته الشرائع التي لم تجعل الحق والباطل مربوطاً باصحابها ,بل خاطبت الشرائع العقول وطلبت التفكر والتدبر فيما يقولون ويفعلون .
وها هو الإسلام يرفض هذا المنطق الجاهلي وينصب لمعرفة المخطىء والمصيب ميزاناً توزن به المقامات والمواقع وكل بني البشر,بما فيهم الأنبياء لأن الناس في شرع الله سواسية كأسنان المشط ليس بين الحق وبين أحد قرابة,ولا بين الباطل وبين أحد وراثة ,فإن الحقَّ حقٌّ في نفسه لا يكتسبه من الأشخاص والعناوين ، فمن جاء بالحق قولاً أو فعلاً كان على حق وإن كان صغيراً! والباطل باطل في نفسه ، فمن جاء بالباطل كان على باطل وإن كان كبيراً! فليس أحد فوق الحق والباطل حتى الانبياء، بل هناك حق يجب عليهم أن يتبعوه، وهناك باطل يجب أن يجتنبوه .قال الله تعالى في كتابه الكريم عن النبي محمد (ص):””ولو تقوّلَ علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين””(الحاقة44)..
وقال سبحانه وتعالى عن نبي الله عيسى عليه السلام””قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق “”(المائدة 116)..
فالحق فوق الأنبياء وهو غير مربوط بهم بل هم مربوطون به ,ومن خلال معرفة الحق هم يعرفون ، وبه يوزنون وليست لهم السلطة المطلقة بل هم للحق محكومون وعليه يعرضون.
وفي معركة الجمل كان قد وقف بعض الناس حائراً لا يعرف أهل الحق ولا أهل الباطل من الفريقين ! فنظر إلى فريق بقيادة الإمام علي (ع) وفيهم الحسن والحسين (ع) وجملة من اصحاب رسول الله (ص),فكيف يكون هؤلاء على باطل وهم أصحاب المواقع والتاريخ المقترن بالتضحية والجهاد في سبيل الله! ..ونظر إلى الفريق الآخر وفيه أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير وجملة من أصحاب الجباه السود من كثرة السجود! فكيف يكون هؤلاء على باطل ؟ وهم أصحاب المواقف المشرقة في تاريخ الاسلام ! فوقف هذا البعض حائراً لا يدري ماذا يصنع ؟ولا يعرف كيف يحدد المخطئ والمصيب في هذه الحالة؟؟.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها سأل هذا البعض الإمام عليّاً عليه السلام وهو الحارث بن حوط فقال :يا أمير المؤمنين ، أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟! ,فقال عليه السلام:يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحِرتْ! إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه.(انتهى الحديث).
فإن المستفاد من كلام الامام علي عليه السلام,أن هناك ميزاناً أرفع من الأشخاص وأسمائهم وعناوينهم، وهو معرفة الحق والباطل في المرحلة السابقة، ومن خلال معرفتهما تنتقل إلى معرفة من ارتكب الباطل ومن حالف الحق وليس العكس .فلربما كان صاحب الموقع قد استغل موقعه، ولربما عمل صاحب الاسم بما ينافي اسمه وعنوانه ,ولذا لا يمكنك أن تعرف الحق من خلا ل الأسماء ومواقع الأشخاص ، ولم يقل الإمام عليّ عليه السلام للحارث بن حوط كان عليك أن تعرف أنّ الحق مع الفريق الذي أقوده أنا ! لأنني الحاكم الشرعي والولي المسلط بل أرشده إلى الميزان الأعلى الذي يقاس به حتى علي بن أبي طالب الخليفة والإمام ! ومن خلال هذا المقياس الثابت عليك أن تعرف أهل الحق وأهل الباطل ,وتحدد الموقف على أساس تلك المعرفة.
وهنا نسأل أن الحق ما هو ؟ وكيف نعرفه؟والباطل ماهو؟ وكيف نشخصه؟حتى ننطلق من خلال معرفتنا بهما إلى معرفة اصحابهما.
– الحق والباطل
الجواب : إن الحق والباطل هما من الأمور الواضحة مفهوما والغنية عن التعريف والتحديد بالمعنى المنطقي القائل بعدم حاجة الواضحات إلى التعريفات .ويمكن أن نشير الى الحق بأنه الأمر الثابت الذي لا ريب فيه ,فهو كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء,والباطل هو الأمر الذي لا ثبات له ولا اعتبار، فهو كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض فما لها من قرار .
وبعبارة أخرى أن الحق والباطل هما ثوابت الرفض والقبول عند العقل والعقلاء والشرع والمتشرعة ,تلك الثوابت العلمية والعملية التي تعرض عليها القضايا وتوزن بها الامور وعلى أساسها يتم الرفض أو القبول، وما من احد يخرج عنها الا واعتبر خارجاً عن دائرة العقل والعقلاء والشرع والمتشرعة .
ونحن هنا سنتكلم عن جملة من الثوابت العلمية التي آمن بها العقل والعقلاء وأمضتها الشرائع السماوية وأرشدت اليها وأكدت عليها والتي لا يقبل فيها اجتهاد مجتهد ولا تقليد مقلد.
-منها: ادراك العقلاء كافة قبح الظلم بعقولهم لا بعواطفهم وانفعالاتهم ,فيجب عندهم اجتنابه ويستحق الذم فاعله. – ومنها: ادراك العقلاء كافة حسن العدل,أدركوا ذلك أيضاً بعقولهم لا بعواطفهم وانفعالاتهم ويجب عندهم اتيانه ويستحق المدح فاعله.
والظلم لم يكن قبيحاً لأن الشريعة نهت عنه أو القانون ، بل لأنه قبيح نهت عنه وأرشدت إلى قبحه ، فهو قبيح في المرحلة السابقة على الشريعة والقانون ، ولم يستورد قبحه منهما، فهو في ذاته قبيح.
والعدل لم يصبح حسناً لأن الشريعة أمرت به أو القانون ، بل لأنه حسن في ذاته ,أمرت به تأكيداً أو إرشاداً لا تأسيساً ,فحسنه ثابت في المرحلة السابقة على وجود الشريعة والقانون ,ولو نهت الشريعة -فرضا-عن العدل لما صار العدل قبيحاً ,ولو أمرت الشريعة بالظلم لما صار الظلم مليحاً,ولأن الظلم قبيح في حد نفسه والعدل حسن في حد نفسه آمن بثبوت القبح للظلم وبثبوت الحسن للعدل حتّى من أنكر الشريعة والمشرّع . وعلى هذا فالظلم بلا شرع وفتوى هو قبيح ،ومع الشرع والفتوى هو أيضاً قبيح ، تماماً كالظلمة والضياء ,فكما أن الظلمة لم تجعل منها العين ظلاماً لأنها لا ترى الأشياء فيه ، فكذلك الفتوى لا تجعل من الظلمة ضياءً، ولا من الحق باطلاً ! وكذلك هي الحال في منع المسؤول أو إجازته في الأمور المعلومة الوضوح والبطلان .
-ومنها: اداراك العقلاء قبح الخيانة وحسن الأمانة من دون نظر إلى الجهات والعناوين ، فالخيانة قبيحة من دون فتوى ومع الفتوى,,مع توجيه المسؤول أو بدونه ,فلا تمنح الفتوى الحُسن للقبيح ،ولا تفقد الحسن للمليح ،ولو نهت الفتوى عن الحسن في ذاته ، وأمرت بالقبيح بذاته ترفض حينئذ وتردّ على صاحبها، لانها خالفت الثوابت التي آمن بها العقل والعقلاء وأمضاها الشرع على سبيل القطع واليقين ,فأي اجتهاد خالفها هو مردود ومرفوض بل تحرم طاعته وتجب مخالفته ، وهو اجتهاد باطل لأنه في مقابل النص الصريح الذي لا يجوز فيه التأويل,وهناك ثوابت أخرى للعقل العملي لا يتّسع المجال لذكرها .
والنتيجة أن الظلم باطل في نفسه ، فمن أتاه فقد أتى الباطل ولو كان الآتي به يحمل عناوين الصلاح وآيات التّقى! والعدل حق،فمن أتاه فقد أتى الحق ولو كان في ظاهره من أشقى الأشقياء.
ثم إن هذه الثوابت التي أدركها العقل تشكل جزءاً من شرع الله ، بها يعبد الله وينال بها رضاه.,,وفي الحديث”ما عبد الله بشيء أفضل من العقل”.
وفي آخر:”ان لله على الناس حجتين:حجة ظاهرة وحجة باطنة،فأما الظاهرة فالرسل والانبياء، وأما الباطنة فالعقول”.
وفي حديث ثالت:”حجة الله على العباد النبيّ والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل” وقد آمن الاسلام بالعقل وأكرمه وأعطاه المكانة اللائقة به.وقد عدّه العلماء أحد المصادر المهمة في التشريع الاسلامي ، بل الدليل العقلي القطعي مقدم على غيره من الأدلة الشرعية غير القطعية كظاهر بعض آيات القرآن الكريم وغيره عند المعارضة كما ذكر ذلك أساطين العلم والمحققون.
والعقل عند المحققين هو مدار الثواب والعقاب ! وليست طاعة الفقيه أو المسؤول التنظيمي أو مخالفة الرابط الحزبي ، لأن العقل هو الجهاز الرحماني الذي يكشف عن موارد لزوم الطاعة واستحقاق الثواب عليها وهو الذي يكشف عن مواطن حرمة المخالفة واستحقاق العقوبة عليها,فكل تكليف أو توجيه أو فتوى لا بد من عرضها على جهاز الرحمن وهو العقل وعلى ثوابته التي آمن بها والتي هي جزء لا يتجزأ من شرع الله سبحانه وتعالى ,فمن أطاعها فقد أطاع الله مهما يكن لونه وانتماؤه ,ومن خالفها فقد عصى الله مهما يكن إسمه وعنوانه ومقامه ، والله يحتج عليه يوم القيامة بما أدركه العقل والعقلاء ويقطع عذره ويسلب حجته,وفي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:
“لمّا خلق الله العقل استنطقه ثم قال له:أقبل فأقبل ,ثم قال له أدبر فأدبر,ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هم أحبّ إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحبّ،أما إني إيّاك آمر وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب”.
والنتيجة التي نحصل عليها مما سبق هي أن المدركات عند كافة العقلاء هي من الثوابت التي تشكل مقياساً من مقاييس الحق والباطل والخطأ والصواب ، وعلى أساسها يتم قبول أو رفض الأفكار والأعمال والأشخاص والأقوال، فلا يمكن لعاقل أن يتجاوز تلك الثوابت اجتهاداً أو تقليداً ويبقى محقّاً مصيباً وإن علا مقامه وكبر قدره! وإن كان قد أُعطي من أسماء وعنواين وأحاط نفسه بهالة التقديس والتجليل ! فإن العصمة لكلام الله رب العالمين ولمن اصطفاه من عباده الصالحين، على أنك قد عرفت مما سبق أن العصمة الممنوحة لمن اصطفاهم الله تعالى لا يمكن أن تتجاوز تلك الأسس والثوابت العقلية عند العقل والعقلاء.
هذا ما تيسر من حديث حول جملة من الثوابت العامة عند العقلاء كافة .
– ثوابت الشرع والمتشرعة
وأما الثوابت الخاصة بالشرع والمتشرعة والتي لا يخلو منها علم من العلوم ولا شريعة من الشرائع فهي تقوم بدور الميزان والمقياس الذي يعرف به الخطأ والصواب والحق والباطل في الاطار المختص بتلك الثوابت ,فإن لكل شرع ثوابته التي لا تتغيّر، ولكل علم ثوابته التي لا تتبدل ,فعلم الرياضيات له ثوابت خاصة به تعرض عليها النظريات الرياضية فما خالفها يرفض ويرد ،وما وافقها يقبل ويؤيد ,وعلم الهندسة فيه ثوابت تختص به ولا يجوز مخالفتها ,وفي علم النحو ثوابت ترتبط به لا يجوز إنكارها وهكذا الحال في جلّ العلوم فإنّها تعتمد على ثوابت لا يمكن رفضها.
ومن تلك العلوم العلم بأحكام الشريعة فإن له ثوابت لا يمكن لنبيّ من الأنبياء أن يتجاوزها أو أن يخالفها، فضلاً عن غير الأنبياء ممّن هم دونهم في المستوى والدرجة. والثوابت الخاصة بالشريعة والمتشرعة كما هو الأمر في ثوابت العلوم الأخرى ليست معارضة لدليل العقل ,ولا يمنع العقل نفسه من قبولها بعد مساعدة الأدلة النقلية المعتبرة علميّاً على صحتها ,وحينئذٍ يجب الأخذ بها وتصديقها عقلاً لأن التصديق بالادلة النقلية والشرعية من نتائج الإيمان بالعقل وأدلته حيث لا يمكن الاخذ بدليل شرعي وعلمي أنكره الدليل العقلي .
وثوابت الشرع الخاصة به-التي تصلح للقيام بدور المقياس بحيث يعتبر المخالف لها مرتكباً للخطأ أو داخلاً في باطل ، والموافق لها موافقاً لصواب أو مصاحباً لحق – هي أمور عديدة:
أهمها: ما يطلق عليه الفقهاء إسم( ضروريات الدين) التي لا يصح فيها الإجتهاد والتقليد إجماعاً لأنهامن الأمور المعلومة الثبوت في الشريعة بالقطع واليقين لدى عامة المسلمين، وبما أن الإجتهاد والتقليد وسيلتان من وسائل معرفة الحكم الشرعي فيبطل أثرهما والإعتماد عليهما في الموارد التي تكون معلومة الحكم على سبيل القطع واليقين لعامّة المسلمين فضلاً عن خواصهم من الفقهاء والمجتهدين.
-الضروريات الدينية
وفي وسعنا أن نطلق على تلك الضروريات الدينية إسم(واضحات الشريعة ومسلماتها وثوابتها التي لا يخالطها الشك ولا يمازجها الريب عند المسلمين)وقد أحصاها الفقهاء في كتبهم العلمية ورسائلهم العملية منها:وجوب الصلاة,وجوب الصوم,ووجوب الحج,وحرمة الغصب والسرقة، وحلّية البيع والتجارة عن تراضٍ، وحرمة سفك الدم والقتل بغير حق ،وحرمة الغيبة وحرمة أكل الميتة ,وطهارة الماء وإباحته وغيرها من الأمور التي اتّفق المسلمون قاطبة على احكامها التكليفية كالوجوب والحرمة والحلّية وأحكامها الوضعية كالصحة والفساد.
وهذه الثوابت وأمثالها من غير الجائز لأحد مخالفتها وتجاوزها بل يعد المنكر لها خارجاً عن الاسلام على وجه معروف عند أهل العلم، ويشير إليه الحديث المروي عن الإمام الصادق(ع):” من خالف كتاب الله وسنة محمد (ص)فقد كفر”.
وبما أن درجة الوثوق والإعتبار للثوابت المأخوذة من كتاب الله وسنة محمد رسول الله(ص) لا تنالها الشكوك والإجتهادات والتأويلات ، فهي صالحة للقيام بدور المميّز للخطأ من الصواب والحق من الباطل ,وتسلب المجتهد الفقيه سلطنة الافتاء بما يخالفها ، بل تسقطه مخالفتها عن أهلية المرجعية والتقليد، بل قد عرفت أنها تخرج منكرها عن الإسلام،ولا عذر ولا حجة لمن قلّد مجتهداً خالف تلك الثوابت الشرعية لما عرفنا سابقاً من عدم صحة التقليد والإجتهاد فيها,فكل رأي خالفها أو تقليد عارضها يكون معلوم الفساد والبطلان ، ومن غير الجائز عقلاً ونقلاً التعبّد والتديّن برأي نعلم خطأه وفساده,فإن الشريعة نهت عن العمل بالظن ابتداءاً مع أنه يحتمل الصواب! فكيف بمعلوم الخطأ والبطلان ؟! قال الله تعالى مندّداً باتّباع الظنّ”إن يتّبعون إلاّ الظنّ وإنْ هم إلّا يخرصون”. وهذا يدلّنا بطريق الأولى على النّهي عن اتّباع معلوم الخطأ والبطلان.
فالصلاة في شرع الاسلام واجبة على المكلَّف سواء أفتى بوجوبها الفقيه أم لم يفت ! فهي واجبة على الإطلاق حتى ولو لم يكن لدى المسلمين فقيه أصلاً ! والغصب حرام في الشريعة سواء نهى عنه الفقيه أم لا ! وقتل النفس بغير حق من أعظم المحرمات، والحكم المنافي للتحريم باطل مردود لأنه ينافي واضحات الشريعة وثوابت كتاب الله وسنة رسول الله(ص) . وكل فتوى تخالفهما هي باطلة لا يجوز العمل بها وإن صدرت عن أعظم الفقهاء!والمخالف لهما معلوم البطلان كما جاء في أحاديث عديدة ، منها(إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً،فما وافق كتاب الله فخذوه،وما خالف كتاب الله فدعوه). ومنها “كل شيء مردود الى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف”.
– عرض قول الفقيه على الكتاب والسنّة
ومن هنا ينتج لدينا أن قول الفقيه لا بد من عرضه على الكتاب والسنة وثوابتهما، وليس له أن يحيد عنهما قيد شعرة، فليس الحق والصواب ما أثبته الفقيه المجتهد، وليس الخطأ والباطل ما نفاه ! بل لا بد من عرض أوامره وفتاواه، ونواهيه وإرشاداته على الثوابت العامة عند العقلاء وعلى الثوابت الخاصة بالمسلمين المأخوذة من الكتاب والسنة، فإذا كان قوله مخالفاً لتلك الثوابت كان مخطئاً ، ولا يجوز الأخذ بقوله ولا التعبّد به ، وإذا كان موافقاً لها كان مصيباً. وهذا يعني أنه ليس له الطاعة المطلقة حتى فيما كان مخالفاً للثوابت المذكورة ! فإن هذه الطاعة المطلقة لم تثبت حتى للأنبياء الذين تتقيّد طاعتهم بما وافق تلك الثوابت ، وليس لهم أن يخرجوا عنها ! ولا براءة لذمّة المكلَّف إذا اعتمد رأياً مخالفاً لتلك الثوابت بزعم صدوره من المجتهد ،لأنه رأي مقطوع الخطأ والبطلان عندما يكون مخالفاً لتلك الواضحات .
وقد تحصّل لدينا مما سبق أنه في المورد الذي يوجد فيه أمر ثابت في كتاب الله فليس لنبيّ أو وصيّ أن يخالفه ويبدله فضلاً عمن هو دونهما في الرتبة الدينية، بل لا بد وأن يخضع لتلك الأسس الثابتة ،وأن قوله لا بدّ من عرضه على الكتاب والسنة وثوابتهما ، وليس له أن يحيد عنهما قيد شعرة ، فليس الحق والصواب ما أثبته الفقيه المجتهد ,وليس الخطأ والباطل ما رفضه ونفاه .وبالجملة فإن أوامر الفقيه وارشاداته وتوجيهاته ونواهيه لا تعني مقياس الحق والباطل والخطأ والصواب ، بل هي خاضعة للمقياس المذكور المستفاد من الثوابت العامة عند العقلاء والخاصة بالشرع والمتشرّعة المأخوذة من القرآن الكريم والسنة المطهرة ,فإذا كان قول الفقيه مخالفاً لتلك الثوابت كان مخطئاً لا يجوز الأخذ به والتعبّد بقوله المخالف ,فليس له الطاعة المطلقة حتى في صورة العلم بخطأ قوله ومخالفته للثوابت الآنفة الذكر ,لأن الطاعة بهذا الشكل لم تثبت للانبياء الذين ليس لهم أن يخرجوا عن دائرة تلك الواضحات الثابتة بالقطع واليقين ولا براءة لذمة المكلف إذا اعتمد رأياً مخالفاً لتلك المسلّمات الشرعية لأنه رأي مقطوع الخطأ والبطلان نهى عن متابعته الرحمن.
والحاصل أنه في المورد الذي يوجد فيه أمر الله وفرضه فليس لنبيّ أو وصيّ نبيّ أن يخالفه ويبدله فضلاً عمّن هو دونهما في المرتبة الدينية من العلماء المجتهدين ,وفي المورد الذي يوجد فيه أمر وفرض من الإمام -غير مخالف لأمر الرسول طبعاً -ليس للفقيه المجتهد أن يخالفه ويبدل فيه ، بل يكون رأيه المخالف لتلك الأوامر والفرائض مرفوضاً لأن كل اجتهاد يجب أن يخضع لتلك الثوابت وإلّا فهو مجرد استحسان وظنّ لا يجوز اعتماده.
قال الله تعالى “إنّ الظنّ لا يغني عن الحق شيئا”
ويشير إلى المعنى الذي ذكرناه ما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام”إن الله حرم حراماً وأحل حلالا وفرض فرائض فما جاء في تحليل ما حرم الله و في تحريم ما أحلّ الله ,فذلك ما لا يسع الأخذ به لأن رسول الله(ص)لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله واحكامه,كان في ذلك كله متبعاً مسلّماً مؤدياً عن الله وذلك قوله تعالى :إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ”.
فكان عليه السلام متبعاً لله مؤدّياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة…فما جاء في النهي عن رسول الله (ص) نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك ، وكذلك فيما أمرنا به لأنّا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم,ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (ص) فلا يكون ذلك ابداً لأننا تابعون لرسول الله (ص) مسلّمون له كما كان رسول الله تابعا لامر ربه مسلّماً له..).إنتهى موضع الحاجة من الحديث.
والخلاصة أن اقوال النبي والائمة عليهم السلام خاضعة لمقياس العرض على الثوابت فكيف بأقوال غيرهم من الفقهاء المفروض مسبقاً أن أقوالهم وأحكاهم مأخوذة منهم وعنهم ؟!,وفي الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال”خطب النبي (ص) بمنى فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته,وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله”.
ونستنتج من جميع ما سبق أن الحرام ما حرمه الله تعالى والحلال ما أحله ، وليس الحرام ما حرمه الفقيه والحلال ما أحله ، بل لا بد من عرض أقواله والفتاوى على ثوابت التحريم والتحليل عند الله سبحانه وتعالى فاذا كانت مخالفة لها تُرفض وتُردّ ، وليس للفقيه طاعة بمعزل عن طاعة الله وليس له طاعة فيما خالف فرائض الله من واجبات ومحرمات ، والإعتقاد بأنّ الفقيه هو مصدر التحليل والتحريم هو اعتقاد فاسد لا تشهد له من كتاب الله آية ولا من سنّة نبيّه رواية.
-بطلان الإعتقاد بأن الفقيه مصدر التحليل والتحريم
وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع)في اليهود والنصارى الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله قال الراوي”قلت له اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فقال (ع):”أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا لهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون ” وفي رواية أخرى:”والله ما صاموا لهم ولا صلّوا لهم ولكن أحلوا لهم حراماً وحرموا لهم حلالا فاتّبعوهم”.
والمستفاد من هذين الخبرين وغيرهما أن جملة من اليهود والنصارى كانوا يعتقدون أن الحلال ما أحله الرهبان والأحبار وأن الحرام ما حرموه ولم يعرضوا التحليلات والتحريمات الصادرة عنهم على الثوابت من حرام الله وحلاله فوقعوا في عبادة الأحبار والرهبان من حيث لا يشعرون فأدانهم وذمّهم الله تعالى في كتابه الكريم وندّد بهم وبتقليدهم الأعمى الذي لا يقوم على الأسس المعقولة والثوابت المنقولة! بل قام تقليدهم على أساس أنّ الصواب ما قالته الأحبار والرهبان وأحاطوهم بأطر التقديس والعصمة وعطّلوا عقولهم فيما تجاوزوا الثوابت وقالوا إنّ طاعتهم هي طاعة الله وأن معصيتهم هي معصية الله.
فكان أنْ وقعوا في المعاصي من حيث لا يشعرون وعبدوا غير الله من حيث لا يعلمون ،وهم عن ذلك مسؤولون.
لقد كان عليهم أن يعرضوا أقوال أحبارهم ورهبانهم على كلام الله وأحكامه المعلومة فيأخذون بالموافق لها ويطرحون المخالف ،لأن الخطأ والصواب اللذين تدركهما العقول لا يرتبطان بالأشخاص والعناوين والمقامات ! إنّهم جعلوا الباطل ما أبطله الرّهبان والأحبار والحق ما أثبتوه! إنهم حاولوا أن يعرفوا الحق والباطل والخطأ والصواب من خلال الاشخاص وعناوينهم ولم يحاولوا أن يعرفوا المقامات والأشخاص من خلال ثوابت عقولهم وشرعهم فوقعوا في المعصية فاستحقّوا بذلك التّنديد والذمّ والوعيد من الله سبحانه وتعالى.
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يشير إلى هذا المعنى والموضوع قال:
“إحذروا على دينكم ثلاثة”رجلاً قرأ القرآن حتى إذا رأيت عليه بهجته اخترط سيفه على جاره ورماه في الشرك,فقلت يا أمير المؤمنين أيّهما أولى بالشرك ؟:قال:الرامي ! ورجلاً استخفّته الأكاذيب ،كلّما حدّث أحدوثة كذب مدّها بأطول منها ! ورجلاً آتاه الله سلطاناً فزعم أن طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله ! وكذب لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ,لا ينبغي أن يكون المخلوق حبّه لمعصية الله ، فلا طاعة في معصيته ولا طاعة لمن عصى الله، إنما الطاعة لله ورسوله ولولاة الأمر، وإنما أمر الله بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهر لا يأمر بمعصيته ، وإنّما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهرون لا يأمرون بمعصيته)انتهى.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم -بدون سؤال واعتراض -يلزم أن يكونوا معصومين من الأمر بما يخالف أمر الله ورسوله.
والحاصل أن ما كان يفعله الأحبار والرهبان وأتباعهم من الذين عملوا على أن طاعتهم هي طاعة الله ومعصيتهم هي معصية الله! مع أن الحقيقة هي أنه لا طاعة إلّا لله ، وأقوال الرهبان والأحبار هي طريق إلى ذلك،فاذا انكشف خطأها وفسادها لم يكن جائزاً -في شريعة العقل والتي هي شرع الله الباطن- الإعتماد عليها! لقد عطّلوا عقولهم وأعطوها إجازة فوقعوا في الخطأ والباطل وهم يعتقدون أنهم مصيبون ، وبالحقّ يعملون ! وكانوا عن تحصيل الحقيقة من القاعدين وعن الثوابت غافلين مقصّرين ! فاستحقّوا ما نزل بهم وما أصابهم من خسران الدنيا والدين! قال الله تعالى”إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”سورة ق-٢٧-
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.أنظر أيها القارئ إلى قوله تعالى الذي وصفهم باتّباع (القول وليس القائل). نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين على الصواب في القول والعمل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مجلة أمل-الجمعة/١/ تموز/١٩٨٨/